صراحة نيوز – بعد أكثر من ألف و400 عام، تقف الإنسانية جمعاء مَديْنَة؛ لأسس قانونية عادلة، ومبادئ دستورية راسخة، وضعها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليست هوى ولكنها وحيًا، تقوم على احترام الآخر، وتنبذ العنف والتطرف، وتبني أجيالًا بعيدة عن الكراهية واغتيال الشَّخصية.
تُصادف اليوم، الخميس، ذكرى ميلاد سيدنا محمد عليه السَّلام، وفيها يقرأ الجيل الجديد سيرة مليئة بمبادئ قانونية، سبقت دساتير وقوانين دول عالمية بآلاف السنين، أسَّست للعدالة، وقبول الآخر، ونظَّمت حياة الإنسان وفق مبادئ راسخة، فرغم اتهامه وغيره من أنبياء الله بالجنون والسِّحر وحاولوا ازدرائه عدَّة مرات، إلا أنَّه بنى دولة قائمة على المساواة والعدل والتَّسامح، بقيت هي ولم يؤثر بها من اتهموه حتى اليوم ولم يستطيعوا طمس شخصية عظيمة في عين الأجيال المتعاقبة.
وحوى دستور المدينة المنورة، وهو أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، تمت كتابته فور هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، 52 بندًا، كلها من رأي رسول الله، 25 منها خاصة بأمور المسلمين، و27 مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى.
ودُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء، ووضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623 م.
الخبير في القانون والتَّشريعات الدكتور سيف الجنيدي قال، إنَّ الرسول محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، هو رسول كريم وقائد سياسيّ في آنٍ واحد، فقد أسسّت دولته في المدينة المنوّرة بموجب الدستور الأول – صحيفة المدينة -، والمتمعن لبنود هذه الوثيقة يجد بأنّ الدولة الأولى في الإسلام هي دولة مدنيّة ديموقراطيّة أرست قواعد المُواطنة في الدولة.
وأضاف أنَّ قواعد المواطنة حسب صحيفة المدينة ارتكزت على أركان تأسيسيّة هي، سلطة سياسيّة احتكرت القوى المنظّمة بموجب علاقة قائمة على المشورة مع مواطنيها بإعتباره نوعاً من أنواع الرِّقابة الشعبيّة، واستمدت هذه السلطة السياسيّة من شرعيتها الدينيّة وإدارة شؤون العامّة بما يحقّق مصلحتهم.
وبين، أنَّ الصَّحيفة جاء بها، “وأنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمد”، وهو ما يؤكّد أنّ الدولة في الإسلام ليست دولة دينيّة بالمفهوم الثيوقراطيّ.
وبين، أنَّ من مرتكزات دولة سيدنا محمد الأولى هي توحيد المجتمع وحفظ السّلم الأهليّ عبر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود وأحكام التّحالف الذي أخذ طابع التحالف العسكري للدفاع عن الأمّة، وإقرار التعددية الدينيّة في الدولة، وضمان العدل والمساواة في المجتمع الإسلاميّ، حيث جاء في الصحيفة “وإنّ المُتّقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم”.
كما نصَّت الصحيفة الدستورية القانونية على إرساء الحُكم المؤسسيّ والأخذ بمفهوم الشورى السياسيّة وتطبيق المناظرة السياسيّة للخلافة بعد الرسول الكريم عليه السَّلام.
وأكد، أنَّ العالم الإسلامي يحتاج إلى اتخاذ نهجين في سياق معرفي وثقافي في آن واحد للرَّد على قوى التطّرف في الإساءة للرسول الكريم محمد، الأول، يكون بالرد بخطاب حقوقيّ يستند إلى المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان والتي توافقت عليها الغالبية العظمى من دول العالم.
وأكد، أنَّ مثل هذا المنهج انتهجه مؤخراً المركز الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة وطنيّة رائدة بهذا المجال عبر بيانه الصّادر بتاريخ 27 تشرين أول، والذي أكّد بالاستناد إلى المواد 19،20 من العهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسيّة بأنّ “الإساءة للرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم تخرج عن إطار حرية التعبير عن الرأي المكفولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان”، وأنّ هذا الخطاب والأفعال بمثابة “دعوة إلى الكراهية القومية والعنصرية والدينية وتحريضًا على التمييز والعداوة والعنف. كما واستند البيان إلى إحدى التطبيقات القضائية للمحكمة الأوروبيّة لعام 2018م التي “أكدت على خروج الإساءة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن حدود حرية التعبير”.
وبين ضرورة الحاجة إلى خطاب حقوقيّ واع ومتّزن يسلّط الضوء على الممارسات المتطرّفة تجاه الأمّة العربيّة والإسلاميّة، وما يقتضيه هذا من تعزيز القيمة المعنويّة لمثل هذه المؤسسات؛ للنّهوض بأدوارها الوطنيّة.
ولفت إلى أنَّ المنهج الثاني يكون بإبراز مفهوم وعناصر الدَّولة في عهد الإسلام الأول، ونتعلّم في المعاهد والكليات القانونيّة والسياسيّة مبادئ جان جاك روسو حول مفهوم العقد الاجتماعيّ، ومبدأ الفصل بين السّلطات الذي طوّر مونتسكيو في كتابه “روح القوانين”، ونصاب بالذهول بعمق مدلولات نظريات أرسطو التي تعود إلى ما قبل الميلاد، لكنّ لم يتم التعمّق في فهم الجذور التاريخيّة لمفهوم الدولة في الإسلام، حتى أضحينا بمنظور شعوب العالم أمم دخيلة على الحضارة، وهو ما ينافي حقيقة الواقع الثّابت، ويحتاج هذا إلى البحث في الأسباب والدوافع، فأيّ أمّة تتقطّع صلاتها بالتّاريخ ستحيا بأوصال مقطّعة فمن لم يعش الفترات الإيجابية من التاريخ الإسلامي ولم يجد له أفقًا سيشكو من أزمة ثقة بالمستقبل.
وبين عميد كلية الشَّريعة في الجامعة الأردنية الأستاذ الدكتور عدنان محمود العسَّاف لوكالة الانباء الاردنية (بترا)، أنّ كل التشريعات التي جاء بها سيدنا محمد عليه السلام لم تكن عن الهوى بل كانت وحيًا ربانيًا في الكتاب والسنة، وهذا سبب حضاري في النَّجاح الذي حققه عليه السَّلام منذ البداية وانتشار الإسلام في مساحة واسعة وفي أقل من قرنين من الزمان.
وأضاف أنَّ هذه القوانين الاسلامية كانت سببًا في نشوء حضارة تمتاز بالإنسانية والسماحة والتعددية وقبول الرأي الآخر وإعطاء الحريات التعبدية والاعتقادية، فمن وافق في الإسلام فهو أخ لجميع المسلمين ومن كان له دين، فله الحرية التعبدية والاعتقادية كما يشاء داخل الدولة الاسلامية، وكانت الحضارة الاسلامية مزيج من الطَّاقات لمختلف الشعوب والأديان وأتباع الأديان المختلفة، وهذا الهدي جاء به سيدنا محمد عليه السَّلام.
وبين أنَّ الحضارة الإسلامية هي دليل على صدق نبوة الرسول وانَّه على خلق عظيم، وأنها نشأت وأقيمت على الوسطية بين التشدد والإفراط والتفريط والتساهل، وتمتاز بالاستقامة والأفضلية والخيرية والبينية وانتهاج ما فيه خير الإنسانية على مستوى الفرد والجماعة، وقائمة على التسامح.
ولفت إلى أنَّ الأخلاق هي الأساس في الوحي والعقيدة والقوانين الإسلامية، وهذا ظاهر في أفعال الرسول ودولته والتاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية.
وأشار إلى أنَّ الخلافات كانت تظهر في زمن الرسول بسبب المصالح الدنيوية، فكان المنافقون يكيدون للرسول الكريم، لأنَّه خالف مصالحهم في السِّيادة والزعامة، وبالتالي كانت زعامته مؤرقة لمصالحهم في المدينة المنورة.
وقال إنَّه وبالرغم من كل هذه الكراهية إلا أنَّه قابلها بالعفو رغم أنَّه قادر على فعل ما يريد، وهو القائل: ما زاد الله إمرء بعفو إلا عزا، وبالتالي كما قالت عائشة رضي الله عنها بأنَّ خلقه كان القرآن، والله تعالى يقول: وإنَّك لعلى خُلق عظيم.
وبين أن توازن شخصية الرَّسول وهيبته ووقاره وقوة شخصيته وتأييده من الله وعدالة الرسالة التي كان يتعامل مع الأحداث كلها جعلته يتغلب على خطاب الكراهية ويوحد الناس، وكان عفوه عن أهل مكة كبير أدخل النَّاس بعده بالإسلام.
ونوه إلى ضرورة الاستفادة من سماحة النبي عليه السَّلام في هذا الزَّمن الذي أصبح فيه العالم قرية واحدة والمصالح المتبادلة كثيرة على المستوى الاقتصادي والثقافي والأمني، ومصالح أخرى لدفع المضار عن هذا الكوكب من مشاكل بيئية وأمنية وتطرف.
وأضاف أنَّ من يخطئ يجب عدم السكوت عليه، لكن يتم الحل بالطرق القانونية والحضارية والأخلاقية، أما فتح باب الإساءة بالإساءة، فهذا يفتح الباب لمزيد من الإساءات، ونتائج لا تحمد عقباها الجهات كافة، وعلى الجميع أن يلتزموا بنهج الرسول وقيمه وأخلاقه.
وقال إنَّ المشاكل بين الدول تُفض بالقانون وتدخل العلماء وبأسلوب عقلاني، وتأسيس الأجيال الطيبة التي تحمل الفكر الإيجابي والتي تعي الأولويات واحترام المقدسات والأنبياء، والاختلاف العقدي والتعددية الدينية لا يُقبل أن تنعكس إلى عدائية اجتماعية، وهناك فرق بين المعتقد والاجتماع، فالمعتقد هو حق لكل إنسان، أمَّا الاجتماع بين النَّاس والذي يتبادلون فيه المصالح والثَّقافات، فعليهم هنا أن يكونوا إيجابيين، يحترم بعضهم بعضا حتى تكون المصلحة للجميع.
ولفت إلى أن الاسلام دين عظيم، فلا إكراه فيه، والإسلام للمسلمين ملزم ولغير المسلمين غير ملزم، وقد حكم المسلمون أصقاعا كثيرة في العالم، وهناك من تغيرت ديانته، ومنهم من بقي رغم أن بعضها تمَّ حكمه إسلاميًا لمدة ألف عام.
الخبير في القانون الدستوري بجامعة اليرموك الاستاذ الدكتور كريم كشاكش قال لوكالة الانباء الاردنية (بترا)، إنَّ أهمَّ نصٍّ دستوري ديمقراطي جاء في القرآن الكريم هو مبدأ الشورى، ورسَّخه سيدنا محمد عليه السَّلام بكلِّ أركان دولته وبناه لَبِنَة لَبِنة، وأكمل على هذا المبدأ كلُ من جاء بعده جيلًا بعد آخر.
وأضاف أنَّ النبي عليه السَّلام منح الحقوق والحريات العامة في الإسلام، وقد سبقت هذه الأسس القانونية والحقوقية كلَّ المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وبقيت صالحة لكل زمان ومكان، ولم يُقصِ أحدًا، وكان رده على المستهزئين والمتهِمين له بأخلاقه بالعفو رغم مقدرته؛ ليرسِّخ مبدأ هامًا ألا وهو الأخلاق العظيمة التي يمتاز بها الإنسان الصَّالح وأنَّها هي من تبقى وتدوم وتبني الأجيال بعيدًا عن الكراهية ونبذ الآخر وقتله دون وجه حقِّ.
وأكد أنَّ النبي محمد عليه السَّلام، طبَّق مبدأ المساواة في الدولة، وحفظ العهود والحقوق لكل من يقيم عليها، ومنح الحرية للإنسان، وحدد آلية التعبير عبر الحوار والنقاش .
ونوه إلى أنَّ سيدنا محمد عليه السَّلام واجه تحديات كبيرة جدًا وخصوصًا من أعداء الرسالة السَّماوية، ولكنه فرض مبدأ أنَّ الرسالة التي يحملها هي للجميع، وأنَّها تحتاج إلى الصَّبر والثَّبات، والذي أثمر بعد كل هذه القرون ببقاء كل هذا الحب للنبي محمد عليه السَّلام ونهجه وعدالته وتسامحه.
رئيس المركز الإسلامي في جامعة آل البيت الاستاذ الدكتور بكر بني ارشيد، قال لوكالة الانباء الاردنية (بترا)، إنَّ الاتهام بالسِّحر والجنون لم يقتصر على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل شمل الأنبياء جميعًا، وهذا ما أخبر الله عز وجل به نبيه محمدًا وهو يقص عليه قصص إخوانه الأنبياء عليهم السلام، فقد قال تعالى في سورة الذاريات: (كذلك ما أتى الذين من قبلك من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون).
وأضاف أنَّ الله سبحانه وتعالى أخبر نبيه بأن هذا منهج “الظالمين والمكذبين” من الأمم، وكأنهم تواصوا به، وبين الله لنبيه أنهم لم يتواصوا به، بل يفعلون ذلك لأنهم قوم طاغون، ومنهج التعامل معهم هو التولي عنهم وعدم الاكتراث بما يقولون، والخطوة الأهم ما جاءت بها الآية 55 من الذاريات بعد هذه الآيات والتي أمرته أن يقوم بتذكير الناس، وأنَّ الذكرى تنفع المؤمنين، وهو عدم تأثيرهم على مسار الدعوة.
وأكد أنَّ آيات عديدة جاءت بالثَّناء من الله على نبيه، ونفى عنه كلَّ تُهم المبطِلين، وأنَّه ليس شاعرًا ولا كاهنًا ولا ساحرًا ولا مجنونًا، وأنَّ وظيفته هي البلاغ وعدم الاكتراث بما يقول هؤلاء، وبالفعل أكرمه الله وأعلى شأنه وأبطل ما يقوله الأعداء، وانتصر دينه الحق.