ادارة الدين العام …أبرز التحديات المستقبلية

30 يوليو 2020
ادارة الدين العام …أبرز التحديات المستقبلية

صراحة نيوز – بقلم د.محمد أبوحمور
وزير مالية سابق

سارعت العديد من دول العالم لتبني حزم ضخمة لتحفيز اقتصاداتها وسعياً الى مواجهة تحديات جائحة كورونا، وفي خضم ذلك تم التغاضي عن الارتفاع غير المسبوق في مستويات الدين العام ،حيث يعتقد البعض أن المهم حالياً هو تحقيق التعافي والخروج من الازمة التي يعانيها الاقتصاد العالمي، ولكن خلال الفترة الاخيرة برزت العديد من الاصوات التي تشير الى احتمالية تشكل أزمة خطيرة ما يعني ضرورة العمل على اعداد استراتيجية ملائمة للتخفيف من المخاطر المستقبلية المحتملة لتراكم الدين.
وتتوقع دراسة لمعهد التمويل الدولي أن يرتفع حجم الدين العالمي، وهذا يشمل القطاع العام والقطاع الخاص والعائلي، خلال العام الحالي لتبلغ نسبته 342% من الناتج الاجمالي العالمي، ولنا أن نتخيل ما الذي قد ينجم نتيجة بلوغ الدين لما يتجاوز ثلاثة أضعاف الناتج العالمي، وتتوقع وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن يترتب على الازمة الحالية عجز مالي عالمي يقدر بحوالي 12% من الناتج الاجمالي العالمي.
من جانبه أشار نائب صندوق النقد الدولي الى ” أن الصندوق يساوره القلق حيال ارتفاع مستويات الدين في الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على حد سواء ، وأنه سيحث الدول على مباشرة الاصلاح المالي عند اجتياز الجائحة، حيث انه وفور عودة الاقتصاد الى مساره يجب وضع اطار مالي متوسط الى طويل الاجل لادارة الاوضاع المالية العامة على أساسه وسيكون ذلك احدى الاولويات القصوى ضمن توصياته، خاصة وانه وللمرة الاولى على الاطلاق أصبح من المتوقع أن يتجاوز الدين العام العالمي مستوى الناتج المحلي الاجمالي المجمع بعد الاجراءات التي اتخذتها الحكومات في مواجهة الازمة الصحية” .
وفي ذات السياق أكدت كبيرة الخبراء الاقتصاديين في صندوق النقد أن دولاً كثيرة ستحتاج الى اعادة هيكلة الديون في أعقاب جائحة فيروس كورونا العالمية وتداعياتها الاقتصادية ، وبالرغم من عدم وجود أزمة ديون في الوقت الراهن الا أن هناك حاجة ملحة لتخفيف أعباء ديون الدول الاكثر فقراً.
وحسب تقرير لوكالة موديز للتصنيف الائتماني فان الازمة الحالية سترفع مستويات الدين في الدول المتقدمة بما متوسطه 20 نقطة مئوية خلال العام الحالي، ومقارنة مع الازمة المالية فان ارتفاع عبء الدين سيكون على نطاق واسع وبشكل فوري ما يدلل على عمق واتساع حجم الصدمة التي سببنها جائحة كورونا.
كما أصدر صندوق النقد العربي ورقة حول ” مخاطر الدين العام في ظل أزمة فيروس كورونا المستجد” وبين فيها ان الدين العام يحظى بأهمية بالغة على مستوى سياسات المالية العامة باعتباره احدى الوسائل المتاحة لتجاوز الازمات الاقتصادية ، الا أنه من الضروري ضمان الحفاظ على مستوى الدين العام في نطاق امن مع الحرص على تقليص الاعباء المترتبة عليه في المدى المتوسط والطويل. خاصة وأن التداعيات المرتبطة بفيروس كورونا المستجد قد فرضت تحديات جمة على أوضاع المالية العامة في الدول العربية.
فمن ناحية شهدت مستويات الإنفاق العام ارتفاعاً ملموساً ، في ظل التزام الحكومات العربية بتبني حزم تحفيزية لتنشيط الاقتصاد وتخفيف الآثار السلبية لانتشار الفيروس، ومن ناحية اخرى فقد تراجعت مستويات الإيرادات العامة بشكل حاد نتيجة فقدان جانب من الإيرادات الضريبية والنفطية نتيجة لتراجع النشاط الاقتصادي وانخفاض الاسعار.
وكما هي الحال في مختلف دول العالم يواجه الاردن اليوم مصاعب وتحديات اقتصادية ومالية من أبرزها ارتفاع مستوى الدين العام ليتجاوز قيمة الناتج المحلي الاجمالي ، وفي هذه المقالة نحن لسنا بصدد الحديث حول التحديات ولا حتى لتناول تفاصيل ومؤشرات الدين العام فقد تم التطرق لذلك في مقالات سابقة، حيث أن ماهو مطروح هنا يتعلق بمواجهة الاثار المستقبلية للدين في مرحلة ما بعد كورونا، وهذا التحدي لا يقتصر على القطاع العام فقط بل يشمل القطاع الخاص ايضاً، فالقروض الميسرة والضرائب المؤجلة سياتي يوم تكون مستحقة فيه ولا بد من سدادها، لذلك فالاستعداد لما هو قادم مهمة تشمل مختلف القطاعات ولا تقتصر على جانب دون اخر، وتعاضد الجهود في مواجهتها تشكل عاملاً حاسماً في النجاح، ونحن في الاردن كنا أصلاً نعاني من ارتفاع نسبة الدين العام وتواضع نسب النمو الاقتصادي قبل حلول جائحة كورونا وهذا يستلزم جهوداً مضاعفة في هذا المجال، فمهمتنا ليست سهلة فهي تتطلب مواصلة العمل على تحفيز الاقتصاد بكل السبل المتاحة مع عدم السماح بالتاثير على الاطار المستدام للمالية العامة والحفاظ على مستويات الدين العام ضمن السيطرة، وللانصاف لا بد من الاشارة الى ان الحكومة قامت ببذل جهود واضحة في مجال مكافحة التهرب الضريبي والجمركي ومكافحة الفساد والتزمت بعدم زيادة الاعباء الضريبية أضافة الى اجراءات اخرى متعلقة بالسياسة المالية والنقدية، ولكن لا بد من مواصلة هذه الجهود واعتيارها نهجاً دائماً وليس مؤقتاً، ولا زالت الحاجة قائمة لترشيد الانفاق وتوجيهه نحو الاولويات وغيرها من الاصلاحات المطلوبة لتحسين الادارة المالية بشكل عام ، باعتبار ان الدين العام ما هو الا انعكاس للسياسات المالية ونتائجها، ومن غير المسموح أن تصبح جائحة كورونا شماعة لعدم القيام بما يلزم لتحفيز الاقتصاد وتحسين البيئة الاستثمارية، أو للتهرب من المسؤوليات ولا حتى لتاجيل الاجراءات والقرارات التي لا بد منها لتعافي الاقتصاد.
ولعله من المفيد الاشارة الى أن الأردن قد أصدر خلال الربع الثاني من هذا العام، سندات اليوروبوند، بأسعار فائدة بلغت 4.95 % للسندات بأجل استحقاق خمس سنوات بقيمة 500 مليون دولار، و5.85 % لشريحة ثانية من السندات بأجل استحقاق 10 سنوات بقيمة 1.250 مليار دولار، وهذا الاصدار وان كانت هناك بعض الانتقادات المتعلقة بارتفاع نسبة الفائدة، الا انه سيساهم في تغطية بعض الالتزامات المترتبة على الخزينة العامة وسداد قروض سابقة كما انه يشير الى ان المملكة لا زالت تتمتع بقدرة على الاقتراض من الاسواق العالمية، وبهذا الصدد لا بد من الاشارة الى أن الادارة السليمة للدين العام تشكل عاملاً حاسماً من عوامل الاستقرار المالي والنقدي والاقتصادي، وهي التي يمكن ان تؤمن القدرة على استدامة الدين العام ومواجهة اعبائه في مختلف المراحل، ومن المهم أن تهدف هذه الادارة الى تقليص أعباء الدين والحد من التعرض للمخاطر والتأكد من القدرة على تلبية الاحتياجات التمويلية وحسن استخدامها مع تحمل ما يترتب عليها من أعباء.

يعتبر بناء استراتيجية ملائمة ركناً أساسياً في ادارة الدين العام ، على أن تتضمن أهدافاً واضحة وقابلة للتنفيذ ترتبط بأنشطة الدين العام في المدى المتوسط والطويل، وفي هذا الاطار تعتبر الغايات والاهداف المحددة لادارة الدين العام أساساً لتطوير الاستراتيجية ومقياساً مرجعياً لعمليات التقييم والتحديث المستمرة، ومن المهم أن تتضمن الاستراتيجية وصفاً للمخاطر المختلفة وسبل التعامل معها والتوقعات حول المستجدات المستقبلية لادارة الدين وتحليلاً لمكونات محفظة الدين وما قد يترتب على كل ذلك مستقبلاً، هذا بالاضافة الى ايلاء اهتمام مناسب بما قد يطرأ من ظروف تتطلب اعاده هيكلة المديونية وتنظيمها سواءً عبر اعادة الجدولة أو اعادة التمويل وامكانيات تخفيض الدين او مبادلته باستثمارات وكذلك السعي لتخفيض الكلف والاعباء وفترات واجال الاستحقاق، ولا بد أيضاً من التأكيد على أهمية دور الاجهزة الرقابية في تقييم ومتابعة مدى التقيد باستراتيجية ادرة الدين العام بما في ذلك مراقبة انشطة الاقتراض والتأكد من توافقها مع التشريعات ورقابة التقارير والبيانات التي تصدر بهذا الشأن.
قامت وزارة المالية بالتنسيق مع البنك المركزي الاردني ووزارة التخطيط والتعاون الدولي باعداد استراتيجية متوسطة المدى لادارة الدين العام للفترة 2016- 2020 وهي وبالرغم من انها مختصرة الا انها منشورة ، وعملياً لا يوجد ما يؤكد أو ما يشير الى ان هذه الاستراتيجية قد تم تحديثها أو تقييمها خلال السنوات الماضية، كما أنه من الواضح ان أغلب الاهداف والمؤشرات لم يتم تحقيقها، الا أنه وفي ضوء الظروف المستجدة تستطيع وزارة المالية بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة ان تعمل على اعداد استراتيجية جديدة طويلة المدى لضمان التعامل الكفؤ مع التحديات المتوقعة خلال السنوات القادمة وبحيث تنسجم مع الاجراءات الاصلاحية التي قد تعتمد وبما يتوافق مع المؤشرات التي قد تستهدفها تلك الاجراءات، ولعله من المفيد التذكير بأهمية الشفافية في التعامل مع هذا الامر وبحيث يتم أعادة اصدار النشرة الربعية للدين العام التي لا يوجد ما يشير الى صدورها منذ بداية العام الحالي، ولكي لا تتكرر تجربة التوقف عن اصدارها كما حصل عام 2014، فالدين العام

ومؤشراته المختلفة موضع اهتمام مختلف الفئات المجتمعية والقطاعات الاقتصادية، ومن حق المواطن ان يكون على اطلاع حول مختلف التفاصيل المتعلقة به ، تماماً كما أن من واجب الاجهزة الرقابية التأكد من أن الاستراتيجيات والاهداف التي يتم وضعها، تنفذ على أرض الواقع بكفاءة وبما يخدم المجتمع والاقتصاد الوطني.

الاخبار العاجلة