صراحة نيوز – كتب سمو الأمير الحسن بن طلال
بدأت العام الجديد بزيارة إلى مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين. وأردت أن تكون بداية العام رسالة إنسانية أحملها متسائلا: إلى متى ستستمر هذه المأساة الإنسانية التي طال أمدها، بل إنها مأساة تعدَّدت لتشمل معاناة أشقاء آخرين من سوريا واليمن والعراق.
هنا أقول ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إننا أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى مشهد فكري حيوي جديد يساعدنا في العثور على الوصفة التي تُعيننا لالتئام جروحنا الغائرة، والاقتراب من آمالنا وتطلعاتنا نحو تمكين الإنسان العربي من المواطنة، وتحقيق مفهوم الأمن الديمقراطي الإنساني، وكذلك الاقتراب من مفهوم النماء من خلال العمل على صون كرامة الإنسان في عالم يواجه تحديات الصراع المتمثلة في كون البشر ضد بعضهم البعض، أو بالأحرى الإنسان ضد أخيه الإنسان، والإنسان ضد عوامل الطبيعة كالجفاف والتصحُّر، ثم الكوارث التي يتسبب بها الإنسان نفسه.
لقد شكَّلت التحديات العابرة للعقود في عصرنا الحالي الدوافع الأساسية لنداء كان لي شرف المشاركة في توجيهه إلى الأمم المتحدة مع ثماني وعشرين شخصية من أنحاء العالم، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، للمطالبة بنظام إنساني عالمي جديد ضمن ما يسمى اليوم بأهداف التنمية المستدامة.
إن إصلاح ذواتنا وتنشئة شعوبنا على ثقافة حقوق الإنسان وقيم التسامح والإيثار واحترام الآخر، وتوظيف المشترك من القيم الأخلاقية والتعايش الحضاري المسالم بين مختلف الثقافات والأجناس والمعتقدات، كل ذلك يمكِّن من فتح آفاق رحبة للمشاركة في العمليات الإنمائية الإيجابية، والعمل على سيادة ثقافة الحوار في مفهومه الدقيق الواضح الجدّي العقلاني، والقائم على النية الخالصة والرأي الحرّ والكلمة الصادقة والصدر الرَّحب.
نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى رؤية جديدة قادرة على ضخّ أسئلة حول الذات العربية وعلاقتها مع نفسها ومع الآخرين، ومع العالم أجمع. إنَّ حماية الهوية العربية والحفاظ عليها في القرن الحادي والعشرين لا يعنيان مطلقا التقوقع أو التحوصل. وهنا تحضرني مقولة غاندي الشهيرة “إني لا أريد أن أبني أسوارا حول بيتي كي تحجب عني رياح الثقافات الأخرى، لكنني أريد أن أفتح كل نوافذ بيتي لكل رياح ثقافات العالم، بشرط ألا تقتلعني هذه الرياح من بيتي”.
آن الأوان لدحض نظرية المؤامرة التي طبقت في اتفاقيات سايكس بيكو والاستعمار القديم وعدم السماح للاستعمار الجديد الذي يغافلنا بالتخطيط لنا
إنّ الثقافة التي ندعو إليها ليست مجرد كتاب أو مقالة، وإنما هي الثقافة التي ننشدها نمطا وسلوكا ورؤية باستخدام لغة “الاقتراب من الواقع″ أو استخدام “السوسيوغرافي”؛ بمعنى القدرة على تصوّر وضع المجتمع العربي في المواقع المختلفة من خلال منظور تنموي شامل وثقافة الاستدامة التي ترتكز على مصفوفة من القيم والعادات وأساليب المعيشة، والتي تعتبر الإنسان محورا للتنمية الشاملة وأهدافها.
إن التئام الجروح رحلة وليس حدثا بعينه؛ فهذا الالتئام يتطلَّب أن نُفعِّل ونمكِّن اللاجئين والمقيمين في الأردن، أو في أي مكان آخر من المشرق العربي، ولا سيما تلك الأمكنة التي مزقتها الحروب والصراعات دونما تمييز. كما يتطلب ذلك منّا أن نستمع ونمنح ونسامح. لقد غيَّرت النزاعات التي عصفت بالمشرق العربي وأعادت ليس فقط تشكيل الجغرافيا السياسية، ولكن التركيبة الاجتماعية والنفسية للمنطقة أيضا. فلا أحد يذهب إلى أرض المعركة ويعود كما كان من قبل.
كم أرّقتني تلك المشاهد التلفزيونية التي أظهرت معاناة نسائنا وأطفالنا من المشرق العربي، وهم يقاسون الأمرّيْن بعيدا عن حدود بلادهم، وبحثا عن ملاذ آمن وحياة كريمة. ويؤرّقني بالمثل بل أكثر من ذلك التفكير بأوضاعهم عندما يعودون إلى بلادهم التي مزقتها وعبثت بها الأزمات الرهيبة ونَخَرَ في كيانها سوس الطائفية والكراهية، بعد أن كانت تلك المدن مراكز حضارية ومنارات علم.
إنّ القيم التي تُشكِّل عماد أي مجتمع مدني ودولة حديثة قابلة للحياة هي المواطنة المسؤولة، وتفعيل العقد الاجتماعي العربي على أساس احترام حق الحياة وحق الأجيال القادمة بحياة كريمة ومستقبل آمن.
نحن بحاجة إلى تدعيم فكرة المواطنة التي تقوم بالتأصل على أرض الواقع وفي نسيج كيان الشعب، وبحاجة إلى الولاء الحقيقي للوطن العربي، والالتزام بخدمة الصالح العام، كما تفرض المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بعيدا عن الاختلاف في الدين أو اللون والعرق والجنس أو الموقف السياسي، فتتحقق بذلك المشاركة الحرّة والمسؤولة للمواطن في نهوض المجتمع.
ومن أجل إعادة ترتيب البيت المشرقي العربي، نحن بحاجة إلى تعزيز الصمود في وجه التحديات والنضال من أجل الأوطان والاستمرار في تفعيل الدور الحضاري الذي قام به العرب في تاريخهم الممتدّ، وهو الدور الذي يؤمّل أن يعاودوه اليوم. ولا بد من العمل على تنمية المعرفة الصحيحة بنهضة الشرق المتجذّر في الحضارة الإنسانية وحكمة الإشراق المنبعثة من منطقتنا، والتي ساهمت في القدرة على الانسجام والتآلف والانعتاق من الفكر الظلامي، والانطلاق نحو الفكر التنويري، وإدراك معاني التغيير الحقيقي بالنسبة للذات والآخر، كما ساهمت في التجديد والإبداع. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إعادة بناء الثقة المجتمعية التي دمّرتها الصراعات الطائفية التي عصفت بالمنطقة مؤخرا.
يفرض ذلك أيضا أهمية الإدراك الصادق والعميق للأولويات والعمل على صون كرامة الإنسان. وفي هذا الصدد يحدونا الأمل في أن تكون كرامة الإنسان هي محور أي استراتيجية جديدة، لأن هذه الكرامة هي أساس الأمن والأمان وتحمل بين طياتها مفتاح إعادة الاستقرار للمشرق. فلا يمكن أن تتوافر لهذا المشرق العربي دعائم الاستقرار إلا إذا كنا متساوين في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، دون تمييز بيننا، مع الالتزام بالواجبات والتكاليف العامة.
نحن الآن على مفترق طرق، فإمّا أن نرسِّخ قيم التعددية والتنوع، وإمّا أن نستمر في بناء الجدران التي تفصل الثقافات والناس وتُفاقم الطائفية، وتزيد من الفُرقة والانقسامات، وتعتدي على إنسانيتنا المشتركة. وهذا لا يتحقق بالثورة الصناعية فقط، كتلك التي حدثت في الغرب؛ لأن مثل هذه الثورة ليست إلا تطورا ماديا، لا أخلاقيا، ونحن بحاجة أكثر إلى نهضة أخلاقية تتوازى مع التطوّر والتقدّم في المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها. نهضة يكون مصدر إلهامها خطاب النهضة العربية التي قادها الشريف الحسين بن علي، والتي كان تركيزها على الهوية العربية المشرقية “نحن عرب قبل موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام”، وكانت دعوتها للمساواة بين عناصر الأمّة كلها.
ولا ننسى أن الوجود الإسلامي والعربي عبر قرون طويلة من الزمان في القدس عزَّز من هذه المفاهيم جميعها، وأبقاها حيَّة في نفوس أهل القدس لتسمو فوق السياسة، وتبقى رمزا روحيا للأديان جميعها. لذلك لم يكن مستغربا أن يكون الارتباط بين النهضة العربية والقدس ارتباطا طبيعيا تمثَّل في زيارة الشريف الحسين بن علي للقدس عام 1915، واستقباله الحافل حينذاك من قبل أهل بيت المقدس بمختلف طوائفهم.
لا شك أن حجم التحديات والمخاطر التي يواجهها المشرق العربي يحتم التكاتف والعمل الجماعي، ويؤكد أهمية التكامل بين دول الإقليم من أجل إيجاد عوامل مشتركة ضمن قطاعات المياه والطاقة والبيئة والتعليم والصحة، وتحويل المشتركات الخلاقة إلى فرص للتنمية تقوم على أساس بناء الثقة على المستويات كافة. ويجب علينا أن ندرك أن التنمية المستدامة التي ننشدها لن تتحقق في غياب قاعدة معرفية إقليمية إنسانية ومكانية.
لقد علمتنا التجارب أن الانكفاء على الذات وغياب العمل المشترك أديا إلى ما نحن عليه من فوضى وتشظٍ وعنف، أصبحت ظاهرة في توصيف مجريات الأمور وتطوراتها في المنطقة. ولا بد في هذه المرحلة من تعريف الأولويات والرجوع إلى الأساسيات، فالحفاظ على كرامة الإنسان وتحقيق التنمية العادلة المتوازنة في الإقليم أمران متلازمان، حيث يواجه سكان الإقليم مصفوفة من التحديات غير المسبوقة، تشكِّل أزمة وجودية وتتطلب تضافر الجهود من أجل رفع القدرة الاحتمالية للإقليم في إطار الاستجابة لهذه التحديات.
ولقد عمل الأردن جاهدا لاحتواء التبعات الإنسانية للصراعات التي اجتاحت المنطقة وبخاصة موجات اللجوء المختلفة. وعقد الاتحاد الأوروبي والأردن اتفاقا عالميا للمساهمة في دعم الجهود الأردنية واتفاقا آخر يعرف بـ”عقد لندن” لدعم الجهود التي تقوم بها الدول المضيفة للاجئين، فيما صادقت حوالي 162 دولة على الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية للهجرة في المؤتمر الحكومي الدولي الذي عقد في مراكش الشهر الماضي.
وبنظرة شمولية لهذه الاتفاقات العالمية الثلاثة، فإن الأردن يسعى من خلالها للانتقال من الدعم الإنساني إلى الجهد الإنمائي وذلك عن طريق التشبيك والتواصل مع دول المشرق العربي والعالم الخارجي. وهنا لا بد من الإشارة أيضا إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية والتي تسعى إلى إعادة التواصل العالمي الذي كان تاريخيا يسمى بـ”درب الحرير”. ولا يفوتني أن أذكر دور الجامعة العربية والمجلس الاقتصادي الاجتماعي لغرب آسيا وأهمية أن يتحول هذا العطاء المؤسسي إلى مجلس اقتصادي واجتماعي مغروز في المنطقة يعبِّر منها للعالم عن أولويات المنطقة وشعوبها. وعلى الأردن أن يتواصل مع كل تلك المبادرات وكافة الأطراف للحفاظ على استقراره ولإعادة بناء وتطوير المشرق العربي والانتقال إلى النهضة الجديدة المرجوة.
ويعني ذلك حكما ضرورة مراجعة وضع الأمن الغذائي والحالة المائية لسكان المنطقة. وأشير في هذا المجال إلى أهمية تحقيق غايات الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة “تصفير الجوع″ بحلول عام 2030، واكتشاف العلاقة بين هذا الهدف والمتغيرات الإقليمية والسلم؛ إذ يواجهنا السؤال: كيف نستطيع أن نجسِّر بين مفهوم الجوع والنطاق الأشمل المكوَّن من الأساسيات الخمس لبناء كرامة الإنسان؟ أعني بذلك الغذاء والمياه والتعليم والصحة والملاذ الآمن، التي تعني بالمفاهيم البسيطة الزراعة والطاقة والبنية التحتية. فنحن نتحدَّث عن استدامة شعبنا على هذه الأرض دونما تمييز، وعلينا أن نتنبه إلى أهمية اختيار خصوصياتنا ضمن أولوياتنا في هذه المجالات.
إنَّ منطقتنا زاخرة بالطاقات البشرية المبدعة والقادرة على مواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص للنماء، كما تزخر المنطقة بالموارد الطبيعية التي ينبغي إدارتها وفق هدف إصلاح الخلل بين الإنتاج ومعدل الاستهلاك. وثقتي كبيرة بالأجيال القادمة وقدرتها على مدّ الجسور، وإعادة إحياء الهوية المشرقية، وفتح قنوات المعرفة بين الفئات المختلفة، وبالتالي إقامة أركان السلم الاجتماعي على مبدأ الصالح العام وعدم الإقصاء، والتعامل مع الثقافة على أنها أمن وقائي يستند إلى أخلاقيات التضامن الإنساني، والعدالة الاجتماعية، ودولة القانون والمؤسسات، وفلسفة التآزر والتكافل والحوار وقبول الآخر، والتنوع بكل أشكاله وألوانه.
أختم بالقول إن ما أقوله ليس جزءا من الخيال، بل هو قابل للتحقيق والإنجاز؛ لقد آن الأوان لدحض نظرية المؤامرة التي طبقت في اتفاقيات سايكس بيكو والاستعمار القديم وعدم السماح للاستعمار الجديد الذي يغافلنا بالتخطيط لنا. علينا أن نأخذ زمام المبادرة وأن نمتلك الرؤية الناظمة النابعة من الإقليم ومن ثَمَّ إلى العالم، وليس العكس، كي نتمكن من الخروج من دائرة التّأثر بمصالح الآخرين إلى دائرة التأثير بأولوياتنا العربية، ومن تحويل المشتركات المبدعة إلى فرص للتنمية تقوم على أساس بناء الثقة. دعونا نَسْعَ معا من أجل إحياء “نهضتنا الجديدة” ومفتاح نجاحها هو الإنسان والسياسات التي تكون كرامة الإنسان هي محورها.
والله من وراء القصد.