صراحة نيوز – قام الزميل احمد ذيبان رئيس تحرير أغوار نيوز باجراء استطلاع للوقوف على واقع الصحافة الورقية في الاردن .
نتائج الاستطلاع الذي اجراه الزميل ذيبان كانت صادمة اذا قال نحو 95 % من الذين شملهم الاستطلاع انهم لم يشعروا بغيابها خلال عطلة عيد الأضحى المبارك حيث عمدت ادارتها الى حجب صدورها خلال فترة العطلة التي امتدت اربعة ايام ما يشي الى ان الصحف الورقية في الاردن باتت في النزع الأخير .
تاليا الاستطلاع الذي اعده الزميل ذيبان
تحليل لنتائج استطلاع ..الصحافة الورقية وخطر الانقراض !
ولنتمعن مثلا في بعض الاخبار التي نشرتها الصحف اليومية صباح الخميس 15/8 ، إثر عودتها للصدور بعد انتهاء عطلة العيد، فبعض تلك الاخبار فقد قيمته الخبرية ، ومضى على وقوع الحدث عدة أيام، لكن تجمد سقف تلك الصحف ، وعدم الجرأة في كسر “التابوهات” يجعلها مادة للتندر والتهكم ! فعلى سبيل المثال نشرت الصحف يوم الخميس” 15 أب” خبرا مضى على وقوعه أربعة أيام في زمن الأخبار العاجلة ! وهو” نائب الملك يؤدي صلاة العيد ” يوم الاحد-11 آب “! وخبرا آخر يتعلق بتغريدة كتبها الملك على حسابه على تويتر يهنيء فيها الاردنيين بالعيد !
نائب الملك يشارك المصلين أداء صلاة العيد
هذه المعطيات الجديدة تتطلب من ادارات الصحف التكيف معها ، ووضع خطط ومنهجية جديدة للعمل ، قبل أن يصل الاعصار الى نهايته !
أنا شخصا عملت لمدة “35” عاما في الصحافة الورقية .. ثماني صحف يومية ومجلات اسبوعية داخل الاردن وفي قطر ، وعايشت خلال هذه الفترة تغير أساليب العمل في التحرير، والجوانب الفنية اللازمة لانتاج الصحيفة..فكنا مثلا نكتب المادة الصحفية سواء كانت خبرا أو مقالا أو تحقيقا ..الخ ،بالقلم وعلى ورق يتم جمعه من بقايا “رولات” الورق الذي تطبع عليه الصحيفة ولونه يجمع بين الأبيض والرمادي ،وكان الزملاء في الاقسام الفنية الذين يطبعون المادة الصحفية ،يعرفون صاحب الخط وأحيانا لا يفهمون بعض الكلمات ويضطرون لسؤال كاتب المادة، وأذكر مثلا خط الزميل والكاتب الراحل محمد طملية ، حيث كان يكتب بأحرف صغيرة جدا بحجم النملة ، والأسطر تميل باتجاه الأعلى ..وقبل تلك المرحلة كانت المواد الصحفية تطبع بطريقة “صف الأحرف” المعدنية، وهي طريقة مرهقة وتحتاج الى دقة وصبر وإمعان النظر ، حيث يقوم “الصفيف” بجمع أحرف الكلمات ،و”صفها” مع بعض لتتحول الى جمل مترابطة !
الكتابة في الصحف .. وشهادة “الأيزو”
كان طموح عدد كبير من قراء الصحف في تلك المرحلة، أن تذكر أسماءهم في صحيفة يومية، سواء بنشر خاطرة أو طرح قضية مطلبية أو نشر قصيدة ..الخ، وكانت الصحف تخصص صفحة عنوانها” بريد القراء” لنشر مساهمات القراء ،وكان المحظوظ من هؤلاء ينتظرون أياما وأسابيع لكي يطالعوا أسماءهم بفرحة غامرة ،حيث كانت رسائل البريد هي وسيلة التواصل مع الصحف ،أما اليوم يستطيع أي شخص إيصال ما يريد من رسائل، بسرعة هائلة عبر البريد الالكتروني أو من خلال منصات التواصل الاجتماعي الاخرى مثل الفيسبوك والواتساب وتويتر ..وغيرها ،كما أن ردود الفعل والتفاعلات والتغذية الراجعة ،حول ما تنشره الصحف يتم بسرعة فائقة !
وفي هذا الزمن تكاثر عدد الكتاب، ولم يعد “حفنة” من الاشخاص شاءت الظروف أن” يحتكرون” الكتابة في الصحف لفترة طويلة ،ويزعمون أنهم يعبرون عن الرأي العام ! وكأنهم يحملون شهادة “الأيزو” في الكتابة ! بل أن وسائل التواصل الاجتماعي كشفت الكثير من الطاقات الابداعية في الكتابة، لدى أعداد كبيرة من الأشخاص وبضمنهم شباب في العشرينات والثلاثينات من العمر ، يكتبون مقالات ذات قيمة فكرية وثقافية وسياسية تفوق بكثير، بعض ما ينشر في الصحف من نفاق و”تسحيج” يكتبه من يسقطون بالمظلات !
التحول للصحافة الرقمية
أذكر عام ألفين كنت أعمل في صحيفة الراية القطرية ، وبدأت الصحيفة في ذلك العام التحول الى طريقة” التحرير الرقمي ” ، فبدل استقبال أخبار وكالات الانباء بواسطة جهاز” التيكرز” على ورق خاص، ثم يقوم موظف خاص لمتابعة الوكالات ،بقص الاخبار وفرزها وتوزيعها على المحررين ،أصبح استقبال أخبار الوكالات يتم من خلال جهاز الكمبيوتر ، ثم يقوم المحرر بتحريرها على الحاسوب وفق برنامج خاص ، وبعد تحرير الاخبار ووضع عناوين لها ،يقوم بتحويلها الكترونيا الى المخرج ثم المنفذ ، وبعد ذلك تحول الى فيلم ثم تتحول الى “بليت” في المرحلة الاخيرة ، قبل طبع الصحيفة على الورق ..الخ .
وأذكر أن وزير الاعلام البحريني في ذلك الوقت “نبيل الحمر” زارنا في الصحيفة، وسألني عن رأيي في طريقة التحرير بدون قلم وورق ، وكنت في ذلك الوقت لا أزال متعلقا بالاسلوب السابق، حيث الاحساس بمتعة الكتابة بالقلم على الورق ..فقلت له الطريقة السابقة أكثر متعة ، فقال : ستتعودون ، وبالفعل منذ ذلك الوقت ،لم أعد استخدم القلم والورق في الكتابة ،حتى في أبسط الاشياء ، بل أن الدكتور مراد رشيد اخصائي الاعصاب والدماغ ، نصحني بعدم استخدام الكمبيوتر للطباعة لفترات طويلة !
لم اقرأ صحيفة ورقية منذ 3 سنوات !
كانت مطالعة الصحف وتفتيشها جزء من العمل المهني ، خاصة لاغراض المقارنة بين الصحيفة التي أشارك بانتاجها والصحف الاخرى المنافسة : أين انفردنا.. وبماذا انضربنا ؟ وفي مرحلة ما خلال عملي مندوبا صحفيا ، كانت ادارة الصحيفة تصرف مكافأة شهرية كحافز، لمن يتفوق على زملائه بالحصول على أكبر عدد من الاخبار وتحقيق انفرادات صحفية . ومنذ ثلاث سنوات لم أمسك صحيفة ورقية لأغراض قراءتها ، لكن ربما أشاهد بعضها عن بعد بالصدف دون الاهتمام بمطالعتها ، عندما أزور مؤسسة عامة تشترك في الصحف كجزء من التقليد، أو في إطار اتفاقيات مع الوزارات والمؤسسات الحكومية لدعم الصحف ، وذلك لا يعني أنني لا أقرأ محتويات الصحف ، فأنا أطالعها على مواقعها الالكترونية بعد الثانية فجرا ! وبعد كل هذه التحولات أشفق على الزملاء العاملين في الصحف اليومية من الأجيال الجديدة ، حيث ينتظرهم مستقبل وظيفي ضبابي، والأزمات المالية بدأت واضحة على الصحف التي يغرق بعضها بمديونية هائلة ، وبدأ العاملون فيها يعانون صعوبات مالية ، بسبب التأخر في صرف الرواتب ! بل ثمة مؤشرات على قرب انهيار بعضها أو الحجز عليها من قبل الدائنين .
تبدو الصحافة الورقية اليوم أحد ضحايا التكنولوجيا الحديثة ، فالأزمة الوجودية للصحافة الورقية لا تقتصر على الأردن، فهي تعصف بالصحافة العربية والعالمية ، بسبب التحولات التي تشهدها الصناعة الصحافية ، والتراجع المتواصل الذي تشهده الصحف في المبيعات والمداخيل الإعلانية. فثمة صحف شهيرة توقفت عن انتاج النسخ الورقية وتحولت الى الكترونية ، مثل صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” ومجلة “نيوزويك” الأميركيتين ، كما تحولت صحيفة “إندبندنت” البريطانية بالكامل إلى جريدة إلكترونية.
وعربيا توقفت جريدة الحياة اللندنية، وفي بيروت أهم المدن العربية لجهة حرية الصحافة، تحولت ثلاث من أهم الصحف هي “النهار والسفير والمستقبل ” إلى إلكترونية بشكل كامل ، وتواجه الصحافة الورقية في مصر أزمة حقيقية ، وهكذا هو الحال في غالبية الدول العربية. لكن المشكلة بالنسبة لغالبية المواقع الالكترونية الصحفية ، في الاردن وكثير من الأقطار العربية ، أنها “فقيرة ” تعمل بإمكانات محدودة وبعدد قليل من الصحفيين وبعضها بجهد فردي ، ولم تصل الى مرحلة المؤسسية وانشاء شركات ،الا اذا كانت مدعومة من جهات رسمية وشخصيات سياسية أو رجال أعمال !
بضاعة فاسدة !
كان الميدان فسيحا أمام الصحف الورقية الأردنية والعربية لفترة طويلة، اذ كانت المصدر الاول للاخبار والمعلومات والتعليقات ،وتوعية شريحة واسعة من المواطنين ، لكنها تحتشد بكم كبير من “البضاعة الفاسدة ” ! على غرار ما يتم ضبطه في السوق من مواد غذائية فاسدة ، وقيمة هذه البضاعة تتناسب عكسيا مع منسوب حرية التعبير ، وفي عالمنا العربي لا يوجد جهة تراقب وتفحص جودة البضاعة التي تنشرها الصحف ، الا اذا كان الامر يتعلق بمادة تغضب الحكومة ، فهنا يتم التدخل بطرق محتلفة !
هذه البضاعة تعرض بصيغة تصريحات غير دقيقة ، أو كاذبة لمسؤولين عن مشاريع وانجازات وتبرير وترويج ،أو على شكل مقالات مديح ونفاق و”تسحيج” ، يتم من خلالها في بعض الأحيان الدفاع بالباطل ،عن مواقف وقرارات وسياسات رسمية !
بل أن بعض الصحف كانت تعطي نفسها “دورا وطنيا” ! في الدفاع عن قضايا الوطن من خلال ما تعبر عنه من مواقف ،عبر كتابة افتتاحيات ومقالات تساند السياسات الرسمية ، وكانت الاذاعات تخصص فقرة بعد نشرة الاخبار، تتضمن عرضا لأهم عناون وأخبار الصحف وملخصا لافتتاحياتها ، خاصة التي تتعلق بمديح خطاب لرأس الدولة أو تحركاته وتصريحاته، وكانت أخبار الحكام وكبار المسؤولين تحظى بأولوية خاصة، ويتم مساءلة رئيس التحرير اذا سقط أحد هذه الاخبار حتى لو عن طريق الخطأ ! لكنني أعتقد أن هذا النمط من التفكير طواه الزمن ،وعندما أتذكر الافتتاحيات التي كانت تكتبها الصحف خلال 35 عاما ، أشعر أنها كانت “أكبر كذبة ” وعملية تضليل تحاول الصحف تسويقها !
تحذير من افتتاحيات الصحف
ولإعطاء أهمية كانت الافتتاحية تتصدر الصفحة الأولى للصحيفة ،لكنها مع طغيان الصحافة الرقمية تراجعت قيمتها وموقعها ولم يعد يكترث بها أحد ، واختفى مكانها الى الصفحات الداخلية والكثير من الصحف لم تعد تكتب افتتاحيات ، لأن أي مقال يحتوي على قيمة سياسية وفكرية لكاتب رصين ،قد يحظى باهتمام القراء والفضائيات والاذاعات، و كمثال على ذلك يمكن ملاحظة ما تحدثه مقالات بعض الكتاب في الصحافة الاميركية والبريطانية من اهتمام وتأثير .
الصورة أعلاه للصفحة الأولى لعدد جريدة “الراي “في اليوم التالي لتوقيع اتفاقية وادي عربة ،التي تم التوقيع عليها يوم 26 تشرين الأول عام 1994. . ويمكن التمعن بحجم الاحتفاء الكبير بالمعاهدة والأحلام الوهمية التي رافقتها ،من خلال عناوين الصفحة والافتتاحية ، لكن بعد مرور ربع قرن على ذلك الحدث ،اكتشف الرأي العام حجم الخداع الذي تم تسويقه عبر الصحافة والاعلام وممارسة التضليل بافتراض حسن النية بالعدو ، والزعم أن تلك المعاهدة تحمل الخير والرخاء وتصون الأمن القومي، وبعد هذه السنسن العجاف أصبحت المطالبة بالغاء تلك المعاهدة تتزايد يوما بعد آخر في أوساط الرأي العام ،ونفس الشيء يقال عن اتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال
ولي تجربة شخصية في كتابة الافتتاحيات في صحيفتين ،أردنية هي”صوت الشعب” والأخرى عربية، وكان القيام بهذا العمل بالنسبة لي هم كبير وواجب ثقيل الدم يشبه “تسديد كمبيالة”! وأحيانا كنت أحاول التملص منها بالاستعانة بزميل آخر لكتابتها ، والتخلص من عبئها وكأنها كيس زبالة !
والمشكلة الجوهرية في القيام بهذا العمل ليس بكتابة مئتين أو ثلاثمئة كلمة ،لكن في عدم القناعة بما تكتبه ،وأنت تعرف أنه مجرد كلام ممجوج وكذب وتدليس على القراء، ومعظم الافتتاحيات عادة تتبنى أو تدافع عن سياسات أو مواقف رسمية ، تحت وهم الدفاع عن مصالح الوطن !
في حقبة الصحافة الرصينة، كان للافتتاحية قيمة سياسية وتعبر عن رؤية جادة ، ويتم مناقشة عناصرها في اجتماع لمجلس التحرير، وكانت تترك أثرا في الشارع ،واذا كانت تتعلق بشأن سياسي هام تتناقلها وكالات الانباء . وأذكر في عام 1986 عندما كنت أعمل في صحيفة “صوت الشعب”، وقعت أحداث جامعة اليرموك وتم اقتحامها من قبل قوات الامن ، وذهب ضحية ذلك ثلاثة طلاب وجرح عدد آخر، وكان رئيس مجلس ادارة الصحيفة في حينه المرحوم مريود التل، ورئيس التحرير المرحوم طارق مصاروة، وتزامن ذلك مع سفر الاستاذ طارق الى بلد افريقي أظن أنه كينيا.
كانت صحيفة” صوت الشعب ” خاضعة لسلطة الحكومة لكونها شركة مساهمة عامة، وكانت كلمة “ألو” من وزير الاعلام لا ترد ! وخلال أحداث جامعة اليرموك عام 1986 اتصل الوزير في ذلك الوقت ، برئيس مجلس الادارة الراحل “مريود التل”، بحكم أن رئيس التحرير كان خارج البلد، وطلب الوزير أن تكتب الصحيفة افتتاحية تدين فيها احتجاجات طلبة اليرموك، لكن التل رفض ذلك وصدرت الصحيفة في اليوم التالي بدون الافتتاحية التي طلبها الوزير، ونشرت تفاصيل أحداث الجامعة بمهنية وبضمنها سقوط ثلاثة قتلى من الطلبة، وعلى الفور قررت الحكومة إقالة التل ، وعندما عاد الراحل طارق مصاروة من السفر وعلم بما حدث ، قدم استقالته فورا ..كان ذلك في زمن يوجد فيه شجعان وأصحاب مواقف يقولون ” لا ” للخطأ .. وليس “نعم سيدي” !
وعلى طريقة شركات الدخان التي تكتب على علب السجائر عبارة : ” التدخين… سبب رئيسي لأمراض السرطان والقلب والشرايين ” .. أقول للقراء” احذروا افتتاحيات الصحف”! ومن يريد قراءاتها فبعد الأكل !
هيمنة الحكومات على الصحف
الصحف في عالمنا العربي إما تابعة للنظام وخاضعة لسلطته، ومموله من موازنة الدولة ،أو أنها مشاريع استثمارية يمولها القطاع الخاص ، أو أنها تابعة لاحزاب ساسية ذات طابع إيدولوجي، وغالبا تكون ذات مستوى مهني متواضع .
في بعض الدول العربية لا تزال بعض الحكومات تحرص على تمويل الصحف الورقية التي توصف بالرسمية ، وتوجهها بالريموت مثل محطات التلفزة والاذاعات الرسمية ، لكنها صحف محدودة التأثير ومصداقيتها ضعيفة، كما يوجد صحف يمولها رجال أعمال مغامرون أو قريبون من السلطة ،أو على شكل شركات مساهمة عامة ،لكن جميع هذه الانماط من الصحف لم تعد ذات جدوى اقتصادية وتتكبد خسائر فادحة، وأصبحت المواد التي تنشرها الصحف الورقية من أخبار ومقالات وتحقيقات وغيرها ، ليس لها قيمة بسبب تؤخر صدورها ساعات طويلة ، عن موعد وقوع الأحداث وتغطيتها بشكل مباشر وسريع من قبل القنوات الفضائية والصحافة الالكترونية ، كما تراجعت كثيرا نسبة الاعلانات التجارية مع وجود منصات الكترونية كثيرة تنشر الاعلانات التجارية ، بل حتى أصبحت تنافس الصحف في نشر أخبار الوفيات مجانا !