صراحة نيوز – بقلم الدكتور ابراهيم بدران
في الوقت الذي يجري الحديث فيه عن الثورة الصناعية الرابعة، فإن المنطقة العربية لازالت بعيدة عن الثورتين الثانية والثالثة، ولازالت غير مكترثة إلى حد كبير بالثورة المناخية الرابعة التي تجتاح العالم، وتعرف بالتغيرات المناخية، والتي أصبحت واحدة من المسلمات الكبرى في عصرنا. هذا رغم محاولات البعض ومنهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفي ذلك، أو التخفيف من علاقتها بأنماط استهلاك الطاقة والانبعاثات الحرارية والغازية؛ ولكن الحقيقة التي نلمسها ونعيشها بشكل مضطرد ان المنطقة العربية من أكثر المناطق تأثرا بالتغيرات المناخية منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. و تتمثل ظواهر هذا التغير في الأردن في” تأخر الأمطار، وتراجع كمياتها سنة بعد سنة، وارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها التقليدية، وطول فترة انقطاع الأمطار وزيادة الجفاف و تراجع الإنتاج الزراعي و ارتفاع أسعار الغذاء “. هذه الظواهر التي تزداد تعمقاً، ينبغي أن تقرأ بمدلولاتها الصحيحة،أي تغيرات اقتصادية واجتماعية وعمرانية وصحية وإنسانية. وبالتالي كمؤشر على الحالة المستقبلية للدولة؛ لأنها تعني في ترجمتها العملية، التحول إلى مزيد من شح المياه، وتراجع المحاصيل الزراعية، وزيادة استهلاك الطاقة، واتساع رقعة التصحر، ومزيد من هجرة الريف إلى المدينة، وأنواع مختلفة من الأمراض البشرية والنباتية والحيوانية، إذا لم يوضع برنامج مناسب للتعامل معها.
والسؤال: متى نضع الخطط والبرامج التنفيذية لمواجهة هذه الحالة المعقدة ؟ وكيف ستساعد معطيات الثورات الصناعية المتتابعة في وضع الحلول اللازمة؟ هل بدأنا بتطوير البدائل والمشاريع؟ أم أننا ننتظر المجهول، آملين أن ترأف بنا الطبيعة فتتراجع تأثيرات التغيرات المناخية تلقائيا؟ وهنا لا بد من التأكيد على عدد من المسائل: أولاً : أن هناك مناطق كثيرة في العالم سوف تتأثر سلباً بالتغيرات المناخية، ولكن بطرق مختلفة، مما يتطلب ادخال تغييرات جوهرية في أنظمة النقل والانتاج و الزراعة وهذه ستساعد فيها الثورة الصناعية الرابعة، وبالتالي فالاعتماد على المساعدات الدولية المحتملة لمواجهة التغيرات هو نوع من الهروب إلى الأمام؛ لأن المجتمع الدولي سيكون مشغولاً بقضايا أخرى وبمساحات ومواقع أكثر تضرراً مما نحن فيه. ثانياً :ان على كل دولة أن تأخذ خصوصياتها بعين الاعتبار، وتضع البرامج اللازمة لذلك دون الاعتماد على العموميات والاتفاقيات الدولية فقط، وفي هذا المجال فإن “أمن المياه “ و “أمن الغذاء” يستدعيان العمل على تعزيزهما من خلال تطوير تكنولوجيات وحلول ابداعية، ومشاريع وطنية مناسبة يكون فيها القرار النهائي للدولة الأردنية وهذا ممكن، وليس الاعتماد على مشاريع ثنائية أو إقليمية غائمة تضاعف من إشكاليات الأمن المائي و الأمن الغذائي على حد سواء. ثالثاً: إن الدخول في تكنولوجيا المياه بالعمق والجدية، والاستثمار الكافي في الدراسات والأبحاث والمشاريع، والإفادة من معطيات الثورتين الصناعيتين الثالثة و الرابعة قد أصبح ضرورة مستعجلة، وشرطاً من شروط البقاء والنهوض ابتداء من إنشاء السدود والحفائر ومروراً بإنشاء محطات للاستمطار وانتهاء بتوليد المياه من الهواء باستخدام الطاقة الشمسية، خاصة و قد تراجع نصيب الفرد لدينا من المياه إلى حوالي 90 مترا مكعبا سنويا، و ارتفعت كلفة الغذاء لتتجاوز 35% من متوسط دخل الأسرة. رابعاً: إن مداخل تحقيق أمن المياه و الغذاء والطاقة والبيئة متنوعة تماماً، ويتطلب كل منها علوما و تكنولوجيا وهندسة مختلفة ينبغي أن تكون جزأ من التخصصات الجامعية و البحثية، مما يستدعي عدم الإجمال والتعميم، بل الدخول بالتخصيص، سواء من حيث التخصص أو الكلية أو المؤسسة أو الاستثمار. بمعنى أن الدولة بحاجة إلى هيئة متخصصة في السدود و الحفائر، ومركز آخر متخصص بالاستمطار، و ثالث للبحث والتطوير في توليد المياه من الهواء، ودائرة متخصصة في تحلية المياه وهكذا. وخلاف ذلك سوف لن يتحقق الا القليل. خامساً: لقد كانت الكلفة الرئيسة في تحلية المياه تعود لكلفة الطاقة؛ ونظراً لأن الطاقة الشمسية أصبحت اقتصادية ومتاحة في كل مكان، فإنه أصبح بالإمكان التوسع في تحلية المياه لتشمل جميع المصادر المائية، سواء كانت مياه بحر أو ينابيع مالحة أومياه رمادية أو غير ذلك، وهذا يتطلب التوسع في تكنولوجيا الطاقة الشمسية من خلال العلم و الممارسة و لأغراض مختلفة. سادساً: إن إعادة تدوير المياه وتنقيتها إلى الدرجة الثالثة والرابعة، حتى تصبح ملائمة للإستهلاك البشري،تشكل تكنولوجيا قائمة بذاتها، وهنا يمكن استعمالها في تربية الحيوان والزراعة و التشجير وغير ذلك من الاستعمالات غير الحرجة. سابعاً: ضرورة العمل في الجامعات و المراكز على تطوير سلالات نباتية و حيوانية مقاومة للجفاف والملوحة. وهنا يمكن الاستفادة من الإنجازات التي تم تطويرها في بلدان أخرى، وتوظيف الهندسة الجينية في تطوير سلاسلات تناسب البيئة الأردنية عل تنوعها، وهذا من صميم فصول الثورة الصناعية الرابعة التي نحن في بداياتها. ثامناً : وقف زحف التصحر لأسباب مناخية وأسباب بشرية في إطار مشاريع محددة . فهناك الكثير من المساحات يمكن زراعتها بأشجار حرجية و لكنها لاتزال جرداء. وكأن الحلم الذي كان يراه الراحل الملك الحسين بأردن أخضر عام 2000 قد ذهب. وهناك مساحات واسعة يزحف عليها التصحر نتيجة قلة المياه أو اهمالها من أصحابها، ولا يتحقق وقف التصحر الا بالزراعة بالأنواع المناسبة، وتوفير المياه بطرق اصطناعية كالتوسع في شبكات القنوات، و برامج دؤوبة للاستمطار، وصناديق المياه، وتوليد المياه من الهواء،واستخدام الطاقة الشمسية كلما كان ذلك متاحاً.
لقد فاتنا قطار الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة، واستمرت العديد من النشاطات والمعطيات نتيجة للاستيراد في الجزء الأكبر من الإحتياجات، والاعتماد طولا وعرضا على الآخرين. ونحن اليوم في مواجهة الثورة الرابعة و من الضروري “أن نكون جاهزين لاستيعابها و توظيفها لخدمة و ازدهار شعوبنا وأوطاننا” كما تساءل الدكتور هاني الملقي في دبي قبل ايام. و في هذه الحالة من الجاهزية فقط، يمكن “أن تتلاشى فكرة نشوب الحروب والنزاعات بين الدول على الموارد الطبيعية” . غير أن هنا النهج في الاستيراد المفرط، والاعتماد على الآخرين لا يصلح ابداً في مواجهة متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، ولا التغيرات المناخية بتأثيرها الشديد على الغذاء والماء، والأجواء و الصحة والعمران، وتماسك الدولة اجتماعيا واقتصادياً وعمرانيا.
إن على الحكومة أن تبادر فورا بتكليف الجامعات و التعاقد معها،و لدينا 30 جامعة، بالتعاون مع القطاع الخاص والمؤسسات الحكومية للعمل في مجموعات لتتناول كل مجموعة واحدة من مفردات الثورة الصناعية الرابعة من جهة، والتغيرات المناخية من جهة أخرى، فتقيم بالشراكة سلسلة المشاريع والمراكز التي اشرنا إليها، مستفيدة من تجارب الدول الأخرى، ومن معطيات الهندسة والتكنولوجيا الدولية، فذلك هو ضمان المستقبل للأجيال القادمة.