صراحة نيوز – قال رئيس الوزراء الأسبق د.عبد السلام المجالي إنه ورغم صعوبة المراحل التي مر بها الأردن والتحديات التي واجهها والمؤمرات التي جابهها إلا أن جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال “استطاع أن يصل ببلده إلى بر الأمان، وأن يجعل منه بلدا فاعلا في المنطقة يُصغى إليه عندما يتكلم”.
وأكد المجالي، في محاضرته “نصف قرن مع الحسين”، والتي ألقاها بدعوة من كرسي الملك الحسين للدراسات الأردنية والدولية التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية أمس في مركز الحسين الثقافي، أن الراحل جعل للأردن حقا مكانة مرموقة على الخريطة السياسية للعالم، وحظي باحترام قادة وشعوب العالم في حياته، “وعند مماته تجلى ذلك في التظاهرة الدولية لقادة وزعماء العالم الصديق والخصم والعدو الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليكونوا في شرف وداعه وهو يغادر دار الفناء إلى دار البقاء في ما وصف بأكبر جنازة رسمية في التاريخ”.
وتابع: “أما ما عبر عنه شعبه الذي أحبه حبا عفويا صادقا وناضل معه وسار على درب المجد والنجاح والعز والسؤدد بمعيته فأمرٌ خارج عن قدرة الوصف”.
وأكد أن الراحل كان قائداً بارزاً ليس على الصعيد العربي والمحلي بل على الصعيد الدولي، وأنه ظاهرة متفردة في القرن العشرين فما حظي به من حب شعبه له واحترام العالم قادة وشعوبا “لم يحظ به أحد غيره”.
فعلى الصعيد الشخصي كان تواضع الحسين وإنسانيته وتسامحه وحبه للناس وتفانيه بتحقيق مطالبهم وخدمة مصالحهم مثلا يحتذى، “وهذا ما جعله موضع حبهم وتفانيهم له، والالتفاف حول قيادته”.
وقال المجالي إن الراحل على الصعيد الرسمي كان مدرسة محددة الأهداف متكاملة الأبعاد متعددة المناهج شكلت بؤرة استقطاب لكل الطامحين للنجاح. فلقد كان رحمه الله صاحب رؤيا يحلم بمستقبل مشرق لوطنه وأمته ويمتلك خريطة طريق لوطنه ولأمته واضحة المعالم، وهذه خاصية عز نظيرها.
واضاف أن الحسين كان صاحب نظرة استشرافية مذهلة، ومفهوم يتعلق بالدين الحنيف تفرّد به دون غيره من القادة حيث كان يدعو للتقدم الى الإسلام وليس العودة الى الوراء، سيّما ان الرسالة السماوية، أمامنا دوماً وعلينا اللحاق بها.
وأكد أن الحسين تمكن ومن خلال هذه الصفات وبحنكته وحكمته وشجاعته غير العادية ان يقود الاردن قيادة نوعية، نقله فيها من موقع التخلف والجهل إلى روابي التطور والعلم الذي جعله متميزا على غيره من دول المنطقة.
وتطرق المجالي في محاضرته لمحورين؛ الأول الجوانب الشخصية والانسانية للراحل وبعض المواقف والوقائع والذكريات التي سجلتها ذاكرته عنه خلال مسيرته المهنية والوظيفية.
واستذكر المجالي بداية تعرفه بالحسين، عندما كان المجالي يتخصص بدراسة جراحة الأذن والحنجرة في القاهرة، مبعوثا من القوات المسلحة “وأثناء زيارتي للسفير المرحوم فوزي الملقي وإذا بالأمير الشاب الذي يدرس في ساند هيرست يحضر إلى بيت السفير. كان لا يزال دون السابعة عشرة من عمره لكنه تحدث بطلاقة وثقة وبأدب جم لا يقاطع أحدا بكلامه، أيقنت حينها بعد نظره وثاقب فكره وعلو همته وخرجت من ذلك اللقاء مبهورا”.
وبعد تسلم الحسين الملك، “ورغم صعوبة المرحلة التي كانت تسود المنطقة في خمسينيات القرن العشرين وبعد نكبة فلسطين والعواصف التي كانت تعصف بالبلاد المعروفة بشح مواردها وقلة امكانياتها، اضافة الى وجود قيادة اجنبية تتبوأ قيادة الجيش ونشوء تيار قومي عربي استحوذ على مشاعر الناس، إلا أن جلالته وبحنكته وشجاعته وبعد نظره ضرب أروع الامثلة في قيادة بلاده وتجاوز كل الصعاب، الأمر الذي جعل منه ليس قائدا محليا أو اقليميا بل عالميا، خاصة بعد تعريبه الجيش من قيادته البريطانية عام 1956 ووضع نفسه وبلده وجها لوجه أمام الامبراطورية البريطانية، فواجه ذلك بكل شجاعة وعزم ومن ثم جاءت ما سميت بحركة الضباط الأحرار عام 1957 وانقلاب العراق عام 1958 ناهيك عن العديد من المؤامرات التي حيكت لإسقاط حكمه إلا أنه تجاوزها جميعها”.
وأكد المجالي أن كل ذلك جعل الحسين بوضع لا يحسد عليه سواء أكان ذلك من الأصدقاء أو من الأعداء لكنه في الوقت ذاته ضرب رقما قياسيا بالمحبين والمعجبين الذين رأوا فيه قائدا ملهما وسياسيا محنكا وفوق هذا كله إنسانا متواضعا متسامحا محبا للخير وللناس يطبق الحكمة القائلة “العفو عند المقدرة” فقد كان لا يعرف الحقد على أحد، وقد برهن على ذلك في معاملته لخصومه ومعارضيه عبر مراحل حكمه التي امتدت على مساحة خمسة عقود”.
واستعرض المجالي جوانب تبرز إنسانية الحسين ونقاء سريرته، وتواضعه، في تعامله مع الآخر وترجيحه العقل على العاطفة.
واشار الى ان الراحل أصيب في خمسينيات القرن الماضي بالتهاب الجيوب الأنفية “فقمت بمعالجته ومع العلاج أوصيت وبشكل واضح أن عليه أن يتجنب الطيران بكل أنواعه. ولكني علمت ذات يوم أنه كان في طائرة نفاثة في الجو فأصابني الرعب والهلع خوفا عليه، فلجأت حينها إلى رئيس الوزراء المرحوم هزاع المجالي وشرحت له خطورة الطيران على حياة جلالته، فما كان من دولته إلا أن قام بزيارة جلالته وقدم له استقالته فأبدى الملك استغرابه وتعجبه وسأل دولة هزاع عن السبب فشرح له ذلك، وهنا قال له جلالته أعتقد أن الدكتور عبد السلام هو الذي أخبرك بذلك فأجابه بالإيجاب، فوعده أن لا يقوم بالطيران بعد ذلك ما دام يعاني من التهاب الجيوب الأنفية”.
وتابع المجالي “في المساء مررت لأطمئن على صحته فبادرني معاتبا بصوته الخفيض العميق “ألا تخاف الله يا عبد السلام؟ أتريد أن تمنعني من ممارسة حقي في هواية أحبها! ألا تقومون أنتم بعمل ما تحبون؟ قلت له يا سيدي نحن حريصون على الأردن بحرصنا عليك لو لا سمح الله جرى لك ما نكره لما استطعنا أن نجد من يملأ مكانك أما نحن فهنالك الكثيرون ممن يقدرون على ملء أماكننا”.
وقال المجالي “قيادة الحسين الفذة لم تفرض نفسها علينا بالاكراه بل تقبلناها منه بكل الرضى فقد نجح الحسين أن يجعلنا باستمرار راغبين ان نقدم افضل ما لدينا وان نخدم بأحسن ما تعلمنا وان نسعى دائما لنكون على مستوى توقعاته منا”.
واستذكر المجالي مناقب فقيد الاردن، متسائلا في هذا السياق “اليس الحسين هو من أعفى عن كل الذين أساؤا إليه بالفعل أو بالقول أو بكليهما؟ وهل كان فعله هذا صادرا إلا عن عفو عند المقدرة وتعظيما للإنسانية؟ الم يكن يقف في الطريق لينقذ ملهوفا او يسعف مجروحا او يميط اذى؟ الم يكن يقود سيارته لوحده مخاطبا الناس والناس به فرحون مستبشرون؟ هل منا احد ينسى التلميذة التي هرعت من بين صفوف التلاميذ المشاركين بالاحتفال الكبير يوم اليوبيل الفضي لتولي جلالته السلطات الدستورية ووقف الحسين لها لكي يسلم عليها، ولكنها انثنت عنه الى كأس الماء الباردة التي أمامه وشربتها وهل تذكرون ضحكته الوضاءة من هذه الأردنية التي لم تخش أن تشرب من كأس الماء لما عطشت؟”.
وقال المجالي “من منا يجهل صنائع الحسين ومكارمه وإنجازاته العظيمة، وما الذي حمل حوالي مائة رئيس دولة وحكومة يحضرون جنازته المهيبة؟ إنها تلك الإنسانية التي ملأت الدنيا بشعاعها ونورها. يموت رؤساء وعظماء كل يوم ولكن لا يحضر جنازة هؤلاء مودعا المئات منهم، فما الذي أتى بالرئيس الروسي يلتسن وهو على فراش المرض ليقدم تعازيه الشخصية لجلالة الملك عبد الله الثاني ثم يغادر؟”.
وقال ان الحسين “أحب الناس فأحبوه وبادلوه الحب طواعية.. لم يجبر أحد على حب الحسين بل التزم كل منا بذلك لأن الحسين دافع عنا وعن كرامتنا وحمى مواطنينا وانتمى لنا . وعندما كنا نمرض بنى لنا المستشفيات ولما أردنا العلم بنى لنا المدارس والجامعات ولما اردنا سكنا بنى لنا آلاف العمارات وشيد الطرقات وجعلنا اغنى بكثير مما نحن”.
وشدد المجالي ان التناغم كان عميقا بين القائد والشعب ندر أن يكون في بلد آخر وهذا التناغم كان قوة حافظت على الأردن أن يبقى بأمان رغم الأعاصير.
وقال ان العدل عند الحسين “اساس الملك فكرا وتطبيقا والجيش هو حامي الحمى وضامن الأمن والقدس رمز الشرعية الدينية والمواطن الصالح هو وسيلتها المنتج والمحرك كل هذه تتفاعل ضمن نظام منسق متكامل”.
وكان مدير عام مركز الدراسات الاستراتيجية د.موسى شتيوي، قال خلال تقديمه للمحاضرة، إن الراحل الحسين “ترك لنا وطناً عزيزاً، على صغر حجمه، نفاخر به ونتباهى، ونصونه بسياج العيون، ومهج القلوب، وترك لنا “رحمه الله” قائداً يسير على دربه ونهجه، ويستلهم فكره، يعبر بالوطن وأهله الى مرافئ السكينة والأمان بثقة وبرؤية ثاقبة وبمقدرة قيادية فذة تزينها روح عصرية خلاقة تتجاوز الصعاب والتحديات رغم العواصف العاتية، ونوازل الأمة، وجراحها النازفة.
وقال شتيوي انه كان حقاً علينا، أن ننشئ في المركز كرسياً أكاديمياً باسم الملك الحسين بن طلال للدراسات الأردنية والدولية، يعنى بإجراء الدراسات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، التي توثق لفكر ومسيرة الراحل العظيم. وبين ان في هذا “المشروع الوطني الهام الذي حظي بدعم ومباركة من جلالة الملك عبدالله الثاني مساهمة فاعلة، نسلط من خلالها الضوء وبمنهجية علمية على حقبة حكمه المكللة بالعطاء والتفاني والإنجاز
الغد