أبوظبي – صراحة نيوز – أحداث جديدة عاشها جمهور الحلقة السابعة من “أمير الشعراء”، والتي انطلقت مساء أمس الثلاثاء في تمام العاشرة ليلاً، وتمّ بثّها على الهواء مباشرة عبر قناتي الإمارات وبينونة. حيث استهلها العازف الإماراتي فيصل الساري بوصلة “روح التسامح”.
وبمرافقة الفرقة الموسيقية عزف فيصل الساري مع أعضاء فرقة “أوركسترا ياس” عدة مقطوعات موسيقية جمعت الشرق بالغرب، ليس فقط على مستوى الآلات، إنما على مستوى المقطوعات، فمزجت الفرقة بين موسيقى السودان وأثيوبيا وأرمينيا وأمريكا اللاتينية وإسبانيا والهند والخليج، تأكيداً على أصالة وجمال ورفعة الهدف السامي لعام التسامح الذي اتخذته الإمارات عنواناً لها ولفعالياتها خلال هذا العام 2019.
وحضر الأمسية الحافلة بكل ما هو جميل شعراً وموسيقة؛ الشيخ سعيد بن طحنون آل نهيان، وعيسى سيف المزروعي، نائب رئيس لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، وسلطان العميمي مدير “أكاديمية الشعر”، وعدد من الدبلوماسيين وأساتذة جامعة الإمارات، وممثلين عن الجاليات العربية والمالية الذين جاءوا مشجعين للشعراء المتنافسين في الحلقة.
و”أمير الشعراء” الذي تنتجه لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي؛ جمع ليلة أمس خمسة شعراء مثلوا خمس دول، وهم: عائشة الشامسي من الإمارات، دينا الشيخ من السودان، عبدالمنعم حسن محمد من مالي، سلطان السبهان من السعودية، وعلي حسن سلمان من البحرين. وأمام أعضاء لجنة التحكيم المؤلفة من د. عبدالملك مرتاض، ود. علي بن تميم، ود. صلاح فضل؛ قدم الشعراء نصوصهم.
سيد أحمد يتأهل بتصويت الجمهور
قبل بدء المنافسة بين الشعراء؛ أعلنت مقدمة البرنامج لجين عمران عن تأهّل الشاعر مبارك سيد أحمد من مصر بـ77 درجة بعد تصويت الجمهور له على مدار أسبوع كامل، والذي تمكّن بتلك النتيجة من الانضمام إلى زميلته الشاعرة الإماراتية شيخة المطيري التي تأهّلت في الحلقة الماضية بفضل الدرجات الـ47 التي منحتها إياها لجنة التحكيم. فيما لم يكن التصويت لصالح بقية الشعراء، وهم هاني عبدالجواد من الأردن، ابتهال تريتر من السودان، سعد جرجيس من العراق، ومع ذلك فإن خروجهم من هذه المرحلة يؤكد أنهم شعراءبحق، وقد كسبوا إعجاب لجنة التحكيم منذ بدء انطلاق الموسم الثامن.
مالي لأول مرة إلى المرحلة النهائية
مفاجأة حلقة ليلة أمس تمثلت بتأهل الشاعر المالي عبدالمنعم حسن إلى النصف النهائي من المسابقة، والتي تشهد للمرة الأولى منذ انظلاقها؛ ليس فقط مشاركة شاعر من مالي، إنما بانتقال الشاعر كذلك إلى المرحلة الأخيرة، وذلك إثر حصوله على 47 درجة من لجنة التحكيم.
وفي المقابل بدأ بقية زملائه رحلتهم نحو التصويت، وهم: دينا الشيخ، سلطان السبهان، عائشة الشامسي، وعلي حسن سلمان. حيث سينتظرون نتائج تصويت الجمهور لهم، والتي ستتم عبر موقع البرنامج أو عبر التطبيق الإلكترونيين؛ وستصدر بداية الحلقة القادمة، وبناء على ذلك فإن الشاعر صاحب الدرجات الأعلى سينتقل إلى المرحلة الثالثة.
دينا تحاكي المشاوير
تحت عنوان “هجس المشاوير” ألقت الشاعرة دينا الشيخ قصيدتها. وحسب د. صلاح فضل فإن من الجميل أن يكون شعر دينا مضمخاً بالحداثة ومفعماً بطرافة الانزياحات والتراكيب المختلفة. فابتداءً من العنوان هناك صوت هاجسٍ تمثّل فيما جاء في عنوان القصيدة التي اخترنا منها:
يسافرُ الضوءُ في هجسِ المكانِ هنا
حتّى يوُطّنَ في الأشياءِ فلسفتَهْ
يعيد في ظلِّ أشجارِ الحنين دماً
لعاشقٍ يجتبي من سمتهِ لُغتَهْ
كان انصهاري على أَبوابِ صومعةٍ
يُعيدُ زرقةَ بحرٍ أَقتفي جهتَهْ
سربُ النّوارسِ غطِّي سقفَ ذاكرتِي
ما زلتُ أسمعُ في الأشعارِ غمغمتَهْ
والموجُ يغفو على شطّينِ من قلقٍ
وكمْ تُثيرُ جفونُ الليلِ أسئلتَهْ
صفصافةٌ في ممرَّاتِ الوداعِ معي
كانت تُؤرِّخُ للنّسيانِ عنونتَهْ
بعضُ الوجوهِ تُربِّي الحُبَّ في فمِنا
من يمنحونَ لحلمٍ مُجهدٍ رئتَهْ
وبرأي د. فضل فإن الشعر الذي يضمّخ بالحداثة يعاني من مشكلة في تراكيبه التي تظل معظمها ملغّزة، فتعمل على إشعال لغة التخييل. ظانّاً بأن دينا عندما قالت: (كان انصهاري على أَبوابِ صومعةٍ/يُعيدُ زرقةَ بحرٍ أَقتفي جهتَهْ) فإن المتلقي لن يدرك ولن يتبيّن ما تريد من خلال تراكيب البيت، فالإفهام – كما أشار – مثل الملح، قليلٌ منه يصلح الكلام، والكثير منه يبقى معتماً.
وفيما يتعلق في البيت (صفصافةٌ في ممرَّاتِ الوداعِ معي/كانت تُؤرِّخُ للنّسيانِ عنونتَهْ) فإن الناقد لم يتبيّن كذلك ما الذي عنته دينا بالصفصافة، وكيف تؤرّخ عناوين النسيان، وهذا كلام – برأيه – لا يمكن تبيّن ما وراءه، كما أنه نظم ذهنيّ يفتعل تلك الانزياحات، معتقداً أن شعرية دينا يمكن أن تتجلى بأجمل مما قالته ليلة أمس.
د. علي بن تميم بدأ من حيث انتهى د. فضل، مؤكداً على أن ما جاء في النص ينتمي إلى الشعرية الذهنيّة. كما لفته العنوان “هجس المشاوير” والذي يعتبر عتبة النص عادة. موضحاً أن الهواجس هي ما يدور في النفس من أحاديث، لكن ذلك لم يتجلّ في النص، وإن وردت مفردة (الهجس) المرتبطة بالمكان.
كما وجد د. بن تميم مشكلة أخرى تجلّت في قافية النص، فهي بهائها المسكّنة تقطع النّفس كثيراً. فيما المعجم الشعري في النص رومانسي بامتياز، وبأن ثمة الكثير من مفرداته ذات تاريخ كبير في الشعرية العربية، مثل (الضوء، صومعة، زرقة البحر، النوارس، الموج، الحلم، الموال، السوسنة). لكن هذا المعجم– أحياناً – يكون مخادعاً، أي لا يوصل إلى بصمة أسلوبية خاصة، بمعنى أن التشكيل في النص مخادعٌ، والعلاقة بين تلك المفردات عشوائية، كما في البيت (صفصافةٌ في ممرَّاتِ الوداعِ معي/كانت تُؤرِّخُ للنّسيانِ عنونتَهْ). ومع أن د. علي يرى أن الكتابة إنما هي ضرب من ضروب تدوين وتأريخ الذات من فقدان الذاكرة؛ إلا أنه طرح سؤالاً مفاده: كيف يمكن أن يكون لتأريخ النسيان عنوان أيضاً. ثم علق د. علي على إمكانية إشارة القصيدة إلى اغتراب الذات، وإن جاء في إطار اغتراب القصيدة نفسها عن مفرداتها، وعن علاقتها الحية مع القارئ.
من جهته بدأ د. عبدالملك مرتاض من عنوان القصيدة البعيدة عن الشعرية. ثم أشار إلى مفردة (يغفو) التي وردت في النص، مؤكداً على أن الأصح والأصوب (يُغْفي). وحول الصورة الفنية التي وردت في البيت الثامن (هل نلتقي في مزاداتِ الحياةِ؟ ومن/يُعيرُ موَّالنَا المجروحَ حنجرتَهْ؟) قال إنها من أروع الصور وأبدعها. مبدياً إعجابه بتوظيف دينا للحيز الشعري في البيت الأول (يسافرُ الضوءُ في هجسِ المكانِ هنا/حتّى يوُطّنَ في الأشياءِ فلسفتَهْ)، فتم ملئ المكان بالقلق والهواجس ليصوّر الشخصية الشعرية وهي تتصارع مع نفسها فتهيم في وادٍ سحيق. أما الحيّز في شعر دينا فهو موظف بعناية وكثافة كما في العبارات (في ظل الأشجار، أبواب صومعة، والموج يغفي على شطّين، صوتي للبلاد). ولاحظ د. مرتاض أن الشاعرة توظف الأضواء والأصوات والحركات، وكل تلك المكوّنات الفنية وغيرها؛ أفضت إلى بناء قصيدة فخمة الجلال، وفائقة الجمال، حتى كأنها تختال في غنج ودلال.
سلطان يتشابك مع “أغداً ألقاك”
ثاني شعراء الأمسية كان سلطان السبهان الذي ألقى على مسامع المتلقين داخل مسرح “شاطئ الراحة” وخارجه قصيدة نهلت من أغنية أم كلثوم “أغداً ألقاك”، وجاءت بعنوان “إنّما الحاضر أحلى”، وهي التي وصفها د. علي بن تميم بأنها ذوبته تذويباً جميلاً، خاصة وأن النص يشتبك مع نص الشاعر السوداني الهادي آدم، والذي شدت به أم كلثوم. ومما جاء في قصيدة الشاعر:
مقهى وصوتُ “الستِّ” يسترضي الغيابْ
سألتْ (أغداً ألقاك) أحلى من عتابْ
وعدّت على روجِ الغريبِ حكايةٌ
فكأنّما جبلٌ من النّسيانِ ذابْ
يا رب لم يخطر ببالِ دمائنا
أن يقتلَ الإنسانُ من أجل الثّوابْ
كُنّا نحبُّ حياتَنا وتحبُّنا
يا شهوةَ البدوِ العفيفةِ للسّحابْ
نهبوا من “الألبوم” أجملَ صورةٍ
زرعوا لقتل شقاوة الحب ارتيابْ
من سمّموا التّاريخَ واجتَرحوا لهم
ديناً يبيعُ على الدّراويشِ السّرابْ
وقال د. علي بن تميم إن الاشتباك الموجود في النص مع نص الهادي آدم يدفعنا إلى الحياة من جهة، ويعري أطروحات الجهل والتعصب الكارهة لحياتنا هذه من جهة ثانية، مستعيداً بيت السبهان (من سمّموا التّاريخَ واجتَرحوا لهم/ديناً يبيعُ على الدّراويشِ السّرابْ)، مشيراً أن الذين سمموا التاريخ كان قد اختطفوه قبل ذلك، والسبهان حسناً فعل، فالشعراء في “أمير الشعراء” يمتلكون الشجاعة لإعادة قراءة الإرث المضاد لخطاب التشدد. ومما لفت د. بن تميم في النص علاقة الشاعر الفذّة مع الحلاج، وتلك شجاعة تحسب للسبهان وتُحمد.
وأضاف د. علي بأن عبارة “أغداً ألقاك” تكاد تغدو أيقونة أو علامة مهمة من علامات النص بهدف تعرية مختطفي التاريخ، كما أن صورة كارهي الحياة تتضح في النص الذي تتجلى فيه أيضاً القدرة على تصوير ما يعرف بجماليات القبح.
الجانب الفني للقصيدة؛ تناوله د. عبدالملك مرتاض، فقال إن الإرهاب يستثيرنا جميعاً، خاصة وأنه موضوع الساعة. والقصيدة تعالج بحرقة وألم ظاهرة قتل الأبرياء في الإسلام، متماهيةً مع أغنية أم كثلوم “أغداً ألقاك”. لكن د. مرتاض لم يجد علاقة بين موضوع القصيدة وموضوع الأغنية.
وعلى صعيد آخر أكد د. مرتاض أن القافية اضطرت الشاعر إلى استعمال ألفاظ قلقة في مواضعها، مثل (يسترضي الغيابْ، من أجل الثوابْ، الحُبُّ ارتيابْ)، وأن ثمة مباشرة غير محمودة، حتى أنه خيِّل للناقد أن موضوع القصيدة كبير لكن اللغة المستخدمة في بنائه لا تخلو من بعض القلق وربما النشاز.
وبشأن البيت (يستنبتون الكُرهَ باسم محمدٍ/ومحمدٌ نهرٌ من التّحنان طابْ) قال د. مرتاض إن العجز لا يتطابق مع المستوى الشعري للصدر، وربما يكون البيت السابع من أجمل أبيات النص: (ومشوا على وجعِ الزّهورِ ليدركوا/حُوراً يسيلُ على تخيُّلها الُّلعابْ). ثم ختم د. مرتاض بأن ما قدمه السبهان في الحلقة السابقة أجمل من النص الحالي الذي تغلب فيه النظمية على الشعرية، لكنه – أي د. مرتاض – أقرّ بشعرية الشاعر وبموهبته.
ومن أصداء أغنية رائعة من أغاني أم كلثوم؛ قال د. صلاح فضل إن الشاعر أقام تضاداً جوهرياً بين روح الفن والإبداع والشعر من جانب، وروح الكراهية والتعصب وضيق الأفق من جانب آخر.
ولفت د. فضل إلى عجز البيت الرابع (يا شهوةَ البدوِ العفيفةِ للسّحابْ)، متسائلاً: لو كان المقصود بالسحاب “سحاب السماء” فكيف يكون التطلع إليه شهوةً؟ كما وجد الناقد طرافةً في استخدام الشاعر مفردة (ألبوم) ونزع أجمل الصور منها، أما تشويه التاريخ باسم الدين وبيع الأوهام وابتزاز المشاعر بالحور العين؛ فتلك أدوات غواية يعرضها الشاعر بجمال وأناقة. ووجد الناقد لدى الشاعر أبياتاً بديعة مثل: (يستنبتون الكُرهَ باسم محمدٍ/ومحمدٌ نهرٌ من التّحنان طابْ). وختم بوصف القصيدة بأنها شفافة وجدلية وفيها كثير من الشعرية الرومانسية، موضوعها ثقيل، لكن الشعر فيها من العيار الخفيف.
عائشة تستعيد “اليوريد” من ذاكرة الطفولة
“طفلةُ اليوريد” كان عنوان النص الذي ألقته الشاعرة عائشة الشامسي، وأهدته لكل أطفال العالم، وللجدات كذلك. واليوريد أو الهوريد لعبة شعبية جماعية كان الأطفال في الإمارات يمارسونها مساءً في فصل الصيف، وتعتمد هذه اللعبة على مبدأي الاختباء والبحث. لتقول في نصها:
أنسابُ في ناي الأماني طفلةً
أتلمّسُ الجدرانَ..
مَنْ عبروا؟
وأفوح (ياسا) من ضفيرةِ جدّتي
قيظاً يُهدهدُ حرَّه المطرُ
فأُخبّئُ الأفراح في جيبي رؤى
ويصيحُ طفلٌ في المدى: انتشروا…
(يُوريد) والأحلامُ تأخذنا لها
غصناً مِنَ الزّيتون ينتظرُ…
عيناي مغمضتانِ.. قلبي واحةٌ
ولها ظباءُ العينِ تعتمرُ
تحت النّخيل أريقُ صوت طفولتي
أنشودةً أخرى سنبتكرُ
بدأ د. عبدالملك مرتاض من توظيف الشاعرة ثلاث قيمٍ إماراتيةٍ تمثلت في الآس واليوريد وشجرة الغاف، لتصبح القصيدة ممثلةً للمحلية الإماراتية الجميلة. وأوضح أن إقامة نص شعري معاصر على أثر إنثربولوجي وفولكلوري ليس دائماً مما يستحب ويرتجى، ومع ذلك استطاعت الشاعرة تخريب تلك القاعدة لتقدّم نصاً شعرياً جميلاً. وقال: يبدو أن هذا النص يتراوح بين الآس المدسوس في شعور الجدّات وبين لعبة اليوريد الشعبية، ليمثل عمق الأصالة وصميم الذات في المجتمع الإماراتي؛ عبر لغة شعرية تتميّز بأنها في غاية الشّفوف والأناقة والرشاقة والنضارة والبهاء.
وأشار د.فضل أن عائشة تغرف من كنوز الشعر عندما تعود إلى الطفولة، وإلى جمال وصفها لألعاب الصّبا (عيناي مغمضتانِ.. قلبي واحةٌ/ولها ظباءُ العينِ تعتمرُ)، موضحاً أن اعتمار ظباء العين فيه ذرة من الإبهام، لكنها ذرة مليحةٌ. أما لعبة الغناء فتعبّر عنها الشاعرة بلطف (تحت النّخيل أريقُ صوت طفولتي/أنشودةً أخرى سنبتكرُ). وبالرغم من ذاك التغنّي البهيج بالطفولة؛ إلا أن القطعة الشعرية تفتقد إلى شيءٍ من العمق، إذ من المفترض أن تذكّرنا – بعد أن نكبر – بالمفارقات الموجعة للتجربة الوجودية والإنسانية، لأننا ونحن نتذكّر الطفولة لا نستطيع أن نخلي وجداننا من كل ما امتلأنا به عبر مراحل الحياة، فهل نظل نلعب “اليوربيد” طوال حياتنا؟ متسائلاً: أين أستاذة الجامعة – ويقصد بذلك الشاعرة – في النص. متمنيّاً لو أنها انتبهت إلى ذاك الأمر من المعادلة الشعرية.
وحول القصائد التي تسترجع الطفولة فإن الحنين يتجلى كما قال د. علي بن تميم. وبرأيه أن القصيدة التي قدمتها عائشة فعلت ذلك. ثم عاد إلى قصيدة “الجنوبي” للشاعر أمل دنقل (هل أنا كنتُ طفلاً/ أمْ أنّ الذي كانَ طفلاً سواي؟ هذهِ الصورةُ العائليّةُ../كانَ أبي جالساً، وأنا واقفٌ.. تتدلّى يداي).
وعاد ثانية إلى “طفلة اليوريد”، القصيدة التي تركّز على مجموعة لقطاتٍ مرتبطةٍ باللعب بعيداً عن حضور الشخصيات البارزة، ما عدا الجدة. مستعيداً ما قاله أبو الطيب المتنبي الذي عندما تذكر جدته وتذكّر كذلك جدّه فقال: (أحنُّ إلى الكأسِ التي شرِبَتْ بها/وأهوى لمثواها التّرابَ وما ضَمّا).
وأوضح الناقد أن الشاعرة في قصيدتها أحسنت في التقاط تلك اللعبة التي تقوم على الخفاء والتجلّي، تماماً كما تفعل القصيدة التي تخفي معناها تارةً، وتظهره تارةً أخرى، واصفاً ذلك بأنه إثمارٌ ماكرٌ شائق وجميل. وألمح كذلك إلى اللفتة الجميلة التي تجسدت ببدء القصيدة بصوت الناي، وانتهائها بشجر الغاف الذي يطلّ عليه نور القمر، لتضفي الشاعرة بريقاً على زمن الطفولة. وحول قوافي النص أكد الناقد أنها جميلة، مع العلم أن بعضها جاء بمثابة حشوٍ كما في تحت النّخيل أريقُ صوت طفولتي/أنشودةً أخرى سنبتكرُ)، حيث أن المعنى انتهى عند (أنشودة أخرى).
عبدالمنعم وتمثال عروة بن الورد
القصيدة التي ألقاها الشاعر عبدالمنعم حسن؛ أهّلته إلى المرحلة الثالثة من المسابقة. وحملت عنوان “تمثال شمع لعروة بن الورد“، مستدعياً الشاعر من خلالها أمير الصعاليك عروة بن الورد كما أشار د. علي بن تميم. ورغم هذا الاستدعاء؛ إلا أنها كانت أقرب في الإيقاع إلى يتيمة ابن زريق البغدادي (لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ/قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِنْ لَيسَ يَسمَعُهُ). ومما جاء في قصيدة عبدالمنعم:
ظمآن.. يرزح في وَجْدٍ يُقيّدُهُ
والصبر! كَفٌّ مِنَ النّجوى تُهَدْهدُهُ
ويَكْرَعُ الدهرَ من زِقِّ التَّخَيُّل، هل
يجلو الصَّدى وهو ذاوي الصّمت مُجْهَدُهُ؟!
وكلّما نَدَّ حَرفٌ من كنانتهِ
فرّ احتمالانِ لم تُدركهما يدُهُ
هذا صِباه نديِّاً.. أثمرتْ لغةٌ
في صوتهِ سِحْرُ رَيَّاها يُعمّْدهُ
في الرّملِ سطَّرَ أوراداً وأسئلةً
مِنَ الدّموعِ ومَا أوحى تَرَدُّدُهُ
في غربةِ الَّلحنِ والنّجوى بنى وطناً
يرسو على ضفتيهِ – ناعِساً – غَدُهُ
وقال د. بن تميم أن شخصية بن الورد هي شخصية مكافحة، تؤمن بالتكافل المجتمعي وتشعر بالغربة. مضيفاً أن نص عبدالمنعم جميل يتنامى على نحو بديع وشائق، وفيتخيّلها الشاعر ليرسم معاناة عررة بن الورد الشخصية، والذي يبدو ظامئاً فيستفّ من تراب الأرض، وهو ما قاله الشنفرى في بيته: (وأستفُّ تُرب الأرضِ كي لا يرى لهُ/عَليَّ، من الطَّوْلِ، امرُؤ مُتطوِّلُ). وقد فضّل د. بن تميم توظيف الشاعر لبيت عروة بن الورد الشهير (أقَّسِمُ جسمي في جُسُوم كثيرةٍ/ وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ).
د. عبدالملك مرتاض تساءل عن علاقة القصيدة بموضوع عروة بن الورد إيقاعاً وموضوعاً. حيث رأى أنها أقرب إلى شخصية الشاعر أبي إسحاق علي بن عبد الغني الفهري الحصري، والذي يقول في قصيدته التي عارضها كثر من أمثال الشاعر أحمد شوقي (يا ليلُ الصَّبُّ متى غدُهُ/أقيامُ السّاعةٍ موعِدهُ).
ووصف د. مرتاض لغة قصيدة عبدالمنعم بأنها عالية، وبأن صورها آسرة وساحرة، وتمنى لو أن الشعراء الشباب الذين يشاركون في المسابقة ينسجون مثلها. ثم أشار إلى إعجابه الكبير في البيت (في الرّملِ سطَّرَ أوراداً وأسئلةً/مِنَ الدّموعِ ومَا أوحى تَرَدُّدُهُ)، وكذلك في البيت (في غربةِ الَّلحنِ والنّجوى بنى وطناً/يرسو على ضفتيهِ – ناعِساً – غَدُهُ)، وقال: أي شعر هذا؟ فكأنما الشاعر نسجه من السحر، وضمّخه بالعطر.
د. صلاح فضل ألمح – كم جهته – إلى جمال اختيار عبدالمنعم لأمرين، أولهما عروة بن الورد، وثانيهما أنه ترك حسه الموسيقي ينقاد وراء سلالة شعرية بديعة، تمثلت في السلالة التي بدأها الحصري، وتبعه كثيرون كما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي الذي عارضه بقصيدة (مضناكِ جفاهُ مرقدهُ).
وما لفت نظر د. فضل أن عبدالمنعم تناول أشياء كثيرة عن ابن الورد ونحت له تمثالاً من الشمع، من دون أن يذكر خاصيته الأساسية بكونه صعلوكاً في الجاهلية مثل روبن هود في الثقافة الغربية، فيأخذ من الأغنياء ليوزع على الفقراء، وهنا تكمن شهامة الصعاليك التي عبر عنها عروة في البيت (أقَّسِمُ جسمي في جُسُوم كثيرةٍ). ونظراً لجمال كلمات نص عبدالمنعم؛ فقد رأى د. فضل أن تمثال عروة كان يمكن أن يكون من المرمر الرائق، خاصة وأن الشاعر اكتشف أحد أهم رموز الشعرية العربية عبر قصيدته.
حسن و”طرفة بن العبد في المدينة”
جمهور الشعر ارتشف آخر رشفة شعر ليلة أمس من قصيدة الشاعر البحريني علي حسن، الذي ألقى نصه “طرفة بن العبد في المدينة”، ووصف د. صلاح مرتاض النص بأنه جميل وبديع بما فيه من استحضار لرموز كثيرة في البحرين، ومما جاء فيه:
عطشَ الوحيُ
جفَّ – كالرّيحِ – واصفرّْ!
راودتُه عنْ بعضِها فتقطّرْ
ملهِماً لا يزالُ وشمُ يديْـها
كيفَ أنساهُ؟!
كيفَ لا أتذكّرْ؟!
في الّلقاءِ الأخيرِ
صبّتْ رحيلاً
بينَ أضلاعنِا وقالت ليَ اسكَرْ
صوتُها شَفّ نغمةً من زجاجٍ
وعلى رعشةِ الشّفاهِ تكسَّرْ
إنّها (خولةُ) البلادِ
وفي أحضانِها
مرتعُ الحمامِ المهجّرْ
ورأى د. صلاح فضل أن الشاعر علي طالما أنه من البحرين؛ فلا بد له أن يستحضر طرفة بن العبد، عبقري الشعر وفلذة كبد الأرض المسحورة بالجمال في البحرين. لافتاً إلى أن الشاعر يلعب لعبة التناص مع لغة طرفة، عبر إدماج نصه الشعري مع ما جاء في مطلع معلقة طرفة الشهيرة (لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ/تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ)، ليقول حسن ببراعة (ملهِماً لا يزالُ وشمُ يديْـها /كيفَ أنساهُ؟!/كيفَ لا أتذكّرْ؟!)، وتستحق خولة أن تكون أسطورة العشق، وهي كما يقول الشاعر في وصفه البديع (صوتُها شَفّ نغمةً من زجاجٍ/وعلى رعشةِ الشّفاهِ تكسَّرْ).
كما تتجلى شعرية حسن في القصيدة وهو يستلهم من بلده (حينما ودّعتُها وما ودَّعتني/صاحَ وجهُ المنامةِ: الله أكبرْ). والبيت التالي (غنّتْ الماءَ والظِّلالَ/فهبَّ الموجُ/والنّخلُ رفَّ/ والغيمُ أبحرْ). وأكد د. فضل أن شعر حسن يسيل عذوبةً وجمالاً، ويقطر حلاوة، حتى حينما يتذكر هوى الشباب؛ فإن يفعل بصورة بديعة تجلت في البيت الأخير (نورسا مرفأٍ/فتىً وفتاةٌ/ يا خليجَ البحرينِ لن نتأخّرْ).
د. علي بن تميم بدأ من الشاعر طرفة بن العبد الذي ينتمي إلى البحرين. ثم أشار إلى الحديث الوارد عبر ضمير الأنا، لكنه لم يتبيّن إن كان ذاك الحديث على لسان طرفة أم أنه صوت الشاعر. وكذلك الأمر بالنسبة لحضور خولة في النص، والذي لا يتضح كثيراً، ولا يوضحّ قضية العلاقة مع ضمير الأنا، فتأتي خولة في نهاية النص بشكل ملتبس.
ووجد الناقد في القصيدة لحظة وداع تجلت في البيت (حينما ودّعتُها وما ودَّعتني/صاحَ وجهُ المنامةِ: الله أكبرْ)، وهذا ما ذكّره بمجنون ليلى عندما قال: (وأجْهَشْتُ لِلتَّوْبَادِ حِينَ رَأيْتُهُ/وهَلّلَ للرّحمنِ حينَ رآني). وختم د. علي بأن لغة النص عذبة وشفافة، وصورها تجمع بين الوجد والخوف والقلق.
من فيلم “رابعة العدوية” بدأ د. عبدالملك مرتاض، مشيراً إلى أن نص حسن يذكره به. إذ حاول الشاعر سرد أحداثٍ كما في البيت: (غنّتْ الماءَ والظِّلالَ/فهبَّ الموجُ/والنّخلُ رفَّ/ والغيمُ أبحرْ) وهو البيت الذي جمع فيه الشاعر ظلالاً وارفة، مع أمواج هائجة ونخل راف وغيم مبحر، فزاوج بين عناصر الطبيعة، ورسم صورة بديعة في ذهن المتلقي، إن كانت لا تُطرِب فهي تُعجِب. ووجد في النص إيقاعاً راقصاً مع صور فنية قليلة، رغم أن الشاعر حاول أن يمكر مكر الشعراء، ليلعب على الإيقاع أكثر من ابتكار التصوير الفني، ومع ذلك فإن شعره جميل، ورؤيته الشعرية محلقة في أعالي الفضاء المديد.
فقرة المجاراة
مع رحلة المجاراة ألقى الشعراء الخمسة أبياتهم التي جاروا من خلالهم ما قالته الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة:
أختارُهُ وأناجيهِ على ملأٍ
ويجهلونَ الذي أهوى
ويجهلُهُ
وقد يطولُ بنا شوقٌ لرؤيَتِهِ
وقد يُقَصِّرُ أحياناً
فنُبْـدِلهُ
دينا الشيخ
الشّوقُ جرّحَ ما في الورد من خجلٍ
وعلّمَ القلبَ شيئاً هل يبدّلهُ
نحنُ الذينَ مشينا نحو غربتِهِ
ولم نزل في عتابِ البعد نسألهُ
كيفَ الطّريقُ إلى أرضٍ تعمّدنا
بالياسمينِ وحبٍّ نحن منزلُهُ
للعاشقينَ عيونُ الّليلِ ساهرةٌ
تمدُّهم بحنينٍ كم يجمّلُهُ
سلطان السبهان
مدلّلٌ هاجسُ الأشواقِ في دمنا
يحطُّ في شجرِ الذكرى ونرسلُه
يا للهوى مثلُ جمرِ الصبرِ متّقدٌ
لا بدّ منهُ وليسَ القلبُ يحملُهُ
وكنتُ في حيرةِ الأيّامِ أعزفها
ما زلتُ أوقفُ تحناني وأسألُهُ
للشوقِ قصّتهُ الأخرى وليس لنا
في الحالتينِ هنا إلّا تقبّلهُ
عائشة الشامسي
من سدرةِ النّورِ عندَ الضّفّةِ الأخرى
ينسابُ أنشودةً كبرى تظلّلُهُ
كزورقٍ فوق موجِ البحر رقَّ لهُ
قلبي الذي ينهشُ الأحزان مخملهُ
أيقونةُ الحلمِ ما زالت ملامحهُ
تعانِقُ الفجرَ سرّاً لستُ أجهلهُ
يا من أرقتُ لهُ عمري كأغنيةٍ
وشالي الأسودَ المحفوفَ مدخلهُ
عبدالمنعم حسن
في قلبهِ أمنياتٌ ليسَ تخذلهُ
وبين عينيهِ شوقٌ سوفَ يرسلهُ
ما اختارَ غيرَ هواها هاكمُ قمراً
من المناجاةِ والذّكرى تجلّلهُ
إنْ طالَ وجدٌ بها فالمدُّ منطلقٌ في وجدهِ
أصدقُ الإبحارِ أطولهُ
نهران في الرّوحِ نضاخانِ حولهما
يضيئُ زهرُ النّوى والنّبضُ جدولهُ
علي حسن إبراهيم
نايٌ على شفتي الظّمأى أسلسلهُ
يبلّني أم تُراني مَن يبلّلهُ
كما الحمامُ اشتياقي وهو متّقدٌ
إلى شبابيكها العذراء أرسلهُ
ساءلتُ عنها اتجاهَ الغيبِ منهمرَ الكيان
شاغلني ما كنتُ أسألهُ
أبدلتُ روحيَ روحاً من ملامِحها
وحبّها فيّ حاشى لستُ أبدلهُ
وأبدى أعضاء لجنة التحكيم إعجابهم بمعارضة الشعراء لأبيات الشاعرة لميعة عباس، مشيراً د. مرتاض إلى أن المعارضة في الشعر قديمة بدأت مع جرير والفرزدق، وقد عرفت حينها بالنقائض. فيما أوضح د. فضل أن الهدف من فقرة المجاراة هي زيادة تأكد أعضاء اللجنة من أن طاقة الشعراء موجودة، وأنهم قادرون على الإبداع والبرهان على أنهم شعراء حقيقيون.
خمسة نجوم في الأسبوع القادم
في ختام الحلقة أعلنت لجين عمران عن أسماء شعراء الحلقة الثامنة، وهم: أحمدمحمد عسيري من السعودية، رابعة العدوية من الجزائر، عبدالسلام حاج نجيب من سوريا، ومحمد الأمين جوب من السنغال، وهبة الفقي من مصر.