صراحة نيوز – بقلم جمال الدويري
…ونحن بين مصدق ومكذب, بين الأمل والقنوط, وبين اليقين والحدْس, وبين أن نستيقظ على نور فجر طال انتظاره, او صباح مثل كل صباح, لا يجد به المنتظر قطاره او بعض شمسه التي ما تلبث ان تغيب خلف سحاب خبرنا عتمته وقلة مطره, حتى يبَّت الأرض وجف الزرع والضرع, الا لطغمة عرفت من أين تؤكل البلد, ولجزارين وطن, يبيعونه عظما ولحما, بعد ان امتصوا آخر قطرة خير وبركة ومال عام من خلايا أضرعه المكرمشة الجافة, نعيش حالة انفصام غير مسبوقة, وفقدان وزن واتزان لم نواكبها بهذه الدرجة المفرطة, الا على أعتاب النكسات والنكبات وألوان الأشهر والأياليل.
العفن والرطوبة والعتمة, ورغم طلوع الشمس كل صباح, التي نخرت وجداننا وعظامنا وفكرنا وباقي ما تبقى منا, لم تترك لنا فسحة لالتقاط الأنفاس والحس بالأشياء, وسلبت من ذبالة فانوسنا نسغ الزيت ورائحة النور الذي كان مخزنا في أرواحنا الوطنية للغد والأجيال.
وبعد ان بيع ما بيع, ونُهب ما نُهب, وأمحلت الكوائر وأقحطت الأرض, وبتنا عالة على أنفسنا أولا, ونهبا للمخصخصين والنوويين والصلعان الاصطناعيين, ننتظر سنابلا لا تحبل ومزاريع لا تُجنى لقلة الفائدة والريع, ندفع لبدائل الوطنيين الخاوات والأتاوات ورسوم الطيران في فضائنا والمكوث المشروط فوق أرضنا وترابنا وشواطئ ميّتنا وعقبتنا, وبعد ان بات الإنسان, هذا الأغلى ما نملك, رهن حالة جوع وضنك وعوز غير مسبوقة, مجبورا لأوامر من نعرفه ومن لا نعرفه, وحارسا على ابواب المرتزقة وصيادي الفرص ورعاة المال السحت, وبعد ان تجلّت غربة المواطن بالوطن, وعانت الهوية وخاف المستقبل من الغد والقادم, فقد دخل المركب الذي ضحى الكثيرون من اجله بالدم والعرق والصبر وجسيم العطاء, عباباً هوجاً ولجاجا مستديما لا رؤيا لمنارة في اخره, ولا حدسا لآخر موجه وغضبة إعصاره.
وفي هذا الخضم الشعبي من عدم الرضا والخوف على الوطن, الذي تخلله, الرجاء والأمنيات والطلب المتحفظ, ومرَّ بِدَبّ الصوت وارتفاع السقف والربيع الذي لا يشبه الربيع, وثم خنق الأنين وكتم الأنفاس وحبس الدواوير والفكر والخواطر, تتتابع الأحداث كالموج, وتتعاقب السقطات والإخفاقات الرسمية مثل كراديس جيوش, يقبع البعض من أصحابها في بطن الحصان, وأخرى تدق ابواب السور للاجتياح, وثالثة تعيث بين هذا وذاك فسادا ولملمة لآخر تعريفة حمراء في جيب أرملة او يتيم, أو دنانير قليلة, اكتنزها محتضر يتدرب على جواب الملكين وظلمة اللحد, كعقدة كفن او صابونة غُسْلْ بلا كافور.
وحتى وصلنا قمة الأمن والأمان, والسطو المسلح والتشليح المسلح والنهب المنظم وانفلات السير والشوارع, وموت الفجأة والضغط والسكر والخبيث من الغذاء والدواء والماء والمرض, وضعف الرقابة والإدارة والغش والرشوة والخداع وتراجع للفضيلة وسقوف الانسانية…وغير ذلك أكثر وأخطر وأعظم,
وتجاوزات لمسؤولين عامين وأصحاب مناصب ومراتب وألقاب, تسبق حركاتهم وسكناتهم وترافق نرجسيتهم وغطرستهم الى كل حدث وجغرافيا, حتى وكأنهم يلبسون المنصب جاها وثيابا ونياشينَ فوق أعضائهم لا تخفى على أحد, وإن خفت برهة ذكرونا: الا تعرف من أنا؟
يطحنون المطحون ويدوسون المغبون في الأرض ولا يمشون عليها هونا, يخاطبون الناس بعلو, وبما لا يرغب الله ولم يأمر, والردع شحيح الى مفقود, والمحاسبة طفيفة الى معدومة, والمؤسساتية غائبة لا نظفر بأثر لها حتى ترتحِم.
وإن أدركنا الأمل يوما, وتنفسنا نسغا موحيا بفرج, (فَغَشَ) رأسنا الحنت, وأدركنا الضبع يبول على أطراف ثيابنا الى باب (موكرته), او نستيقظ من الحلم الوردي, يشغلنا مسح الدم واجترار الألم والبحث عن السلامة.
أُقيلَ ام استقالْ…فأمر سيّان, ولكن البون الشاسع في الحدث, هو إن كانت هذه بداية ثورة بيضاء حقيقية مصلحة, أم حالة انتقائية منفردة لن يكررها التاريخ ولن يستنسخها الواقع المعاش والتجربة المريرة.
الفساد بيّنْ, والتغول والاستقواء بالمنصب بيّن, ودوس القوانين والأنظمة واضحة جليّة, مثل الحلول والعلاج وأساليب الردع.
الوطن بحاجة قرار أعلى, و (ريتز) كبير, وكبير جدا, لفساد كبير وفاسدين كبار كثر, ثورة بيضاء, تتخطى الأسماء والتاريخ والتراث والمتوارث والمنظومة المغلقة المحمية, تردّ منهوبات الوطن وتضع الفاسد المناسب بالسجن المناسب, والا فقد طاش السهم وخاب الرجاء والأمل؟