صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
بعكس كل الأصوات المرتفعة والمسيرات الاحتجاجية في مختلف مناطق المملكة ، والتي تطالب بمكافحة الفساد ، فإنني أطالب ” بقوننة الفساد ” وإصدار التشريعات اللازمة لحمايته من العبث . ففي هذا السياق أطالب باستحداث وزارة جديدة تحت مسمى ” وزارة الفساد ” على أن يرأسها أحد كبار الفاسدين المخضرمين لمدة أربع سنوات غير قابلة للتجديد ، لكي نتمكن من تطبيق تداول السلطة بين أعضاء هذه الشريحة المبدعة من أبناء الوطن .
قد يعتقد البعض أنني أطرح هذا الاقتراح من قبيل المزاح أو التهكم ، ولكنني أوأكد لإولئك المعتقدين أنني أعني حقيقة ما طرحت دون مواربة أو تضليل ، وليس في ذهني أية معان باطنة أو مضمّنة بين السطور ، وسبيلي إلى ذلك هو ما توصْلتُ إليه من خلال المعطيات التالية :
لقد تضمنت كتب التكليف الملكية التي وُجهت إلى الحكومات المتعاقبة ، منذ بداية تأسيس الدولة الأردنية وحتى الآن ، تأكيدات متكررة لمحاربة الفساد والفاسدين والحفاظ على ممتلكات الدولة بشتى أنواعها . وفي المقابل تعهّدتْ تلك الحكومات بالاستجابة التامة للتكليف الملكي باجتثاث الفساد ، وصيانة الأموال والممتلكات العامة ومعاقبة الفاسدين .
وعلى مرّ السنين وتقلب الحكومات على سدة الكراسي التنفيذية ، لم نلمس كمواطنين نتائج إيجابية تقنعنا بأن الوعود أخذت طريقها إلى التنفيذ ، وأن عجلة الإصلاح بدأت بالدوران . بل على العكس تماما وجدنا الفساد قد تجذّر وانتشر ، وتكاثر الفاسدون وقويت سطوتهم ، فامتدت أيديهم الطويلة إلى حرمات الوطن ، تعيث فيها فسادا دون حياء أو وجل .
وفي محاولة لاستغفال الشعب وإيهامه بجدية محاربة الفساد والفاسدين ، ابتكرت إحدى الحكومات في السنوات الأخيرة دائرة أسمتها ” دائرة مكافحة الفساد ” . تَعاقَبَ على رئاستها نفر من أبناء الوطن الشرفاء ، استطاعوا بجهودهم الحثيثة تحقيق بعض النجاحات في كشف الفساد على المستويات الدنيا وإحالة المعنيين إلى المحاكم المختصة .
كما أبدى جلالة الملك عبد الله الثاني قبل بضعة أشهر دعمه الكامل لهذه الدائرة ، وشجعها على ملاحقة الفساد والمفسدين أنى كانت مواقعهم ومهما كانت صفاتهم الوظيفية ، فاستبشرنا خيرا بهذا التوجه . إلا أن عقبات مصطنعة اعترضت سبيلها ، فلم تعد طليقة اليدين لتقتحم أوكار الفساد في عقر دارها بحرية . وأولى تلك العقبات كانت إغراق الدائرة بملفات فساد متراكمة منذ سنوات طويلة ، إضافة لملفات جديدة ترِدْها بين حين وآخر . وهذا عبء يفوق قدرة الدائرة لإنجازها في وقت قصير ، نظرا لمحدودية أعضائها مقارنة بحجم ما وصل إليها من ملفات . ومن الواضح أن الهدف الخفي وراء ذلك هو إظهار عجز الدائرة عن تنفيذ مهمتها أمام الجميع .
وثاني هذه العقبات برزت عندما وصل الأمر إلى رؤوس كبيرة ، وعندها رُفع ” سلاح الفيتو ” في وجهها ليوقف سير الإجراءات التحقيقية تحت مظلة بعض القوانين النافذة ، وتم تجاهل التوجيهات الملكية . والمثال على ذلك ما فعله في الآونة الأخيرة رئيس مجلس النواب دولة السيد فيصل الفايز ، ليحول القضية التي كانت قيد البحث إلى دهاليز جانبية تغيّبها عن الأعين والأذهان ، ويتكفل الزمن بنسيانها من قبل المواطنين . وهكذا يقام الحدّ على الفاسدين الصغار وينجو منه الفاسدون الكبار في عصر الحداثة والتطور .
اكتشاف الفساد والمفسدين ليس معضلة بحد ذاته ولا يحتاج إلى تحقيقات مطولة ، فهو معروف لعامة المواطنين وأصحابه معروفين أيضا . ولكن المعضلة الحقيقية تتمثل في الطلب من المواطنين البسطاء تقديم الإثباتات على الفسادين ، متناسين أن الفاسدين خبراء في إخفاء معالم جرائمهم . إن مهمة الإثبات واكتشاف الفساد تقع في حقيقة الأمر على عاتق الأجهزة المختصة في الدولة ، والتي تمتلك الوسائل اللازمة للبحث والتحري وليس على عاتق المواطنين . والطريق الأمثل إلى ذلك يكمن في سنّ قانون ” من أين لك هذا ؟ ” ليفرض على المشتبه به إثبات براءته بنفسه من التهم الموجهة إليه . أما الفساد الوظيفي واستغلال السلطة فمن السهل إثباتهما ومحاسبة القائمين عيهما إذا كانت هناك نية صادقة في المحاسبة .
فالفاسدون الذين لبسوا عباءة الإصلاح ، وأداروا الدولة على نظرية الشركات ، ومرروا علينا أفلام الاستثمار والخصخصة ، وبيع أصول الدولة بذريعة تسديد المديونية ومكافحة البطالة ، اكتشفنا في وقت متأخر أن المديونية قد تضاعفت وتفاقمت البطالة في عهدهم ، وأصبحنا في هذه الأيام على شفير الهاوية أمام البنك الدولي ومؤسسات العالم المالية .
إن كافة الجهود التي بُذلت خلال العقدين الماضيين لمكافحة الفساد ، لم تحقق أهدافها ولم تخفف من عدد الفاسدين . وتأكد لنا بأن الفساد يشكل قلعة حصينة عصيّة على الاقتحام في ظل الظروف الراهنة ، لا بل أنه يفرّخ بين حين وآخر فاسدين جدد يتولون النخر في بنية المؤسسات الوطنية ، وتدمير هيكل الدولة في سبيل الفوز بمصالحهم الشخصية .
وفي هذا المجال أحب أن أسرد للقارئ الكريم القصة القصيرة التالية : ” العالِم كارل ميبيوس قام بتجربة هامة لمعرفة نظام العلاقة بين ( المفترس والفريسة ) . أجرى ذلك العالِم تجربته على نوعين من السمك ، فأحضر حوضا مليئا بالماء وقسمه بواسطة حاجز زجاجي إلى قسمين . وضع في القسم الأول سمكة مفترسة من نوع ( الكراكي ) ووضع في القسم الثاني سمكة من نوع ( الشبّوط ) . ومنذ اللحظة التي شاهدت فيها سمكة الكراكي فريستها سارعت بالهجوم عليها ، دون أن ترى الحاجز الشفاف فاصطدمت به بقوة أعادتها إلى الوراء مندهشة وأنفها مجروح بصورة بليغة .
كررت الكراكي هجومها عدة مرات لكنها لم تنجح في أي منها بتحقيق هدفها ولم تجّنِ من فعلتهِا سوى الضرر برأسها وفمها . وشيئا فشيئا بدأت سمكة الكراكي المفترسة تدرك أن هناك قوة خفية تحمي سمكة الشبّوط ( الفريسة ) ، حيث أن كل المحاولات التي أقدمت عليها باءت بالفشل . ومنذ تلك اللحظة فصاعدا توقفت الكراكي عن محاولاتها الفاشلة لاصطياد فريستها . وفي هذا الموقف تم إخراج الحاجز
الزجاجي من حوض الماء ، وبدأت السمكتان تسبحان في الماء جنبا إلى جنب كصديقتين ، بعد أن اقتنعت الكراكي أنه محرّم عليها مهاجمة الشبّوط ، لأن مصيرها سيكون سيئا ومريرا لو أقدمت على ارتكاب أفعال كسابقاتها ، والتي لم تجْنِ من ورائها سوى الضرر . وإزاء هذا الموقف رضخت الكراكي للأمر الواقع وقررت المهادنة .
هذه القصة تذكرني بتصرفات حكومتنا الموقرة التي تمثلها سمكة الكراكي ، وتشبه عمل الفاسدين الذين تمثلهم سمكة الشبوط . فرغم محاولات هذه الحكومة ــ ومثلْها جميع الحكومات السابقة ــ اختراق الحاجز الشفاف ومهاجمة الفاسدين ، إلا أنها ارتدّت إلى الوراء والدماء ترشح من أنفها بعد اصطدامها بالحاجز الذي عجزت عن رؤيته . ونتيجة لذلك راحت الحكومة تكابر بالمحسوس وتلجأ إلى عزف سيمفونية ” مكافحة الفساد ” على مسامعنا دون تنفيذ ، وتتعايش مع واقعها المرير بعد أن فشلت في تحقيق المهمة التي تكفلت بها أمام الجميع .
قوننته الفساد من خلال وزارة خاصة به سيكون تجربة عالمية رائدة . على أن تعتمد لها إستراتيجية محددة تتناول هذا التخصص الجديد ، بحيث تقتطع من الأمور القابلة للفساد نسبة لا تتجاوز 20 % ، تتولى الوزارة توزيعها على الفاسدين بعدالة وحسب مؤهلاتهم . أعتقد أن هذا الأسلوب سيوفر على الدولة ما لا يقل عن 80 % من الأموال المنهوبة التي يستحوذ عليها الفاسدون بمهارتهم دون حسيب أو رقيب.
دولة الرئيس . . أقدم على فعلها . . وانشئ ” وزارة للفســاد ” ولكن قيّدها بقوانين صارمة ، ولتكن أنت صاحب المبادرة الأولى على مستوى العالم ، في مجال مكافحة الفساد بطريقة عملية تخالف كل الطرق التقليدية المعهودة . وأنصحك أيضا بالإعراض عن ذوي الأصوات العالية والمسيرات الاحتجاجية المنادية بمكافحة الفساد ، فذلك حلم أكبر من طاقتك وطاقة أية حكومة قادمة .
ولتتذكر دولتكم أن الحاجز الزجاجي بانتظار كل من يُقدم على مكافحة الفساد بطريقة مباشرة . . لكي يُـدمـي أنـفــه . افعلها دولة الرئيس ” فقوننة الفساد هو الحل . . ! ” . وإذا ما فعلت ذلك فإنك ستخدم الوطن وتحدّ من وباء الفساد ، فتكسب رضا الناس في الدنيا . . وتنال ثواب الآخرة . . !
١٣ /6 / 2011