ربما دار في خلد من يقرأ العنوان أن الحديث سيدور حول هل ننجرف مع الحرب الطاحنة الدائرة على الأراضي الأوروبية، حرب كسر العظم بين أكبر قوتين في العالم الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأمريكية والتي لا يعلم مداها ولا آثارها إلا الله، فلا الروس سيقبلون بتحويل الأراضي الأوكرانية إلى وحل أفغانستان جديدة ولا الأمريكان سيقبلون بالمزيد من كسر هيبتهم بعد تمريغ الروس بها التراب عندما انتزعوا جزيرة القرم رغماً عن أنفهم وأنف العالم أجمع، ولذلك تبقى كل الاحتمالات مفتوحة مع حرب كهذه، لكن الحديث اليوم سيكون عن حرب أخرى لا تقل خطورة على أجيالنا القادمة، والتي تزداد معها كل يوم التحديات والمغريات من حولنا، وما نراه من محاولات مشبوهة للتأثير على معتقداتنا وعاداتنا وتقاليدنا والعمل على غرس مفاهيم غريبة في عقول أولادنا من خلال مختلف وسائل الإعلام هنا وهناك، وغيرها من الطرق ذات التأثير الكبير والمباشر على فلذة أكبادنا ومن يحمل أسماءنا من بعدنا، وقد كان ومازال وسيبقى من أكثر ما يهتم له أي أب وأم كيفية الحصول على أفضل تأمين لمستقبل أولادهم، تأمين شامل بأفضل تأمين صحي يمكن الحصول عليه لأجل تخفيف آلامهم وأوجاعهم، وأفضل المدارس التي توفر لهم أفضل التعليم، وأفضل مجتمع يعيشون فيه بدون أي مؤثرات سلبية عليهم، ولكن هل هذا الأمر قابل للتطبيق، وهل يمكننا تحقيقه لهم بالفعل؟
فكثير من الآباء والأمهات يجلسون بالساعات يشكون همهم لبعضهم البعض، هذا الولد غير مطيع، وهذه البنت متهورة، ونتائج الأولاد في المدرسة لم تصل إلى الطموح والمبتغى برغم كل الجهود التي نبذلها لأجلهم، وهذه وذاك وغيرها من الملاحظات التي لا تنتهي على أولادنا، ويبقى يلوح في الأفق الخوف من كل ما يحيط بنا من أخطار وعوامل من خارج جدران منازلنا، ترى مع كل هذا هل ننجرف مع التيار؟ وهل ينجرف أولادنا مع هذا التيار الذي يزداد قوة وشدة يوماً بعد يوم؟ وأين يكمن الحل الذي يحفظ أولادنا ويجعلهم كما نتمنى ونحلم، سؤال يتردد دائماً دون إجابة شافية في كثير من الأحيان.
يروي أحدهم أنه كان مرة مع صديق ذو منصب رفيع، ومع ذلك كان يقتطع من وقته يومياً ساعات للعمل الخيري، فقال له: لماذا لا تركز نشاطك في عملك الرسمي وأنت صاحب منصب رفيع؟
ليجيبه: أريد أن أبوح لك بسر في نفسي، إن لدي أكثر من ستة أولاد، أخاف عليهم من الانحراف، وأنا مقصر في تربيتهم، لكني رأيت من نعم الله علي أني كلما أعطيت ربي وقتاً أكثر كلما رأيت ذلك في صلاح أبنائي!
وذلك سعيد بن المسيب رحمه الله الملقب بسيد التابعين في زمانه، كان كلما أراد أن يصلي قيام الليل نظر إلى ابنه وقال: “إني أزيد في صلاتي ليصلحك الله وليحفظك الله ثم يبكي وهو يتلو قول الله تعالى: {وكان أبوهما صالحاً}”، وهنا نجد السر، السر في الآية 82 من سورة الكهف في كتاب الله عزوجل والذي منع هدم الجدار الذي تحته كنز لحفظه للأولاد لأن أبوهما كان صالحاً، (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشهدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً)، هذه هي إذن، و”كان أبوهما صالحاً”، يخبرنا الله عزوجل هنا وقبل أكثر من 1400 عام عن النظرية التربوية الحديثة “التربية بالقدوة”، فبدلاً من الصراخ والعنف اللفظي والجسدي والتهميش والإيذاء يكمن المفتاح في صلاح الوالدين، وهما أول مدرسة يتعلم منها الولد حتى طريقة تعامله مع النفس الذي يخرج منه، فعندما يرى أولادنا من خلالنا تطبيقاً عملياً صادقاً لما نأمرهم وننصحهم به من طيب الأقوال والأعمال سيكون السبيل الذي يصل بهم للحصول على أفضل تأمين يحمي ويحصن مستقبلهم بإذن الله، فليس المطلوب أن نضع اولادنا أمامنا طيلة ساعات اليوم ونعد عليهم أنفاسهم فهذا أمر مستحيل، في المقابل نعمل على تعزيز مخافة الله لديهم والرقابة الذاتية وترسيخ أفضل الأخلاق فيهم من خلال رؤية ذلك بمن يسهرون الليالي على تربيتهم لنكون أجمل مثال لهم في حياتنا وحتى بعد مغادرتنا لهذه الدنيا، مع مواصلة الدعاء لهم ما وسعنا ذلك مهما مرت من السنوات أو حققوا من النجاحات في حياتهم، مع ضرورة مراقبة تصرفاتهم ما أمكننا ذلك خصوصاً قبل بلوغهم سن الرشد، وبعد ذلك لا يكلف الله نفساً إلا وسعها فلم يطلب خالقنا منا الدخول إلى قلوب أولادنا وتغييرها بأيدينا فهو أمر ليس لنا ولا نحاسب عليه، ولا أن نعمل على أن يكون أولادنا نسخة مكررة منا، بل أن نؤدي واجبنا معهم بما يرضي الله عزوجل كأمانة وضعها بين أيدينا ليكونوا أطيب وأجمل امتداد لنا ولأنفسهم ولذريتهم من بعدهم في هذه الحياة، حفظ الله أولادنا وأولاد كل من يمرون بين هذه السطور وملأ قلوبهم وعيونهم بالفرح بهم دائماً.