صراحة نيوز – بقلم الكاتب احمد ابو خليل نقلا عن صفحة فيسبوك الجزيرة – الاردن
حضرت مساء الجمعة المؤتمر الشعبي الذي دعت إليه عشائر الحويطات في بلدة الجفر لمناقشة قضية الرقيب أول معارك أبو تايه.
أرجو أن يسمح لي القارئ بكتابة هادئة رغم أجواء الغضب في المكان. إنه في الواقع غضب ممزوج بالمرارة من النوع الذي تشعر به عندما يفاجئك صديق بإساءة غير منتظرة. لقد كانوا يتوقعون أن يكافأ ابنهم “مْعارك” كحريص على جيشه وبلده، لا أن يعاقب ويوصف بالمجرم، تلك الكلمة الجارحة بالنسبة لهم، ثم أن يغرّم بثمن الطلقات، وتلك رغم أنها عقوبة هامشية أو إجرائية بالنسبة للقوانين لكنها تحمل عندهم معنى قاسياً.
كما أرجو ان يحتملني القارئ على الإطالة، لأني أريد أن أنقل مشهدا مميزا في “الاجتماع السياسي الأردني”، بمعنى أنني لست معنيا هنا بكتابة بيان أو موقف أو تحليل سياسي، فالحدث “فوق سياسي” وهو حكما “فوق المعارضة وفوق الموالاة” بالمعاني الدارجة.
ما شهده الجفر عصر الجمعة شأن كبير، وهو مفتوح على طريقين: فهو مكتظ بالمعاني والدلالات الإيجابية وطنيا، لكنه يحتمل المخاطر. وسوف يعتمد الأمر على مدى ذكاء أو غباء الجهات صاحبة القرار.
وبلدة الجفر -لمن لا يعرف- تقع في عمق البادية (كدت أقول الصحراء لكنها كلمة لا يفضلها البدو) على يسار المسافر من عمان وقبل أن يصل تقاطع معان. وهي تبعد عن الطريق العام مسافة تصل إلى 50 كلم خالية من العمران والسكان.
عندما وصلت كانت الساعة حوالي الواحدة ظهراً، هناك متسع من الوقت بانتظار موعد المؤتمر في حوالي الخامسة عصراً. عند أول الطريق كانت تقف حوالي عشرة سيارات وقد ترجل منها عشرات من الرجال تبين أنهم جزء من وفد “بني صخر” توقفوا لانتظار إخوانهم باقي الوفد لكي يصلوا ويدخلوا معاً إلى المؤتمر، فذلك أكثر قيمة و”أوْجب” كما قالوا.
تعرفت على بعضهم وتحدثنا سريعاً، كانوا غاضبين و”عاتبين”.
قال لي أحدهم: “كل عيالنا عسكر، إذا ما طخوا على اللي يعتدي عليهم بكونوا جبنا ومقصرين، وإذا طخوا شوف يصير فيهم!”.
ذكر لي أحدهم قصة سابقة عن جندي صخري كان يقف على باب معسكر، فاقتربت منه سيارة وحاولت الدخول وضربت “برميلاً” كان موضوعا على المدخل كإشارة، فأطلق الجندي النار وقتل السائق، ليتبين أنه أحد الأشراف، فيتدخل الملك المرحوم حسين، ويعلن براءة الجندي لأنه قام بواجبه، ويتوجه بجاهة نحو بيت القتيل للصلح. (بالمناسبة، مثل هذه الروايات الشفوية، عندما يتم تبنيها جماعياً تصبح بقوة الحقائق حتى لو كانت تنطوي خلل في دقتها، فهي تتحول إلى ما يشبه الأسطورة).
غادرتُ جماعة بني صخر، وتوجهت في العمق نحو بلدة الجفر. كان الأهالي قد نصبوا خياماً وبيوت شعر كبيرة في ساحة على يمين الشارع. كان هناك العشرات من الشباب من لجان التنظيم بعضهم للإرشاد وحفظ حركة السير وآخرون يصطحبونك إلى الداخل، وبعضهم للضيافة… الخ. كل شيء يجري بترتيب. جميعهم يرتدون أثوابا بيضاء، غير أن الشباب العاملين اتخذوا وضعية العمل، فرفعوا الأثواب وعقدوها على خصورهم، لتسهيل الحركة.
كل منهم يعتبر نفسه “معزّب”، ويقوم بذلك بمنتهى الدماثة واللطف. قد يغضبون ويرتفع صوتهم على بعضهم البعض، لكنك كضيف لن تلق سوى الترحيب، ورغم ما يحيط من أجواء الاستعداد والتأهب، إلى درجة أن بعضهم كان يرفع سلاحه ويطلق النار، لكنك إذا تحدثت مع أي منهم، سيقول لك وعلى وجهه ملمح من حياء الرجال الذي يشتهر به الأردنيون: “والله نْلَزّينا لَز” أي أجبرنا إجباراً. قال لي أحدهم: “والله الشغلة بتمر من فوق خشومنا”، وأضاف “كنا نريدكم بمناسبة فرح”، مع عبارات التأكيد على الوطن والأردن والجيش.
على جوانب بيوت الشعر وُضِعَت اليافطات تعلوها صورة الجندي (معارك) مع عبارات فيها من التذكير واللوم والتحدي، وفي المنتصف صورة كبيرة للشيخ عودة أبو تايه وإلى جانبها صورة للجندي معارك. وفي وسط الساحة ككل انتصبت مظلة كبيرة جلس على أحد جوانبها كبار المستقبلين.
على مدى ساعات تولى عرافة الحفل خطيب مفاجئ في أدائه. رجل خمسيني كما يبدو من ملامحه (رغم ان ظروف العيش في بيئة صحراوية تعطي البدوي عادة ملامح عمر أكبر من الواقع) عيونه مفتوحة على كامل المشهد، يرحب بالحضور، ويلقي شعراً، ويتحدث في قضايا الوطن والتنمية والجيش، وينتقل إلى التاريخ، ثم يعود ليوجه الشباب المكلفين بالضيافة والنظافة، ويراقب حالة الكراسي، ويطلب من أهل الجفر إخلاء المقاعد للضيوف، فيستجيبون بهدوء، لأنه مع بدء المؤتمر سوف يجلس المعازيب كبارا وصغارا على الأرض، ويلتزمون من دون تأفف. ويستمر هذا الخطيب المبدع لساعات دون تعب، وعندما تقدم منه أحدهم عارضاً أن يريحه قال بصوت عال: انا لست تعباً، وأضاف: ترى يا إخوان اللي ودّه انتخابات، ترى مقاعدكم جاهزة بالبلديات! (يبدو أن أحد المترشحين كان يريد الكلام!!).
حضرت الوفود بعراضات كبيرة رافقتها الأهازيج أحيانا وإطلاق النار أحياناً أخرى، بعض الوفود حملت يافطات للتضامن والتحية، وقوبلت بالاستقبال المناسب.
بدأ المؤتمر رسميا بعد صلاة العصر مباشرة، وأعلن عريف الحفل أن البداية ستكون بحرق العلم الأمريكي وتم ذلك وسط هياج وهتاف بموت امريكا.
ثم تولى الكلام المتحدث الرئيسي صايل أبو تايه “الباشا” الذي قدم للناس روايته لما جرى مسنودة إلى شهود في مختلف المواقع، وعرض تفاصيل قال إنها موثقة في أوراق بين يديه بعضها محلي وبعضها أمريكي حصل عليها بحكم موقعه كمستشار في الديوان الملكي، وقال إنه سيوزعها على الإعلام.
وقدم رواية عن عمليات تلفيق وتزوير وبالأسماء التي قال إنها متورطة، واختصر الأمر بتأكيده إن قرار الحكم سياسي أمريكي صيغ من قبل محام أمريكي وابنته حضرا تفاصيل المحاكمة، وقال إن أطرافاً أمريكية تستعد لخطوة قادمة بهدف تطبيق قانون “جاستا” ضد الأردن.
وأكد أكثر من مرة على الولاء للوطن والجيش والملك، ولكنه أكد على رفض قرار الحكم ضد الرقيب أول معارك، الذي أكد انه ليس مجرد “غفير” على البوابة، بل مسؤول طلب منه تطبيق قواعد الاشتباك في ذلك اليوم بالتحديد بعد أن حصل اشتباك بين المدربين الأمريكان والمتدربين السوريين ذهب ضحيته عدد من السوريين.
ثم تحدث الدكتور احمد عويدي العبادي الذي قال كعادته كلاما جميلاً عن الأردن والأردنيين، لكنه (للأسف) كرر فكرته التي يتبناها منذ سنوات والتي تقول إن علينا أن نتوجه للامريكان والانجليز والفرنسيين والاسبان وإقناعهم بأن من يعتمدوهم كأصدقاء لهم في بلدنا ليسوا هم الأصدقاء الفعليين!!! فالأمريكان والغرب ليسوا خصوماً لنا ونحن لسنا خصوما لهم!! (إشارات التعجب والأسف من عندي). الفكرة خطيرة، غير أن ما يطمئن أن نتائج الاستطلاعات الأمريكية تقول إن الأردنيين في أعلى قائمة خصوم أمريكا على المستوى العالمي، فضلاً (وهذا هو المهم في هذه اللحظة) عن أن الألوف الذين حضروا المؤتمر ظلوا يؤكدون على أن امريكا هو عدوهم وهتفوا بموتها وحرقوا علمها على مرآى ومسمع منا جميعاً بمن فينا الدكتور العبادي.
ألقيت كلمات أخرى بعضها لشخصيات من مناطق البادية وغيرها وبعضها بأسماء وفود حضرت باسم عشائر ومناطق، وهي تضامنية بالمطلق. لكن الألطف هو حجم الأشعار التي ألقي بعضها والتي تشكل جانبا من الأدب أو الإبداع الأدبي البدوي الخاص بالحدث. وبالمناسبة لا يزال الشعر وسيلة تعبير تحظى بالتفاعل الشعبي الواسع.
المؤتمر اجتماع وطني كبير غاضب وشاعر بالمرارة. كان الأردن كوطن حاضرا بقوة. والجيش الأردني كذلك. والاجتماع حمّال خيارات، والحضور إيجابيون بالمجمل.. قال خطيبهم: نسيتونا بالتنمية فأغلقنا فاها، ونسيتونا بالتعليم فأغلقنا فاها، وقمنا بذلك لأجل عيون بلدنا، لكن لا تمسوا كرامتنا.
لقد حضرت قضايا التنمية والإهمال والإفقار، وبالمناسبة يعتبر الجفر من جيوب الفقر الدائمة، وتضم البادية الجنوبية أكثر من جيب فقر، وللحويطات منها نصيب. (دعكم بالمناسبة من الكلام حول كبار المهربين وأثرياء الصحراء، فهذه قصة أخرى ولكنها لا تمس مصداقية الكلام عن الفقر).
أما ما يتعلق بشكل تنظيم المؤتمر، أي اعتماده على القبيلة والعشيرة، وهو ما لا يفهمه كثيرون في العاصمة والمدن والمؤسسات الرسمية والأهلية والأحزاب المعارضة والموالية… الخ، فلدي كلمات قليلة فقط الآن: فالأصل أن الناس يبحثون عن شكل للتعبير عن مصالحهم وقضاياهم، وهم يختارون الممكن والمناسب والمتاح، وهذه عناصر ليسوا هم المسؤولين عنها. لكن الأهم أنه في التطبيق أعطت القبائل والعشائر للوطن كل ما تملك، ولم تمانع بل رحبت بنمو الوطنية والهوية الوطنية، بالطبع وفق مواصفات خاصة لا تلغي هويتها الفرعية، بل في حالة “الحويطات” هم قدموا الرجال والمال (أول المال العام نقداً و”سمناً” حيث كان السمن عملة ووسيلة تبادل هامة في المنطقة) وقد قدمه نيابة عنهم عوده أبو تايه، وهو أمر موثق ليس في الرواية الشعبية فقط بل والرسمية أيضاً.
لقد كتبت قبل سنوات بحثا بعنوان “تبدلات منحنى الطلب على العشيرة في الأردن” وقدمته في مؤتمر علمي في الجامعة الأردنية، ولا أزعم انه كان بحثاً متقناً، لكني رصدت فيه تبدلات العودة إلى العشيرة حينا والتنكر لها حيناً آخر. وعلى العموم هذا مجال نقاش آخر.
اتمنى أن يدرس ما جرى بذكاء وانتباه، من الدولة وكل المؤسسات والأطراف. لأن الاستخفاف به يقود إلى استخفاف أكبر أكثر خطورة.
(أشكر الأصدقاء الذين أبدوا اهتماما وأرجو المعذرة إذا كان ما كتبته أقل من المتوقع)