صراحة نيوز خاص
يتميز العراق جوهرياً عن باقي دول الشرق الأوسط بخصائص تمنحه أهمية استراتيجية خاصة في العالم العربي. فالتنافس بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران قدّ حول العراق إلى ساحة رئيسية للمواجهة، وحلقة هامة في سلسلة الصراعات الدائمة في المنطقة.
وفي الظرف الراهن، لا يمكن عملياً تصور مدى تأثير المواجهة الأميركية – الإيرانية المباشر وغير المباشر على العراق، ناهيك عما يعانيه من قضايا جدية مهددة لأسس الدولة.
لقد بدأت مشاكل العراق منذعام 1920, حين اتخذت عصبة الأمم قراراً بتأسيس الدولة الهاشمية على الأراضي التي كانت جزءً من السلطنة العثمانية ، مقسمةً بذلك العراق إلى مجموعات عرقية ودينية: سنة, شيعة وأكراد.
لم يكن يوماً من الأيام اهتمام فرنسا, الولايات المتحدة وبريطانيا منصباً على بناء دولة عراقية متماسكة, ونتيجةً لذلك ازدادت التوترات بين الجماعات العرقية والدينية بشكل مصطنع وقد وصلت إلى ذروتها في عهد صدام حسين. حيث استخدمت هذه التوترات كذريعة لتشكيل الخلاية الأرهابية الأولى للدولة الإسلامية كجزء من منظمة القاعدة و ذلك بعد مرور ثلاث سنوات على التدخل الأميريكي في العراق.
لاقت ايديلوجية “داعش” أتباعاً من المجموعات العسكرية-السياسية -السنية -العراقية التي بدأت باستخدام حرب العصابات والإرهاب بحجة رفضها التغلب الشيعي في مؤسسات الدولة، الأمر الذي أدى إلى نمو سريع للنشاطات الإرهابية ل “الدولة الإسلامية”، مما زاد من مفاعيل الضغط الأمريكي وحلفائهم على العراق.
إنّ اتباع سياسة التدخل العسكري من قبل واشنطن في العام 2003 واستمرارها حتى 2014 بالإضافة لإعلان “الخلافة الإسلامية” يعتبر تأسيساً لتجزئة العراق مرة أخرى.
وظهرت جلياً في العراق تيارات انفصالية متأثرة بالخلافات القائمة بين المجموعات الدينية والعرقية, وبالأخص في المحافظات الكردية: الأنبار و صلاح الدين التي ما زالت تسعى إلى تحقيق هدف الاستقلال عن بغداد بشكل رسمي، كما تسعى محافظة ديالي حيث الأكثرية السنية إلى الاستقلال الذاتي عن السلطة المركزية.
يعتقد العديد من الخبراء بأن آفاق تجزئة العراق لا زالت قائمة، وبالأخص في حالة كردستان العراق المدعومة ليس فقط من قبل المجتمع الدولي (الولايات المتحدة,بريطانيا,فرنسا وإيطاليا) لا بل من قبل مسؤولين كبار داخل البلد.
هذه التجاذبات دون شك تؤدي إلى زيادة التوتر في المنطقة وتتطلب إعادة النظر في العلاقات بين بغداد,طهران,أنقرة و دمشق، حيث تعيش الجاليات الكردية المؤثرة والتي تدافع عن فكرة الاستقلال، وبهذا الخصوص ساهمت الولايات المتحدة الأميركية بدعم فكرة بناء دولة كردية موحدة. كما أكدّ الإتحاد الأوروبي رسمياً بأنه لن يعيق طموح الأكراد بتأسيس دولة خاصة بهم. وانطلاقاً مما تقدم يمكننا أن نستنتج أن عملية تحطيم الحدود القائمة حالياً في الشرق الأوسط والتي بدأت في العراق بدعم من المجتمع الدولي ستؤدي في القريب العاجل إلى صراع واسع في المنطقة، لذلك من الخطأ النظر إلى قضايا الأمن والاستقرار في العراق على أنها قضية عراقية بحتة، بل على العكس تماماً، فأهميتها تخص كل المنطقة عموماً.
إنّ التيارات المتجاذبة تعكس إلى حد ما مفاهيم اللاعبين من الخارج (ايران,السعودية,الولايات المتحدة وتركيا) الساعين إلى تحقيق مصالحهم، وفي نفس الوقت فإن أتباع “الدولة الإسلامية” لازالوا يشكلون تهديداً جدياً للحكومة المركزية، بالإضافة إلى الضغوطات من قبل التشكيلات المسلحة الموالية لإيران.
ويضاف إلى كل ذلك هبوط أسعار النفط الذي عقّد الوضع أكثر، حيث فقدت السلطة في بغداد القدرة على تنفيذ واجبتها الاجتماعية والسياسية الداخلية منها والخارجية، مما أعطى قوة دفع للحركات الانفصالية لتحقيق مشاريعهم الخاصة.
وتجدر الإشارة أنه وبالرغم من غياب المنهجية في اتخاذ القرارات الإدارية ما قبل العام 2003 إلا أنه لم تكن هناك صراعات عرقية ودينية تذكر. فعلى الرغم من هيمنة التيار الإسلامي الشيعي حاليا على المؤسسة السياسية، إلا أنّ هذا المعسكر السياسي غير موحّد. فما زال موقف حركة مقتدى الصدر قوياً وثابتاً بالعلاقة مع القيادة الإيرانية، بينما نجد أن “جيش المهدي” في علاقة متوترة مع “المجلس الإسلامي الأعلى” وجناحه المسلح “منظمة بدر”، مما يعني صعوبة تحقيق الوفاق العراقي لتسوية الأزمة السياسية من خلال الآليات الدستورية.
من جهة أخرى تمثل القيادة الرسمية الحالية في بغداد المعسكر السياسي السني في البلاد، مع أن اللوبي السني في العراق يستند إلى دعم “مجلس الصحوة” والذي غالبا ما يعارض المركز، ولهذا السبب بالذات فإن الأكثرية من قيادات القبائل السنية أصبحت مهمشة ولا تملك تأثيراً يذكر على السلطة في بغداد, بالأخص عشيرة النجفي في الموصل، نتيجةً لذلك فقد فشلت محاولة السنة بإعادة تشكيل القوى السياسية في العراق، مما أدى إلى عودة الاحتجاجات إلى الشارع رافعة شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” كشاهد على محاولة جديدة ل”الربيع العربي”.
ومن الجدير ذكره في الأوضاع الحالية في العراق هو غياب قائد قادر على طرح برنامج سياسي يلبي رغبات كافة شرائح المجتمع العراقي، ويعمل على تنفيذ إصلاحات هيكلية وليست سطحية. حيث تملأ حالياً الأجندة الأساسية في البلاد غالباً شخصيات مهمشة غير مهتمة في الحفاظ على الدولة العراقية الواحدة.
هذا الوضع القائم يلبي مصالح اللاعبين الخارجين وفي المقام الأول الولايات المتحدة التي تستغل الأزمة السياسية لتعزيز موقفها في المنطقة. وعلى الرغم من تصريح الرئيس السابق ترامب، فإن تعداد القوات الأميركية في العراق يبلغ حاليا أكثر من 150 ألف شخص وفي العام 2021 سيضاف إليهم 30 ألف شخص كحد أدنى مع العلم بأن تعداد الجيش العراقي يصل إلى 124 ألف شخص، 10 آلاف فقط منهم مناسبون للقيام بالمهمات القتالية. وإذا أخذنا بعين الإعتبار حقيقة وجود 50ألف مقاتل في صفوف مقتدى الصدر فمن المنطق الإستنتاج بأن الجيش العراقي مرهون بالكامل بالشراكة الأجنبية. بالرغم من التصريحات العراقية المناهضة للتواجد الأميريكي إلا أن الولايات المتحدة تُعتبر الداعم الوحيد للقدرات الدفاعية للعراق.
مآل هذه الأوضاع لا يبشر بأمل الحفاظ على وحدة الدولة العراقية. والسعي لفدرلة (فيدرالية) العراق في المدى المنظور، يهدف إلى تهيئة الظروف الموضوعية ل “إدارة الفوضى الخلاقة” وليس إلى حل التعارضات العرقية.
ويرى خبراء أمريكيون وسعوديون أنّ مشروع فدرلة العراق يسمح بالمحافظة على علاقات متينة مع الأكراد و منح محافظة الأنبار الحق في الحكم الذاتي الذي سيحاصر التأثير الإيراني عبر الحدود السورية.
أما العلاقة بين بغداد وموسكو فلها وجه آخر. حيث تنوي روسيا تقوية القدرة العسكرية للعراق عن طريق تقديم مساعدات وإستثمارات مهمة، وقدّ أكدّ هذا الموقف عدة مرات وزير الخارجية الروسي لافروف.
ويراهن الكرملين على القيادة العراقية تحديد خيارها لصالح التعاون مع روسيا، لما له من أهمية في ظل تغيّر إدارة البيت الأبيض التي تهدف إلى التدخل عسكرياً مرة أخرى في العراق.
على ما يبدو فإن الحكومة الرسمية في بغداد تظهر رغبة عالية في تعميق الحوار البنّاء مع موسكو بهدف الخروج من الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية العالقة.
إنّ الدافع الرئيسي لتطوير العلاقات الثنائية بالإضافة إلى ما تم ذكره أعلاه هو تأثير جائحة كورونا، وقد سجل العراق نقاط ضعف عديدة بهذا الخصوص. ويؤكد العديد من الخبراء في ظل العجز الإقتصادي والسياسي لبغداد، فالبلد مهددة ككل بالإنهيار في 2021 وعدم دخولها لعصر “ما بعد كورونا” .
في هذه الظروف العراق بأمس الحاجة لتمتين العلاقات مع روسيا، المنقذ الرئيسي للدولة العراقية.