صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
في مثل هذا اليوم الثامن والعشرين من شهر تشرين ثاني عام 1971، عاما امتدت يد الغدر والخيانة لتطلق رصاصات قاتلة، أنهت حياة فارس أردني سكن في قلب كل أردني وأردنية، هو وصفي التل رحمه الله. فصعدت روحه الطاهرة إلى السماء من أرض الكنانة، تلعن كل المجرمين خونة الأوطان وقتلة أبنائها الشرفاء.
عندما نستذكر سيرة هذا الفارس، فلا نقصد منه اجترار التاريخ – على أهميته – ولكن لنذكّر الجيل الجديد والمسؤولين الغافلين والمتغافلين، بأن الأشراف وإنجازاتهم العظيمة تبقى حية، ترافق أسماءهم في ضمائر الأردنيين، ويتناقلونها جيلا بعد جيل.
وصفي التل كان نجما هاديا للأمة، سطع في سماء الأردن في أواسط القرن الماضي، فجسّد الشجاعة والصدق وحب الوطن بأجلى معانيها، إذ كرس حياته لخدمة الأردن وفلسطين وقضى شهيدا في سبيلهما. وعندما نذكر وصفي لابد أن نتذكر أعماله الوطنية، التي ستكون شفيعا له يوم القيامة، ضد من ظلموه وتمادوا على حياته باتهامات كاذبة.
وصفي هو ذلك المعلم في مدرسة السلط، الذي دفعته حماسته الوطنية ليركب أول سيارة متجهة إلى القدس، ويلتحق بالكلية العسكرية البريطانية في صرفند قرب يافا عام 1942. وينظَمّ بعدها إلى الجيش البريطاني ليتعلم فنون القتال انتظارا لمهام لاحقة، كما يفعل الشباب اليهود في انظمامهم إلى الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني.
وبعد نشوب الاشتباكات بين العرب واليهود في فلسطين، انظم إلى المكتب العربي في القدس، ثم انظم لاحقا إلى جيش الإنقاذ في فلسطين برتبة نقيب، وقاتل قتالا ضاريا في منطقة جنين شمال فلسطين. ولكن بعد فشل هذا الجيش في مهمته وجرى حله، التحق وصفي بالجيش السوري كقائد للواء الرابع برتبة مقدم.
لم يكن وصفي رجلا عسكريا فحسب، بل كان سياسيا وصاحب فكر خلاّق. وبعد أن انتهت حرب فلسطين عام 1948، عاد إلى عمان وعين موظفا في دائرة الإحصاءات العامة، حيث شارك في إصدار مجلة الهدف، التي كانت تدعو لمعالجة التدهور، وخفوت جذوة الحماس في نفوس الأمة للعمل على إيقاظها من كبوتها. ومن هنا بدأت أفكار وصفي تتبلور، وراح يدعو لمعرفة أمراض المجتمع لكي يسهل علاجها، فحددها بأربع مصطلحات : الاعتذارية، القططية، النعامية، والتمنن على قطاعات المواطنين.
يؤكد التل أننا نحن المسؤولون عن الهزيمة، لأننا كنا من التفاهة والميوعة والضعف، بدرجة أن جعلنا من أنفسنا أداة طيعة، في يد كل من يريد بنا الشرّ والهزيمة، بالإضافة إلى أننا علّقنا مصيرنا ومصير بلادنا بالمفاجئات والصدف. كان وصفي يؤمن بأن هزائمنا المتوالية في مواجهة الصهيونية منذ عام 1917 وحتى هزيمة حزيران عام 1967، تعود في أسبابها إلى قصور العقل والخلق في قيادة المعركة والتي أساسها الإرادة.
وابتداء من عام 1962 شكل وصفي خمس حكومات في ثلاث مراحل، فكان لا يتحمل المسؤولية حبا بالكرسي، وإنما كان يأتيه وهو يحمل مخططا وبرنامجا للعمل. ففي حكومته للمرحلة الأولى قام بإعادة تنظيم الجهاز الإداري، وقضى على الرشوة والمحسوبية. وفي حكومته للمرحلة الثانية أرسى قواعد إعداد المواطن لمعركة الإصلاح والبناء والتحرير. أما في حكومته للمرحلة الثالثة فقد أنقذ الأردن من حرب أهلية وحافظ على الوحدة الوطنية.
عندما سُئل وصفي بعد حرب حزيران، عن رأيه في الحل الذي يمكن أن يحفظ للأمة العربية كرامتها أجاب : ” لا حل ولا كرامة إلا بالقتال “. وبرر عدم موافقته على القتال قبل حزيران الذي كان يخالف هذا الموقف أجاب : ” عندما كنت أرفض مقاتلة إسرائيل كنت أفعل ذلك بشعور المسؤول . . كانت بين يدي – كما كانت بين يدي معظم المسؤولين العرب – الحقائق والأرقام التي تؤكد أن أية معركة في ذلك الحين ستكون لمصلحة إسرائيل . . أما اليوم فإنني أتحدث بشعور المواطن . . بشعور المناضل، إنني لن اصدق أن إسرائيل ستقبل التنازل عن شبر من الأرض، إلا ويكون ثمنه أمجادنا وكرامتنا وتاريخنا وحياتنا.
وإنني لا أقول بقتال الجيوش اليوم، بل أقول بقتال لا يمكّن إسرائيل من أن تقطف ثمار عدوانها واحتلالها . . إنني على استعداد أن أقوم بتشكيل فرق من المقاتلين لا يزيدون عن المائتين، وأعبر على رأسهم النهر وأتمركز في منطقة جنين، والحولة، وطبريا، تلك المناطق التي سبق لي أن قاتلت بها عام 1948. وأنني على قناعة أنني بالتعاون مع فرق أخرى في بقية المناطق، سنعيد ما فقدته الجيوش العربية “.
كان وصفي يؤمن بضرورة الحشد العسكري جيشا وشعبا وفدائيين في خطة واحدة تحت قيادة واحدة، ولا يؤمن بخرافة الحل السلمي مع إسرائيل. وقد كان يدعو لتحويل المجتمع إلى مجتمع حرب على غرار مجتمع قرطاجة أيام حصار الرومان. فلابد لكل مواطن من المساهمة في معركة السلاح أو الإنتاج، وكل من لا يساهم في ذلك لا مكان له في المجتمع. واشترط لتحقيق ذلك أن يتولى مسؤولية هذا العمل فريق يتصف بما يلي : الإيمان المطلق بالأرض وأهلها ونظامها، الكفاءة المطلقة والقدرة على العمل، والسيطرة على الأعمال والحركات العسكرية.
لقد لخص وصفي أفكاره في تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة بالعبارات التالية : ” إن المعركة في قناعتي هي العنوان الوحيد لكل وجودنا في هذا البلد. وعندما تصبح المعركة عنوانا لحياة كل مواطن منا، مهما كان موقعه، عندها يصبح النصر في المعركة، حتمية لا يستطيع الأعداء تغييرها أو الخلاص منها. وفي يقيني أن الطريق إلى الهدف المقدس – هدف التحرير – لابد أن يمر بهذه القناعة وينطلق منها “.
وعلى ضوء ما تقدم . . هل رجل بهذه المواصفات يمكن أن يكون خائنا لوطنه أم بطلا قوميا ؟ ثم ما هي نتيجة الحلول السلمية على طريق التحرير ؟ التي مضى عليها ثلاثة عقود ، والتي حذّر منها وصفي التل قبل ما يقارب نصف قرن وقال لكم بأنها خرافة ؟ فهل جنوا غير الخيبة وضياع الحقوق الفلسطينية بالتدريج، وانتظار الحل المفروض عليهم في صفقة القرن المهينة ؟
وفي مؤتمر وزراء الدفاع المنعقد في القاهرة، كان وصفي يناقش خطة لتحرير فلسطين. إلّا أن خونة الأوطان أبوا إلا أن يكافئوه بطلقات اخترقت صدره، وعطلت مسيرة التحرير التي كان يناضل من أجلها وصفي التل. فكيف لنا في هذا البلد والذي ارتبط مصيره بمصير القضية الفلسطينية، أن لا نتذكر وصفي بحرقة وألم، بعد أن خلت الساحة من أمثاله وخلا كرسيّه من بعده ؟ وكيف لنا أن لا نقول ما قالته الخنساء في رثاء أخيها صخر؟ مع الاعتذار للتعديل :
يذكّرني طلوع الشمس ( وصفي ) * * وأذكره بكل غروب شمس
وما يبـكـــون مثـل أخي ولـــكن * * أعزي النفس عنه بالتأسي
أما شاعر الأردن المبدع حيدر محمود أمدّ الله بعمره، فقد كتب قصيدة طويلة في ذكرى استشهاده التاسع والثلاثين،، رثي بها الفارس المترجّل وصفي التل، وهي تصف الحالة التي نعيشها في هذه الأيام بدقة متناهية، أقتطف منها الأبيات التالية :
قد عاد من موته وصفي ليسألني * * هل ما يزال على عهدي به وطني ؟
ولم يقل . . إذ رأى دمعي يغالبني * * ألا كفى . . وأعيدوني إلى كفني !
فباطن الأرض للأحرار أكرم من * * كل الذي فوق الأرض من عفنِ !
رحم الله شهيد الوطن وصفي التل، ورحم جميع شهداء الأمة العربية، الذي سقطوا في ميادين الشرف والفداء، دفاعا عن أوطانهم وكرامة أمتهم. وخسئ الخونة والمتآمرين.
التاريخ : 28 / 11 / 2017
* * *
- المرجع : كتاب وصفي التل بين الماضي والحاضر / ممدوح حوامده.