صراحة نيوز – بقلم الدكتور صبري الربيحات
المكانة والتقدير الذي يحظى به العلماء والاساتذة في الجامعات العالمية يفوق الكثير مما يناله غيرهم من اصحاب السلطة والنفوذ والمال. ففي المانيا واليابان وحتى الولايات المتحدة يعتبر العلماء طليعة المجتمع وخطه الاول في ولوج المستقبل فهم الذين يدرسون الواقع ويعالجون المشكلات ويبتكرون الحلول ويقودون رحلة البشرية نحو التحديث والتطوير.
الاساتذة والعلماء يلازمون معاملهم ومختبراتهم ويواظبون على اجراء ابحاثهم وتجاربهم والاطلاع على ما يقوم به نظراؤهم في جامعات ومعاهد العالم ويحضرون المؤتمرات ويمضون جل وقتهم في البحث والتدريس ويكتسبون مكانتهم وشهرتهم مما يقدمونه من انجازات علمية يلمس اثارها الجميع ولا تقف عند بوابة المؤسسة او حتى حدود الدولة التي ينتمون لها.
العلماء يعرفون واقع المعرفة ويحددون مشاكل مجتمعاتهم فيعكفون على حلها، عيونهم على المستقبل يتسابقون على اكتشاف الاسرار الكونية وصياغة النظريات وتوسيع دائرة المعرفة فيسجلون براءات اختراعاتهم وينشرون نتائج اكتشافاتهم، هاجسهم ان يحدثوا فرقا في حياة الناس ومعارفهم ويتوصلوا الى ما يخلّد ذكراهم. لا يفكر العلماء في العالم بالمواقع الادارية فهي عبء قد يعيق مسيرتهم ويحد من انجازهم.
لا اظن أن من بين الاساتذة والعلماء الذين أغنوا حقولهم المعرفية والبحثية بالمعارف والاكتشافات والاختراعات من اكترث او سعى ليكون رئيسا لقسم او عميدا لمعهد او رشح نفسه لشواغر رئاسة الجامعات، فليس لديهم وقت اضافي لقراءة البريد اليومي والرد على المراسلات وملاحقة عطاءات المباني والصيانة وخدمات الاعاشة والمشتريات.
خيار العلماء الاول البحث عن الالغاز واضاءة الجوانب المعتمة في حقول اختصاصهم. بعضهم يجد متعة اكبر في التعليم ونقل المعرفة ونشر اعمالهم وتجاربهم وضمان ايصالها الى الطلبة والزملاء والمؤسسات التي تحرص على الافادة منها في التحديث والتطوير.
في بلادنا يصعب ان تجد من بين الاساتذة من لا تسكنه شهوة السلطة والرغبة في دخول عالم الادارة، فالكثير ممن قضوا شبابهم في إعداد انفسهم ليكونوا اساتذة وعلماء وباحثين في جامعاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا قرروا التنازل عن خيارهم واصبحوا يلاحقون اعلانات الوظائف العليا ويستخدون منطق المحاصصة والعشيرة كأساس ومبرر لحصولهم على مواقع ادارية وسياسية داخل الجامعة وخارجها.
خلال العقود الثلاثة الماضية خرج العديد من اساتذة الهندسة والعلوم والرياضيات والطب من المسار الاكاديمي والعلمي بعد ان أنفقت الدولة اموالا طائلة على ابتعاثهم وإعدادهم. البعض اختار سباق الانتخابات البرلمانية وآخرون انشغلوا في متابعة اخبار شغور الوظائف العليا. في كل مرة يعلن فيها شغور وظيفة عليا تجد نصف المتقدمين اساتذة جامعات ممن حصلوا على بعثات جامعية لسد الفراغ الحاصل في الجامعات التي أرسلتهم.
الرغبة في ترك مواقع البحث والتدريس لحساب العمل السياسي والاداري اصبحت ظاهرة لافتة وعدوى تتفشى بين كوادر اكثر جامعاتنا شهرة وافضلها سمعة وترتيبا. خلال الايام الماضية تابع الاردنيون أخبار انهاء خدمات عدد من رؤساء الجامعات الحكومية. بالرغم من كون الحدث امرا روتينيا واعتياديا ولم يتسبب في خسارة أي منهم لموقعه كمدرس وباحث الا ان ردود فعل الشارع لم تخل من المبالغة.
تفضيل الاكاديمي للموقع الاداري على العمل في البحث والتدريس ظاهرة يتسع انتشارها بين كبار وصغار الاساتذة دون ان نلتفت الى اسبابها وخصائصها. اهمال الدولة لهذه المؤسسات وتجاهل دورها العلمي وامكاناتها في الانخراط في مشاريع التنمية والاصلاح والتحديث عوامل مهمة في فهم هذه الظاهرة. استمرار حالة التجاهل والإهمال دوافع يصعب استبعادها كدوافع للكثير من الكفاءات التي تترك اعمال البحث والتدريس لحساب العمل الاداري خصوصا أن الادارة توفر لهم نوافذ يطلون من خلالها على المجتمع ويشاركون في تشكيله وخدمته وتطويره.
المراجعات التي نجريها لاوضاع التعليم العالي وخطط التطوير تظل ناقصة ان لم تأخذ بعين الاعتبار الادوار التي يمكن ان تقوم بها الجامعات في بيئتها ومحيطها، وإن لم تحاول الخطط والاستراتيجيات تناول العوامل الانسانية والاجتماعية والمهنية لمن يشغلون مواقع اكاديمية في جامعاتنا.