صراحة نيوز – بقلم الدكتور صبري الربيحات
الیوم وبعد مرور عقدین او اكثر على تبني الخصخصة لم یلمس المواطن شیئا من الوعود، فقد بیعت ممتلكات البلاد دون ان تتناقص الدیون، وتدھور مستوى الخدمات ونوعیة الحیاة، وتغیرت قیم العمل والخدمة العامة، وتأثرت الادارة العامة بمفاھیم الاكرامیة والحوافز التي شجعت البعض على الرشوة واستغلال الوظیفة واساءة الائتمان…
لفترة قریبة اعتقدت ان اغنیة ”احنا كبار البلاد، واحنا كراسیھا“ مجرد لحن راقص یبعث على الزھو والحماس، وانھا انتشرت بفضل الطلة الممیزة وبحة الصوت وغمزة العین التي أتقنتھا سمیرة توفیق وھي ترد شعرھا بإیماءات تجعل الاداء لوحة سیریالیة آسرة.
في السبعینیات كانت سمیرة توفیق رمزا للجمال حسب المعاییر الأردنیة، وارتبط صوتھا واسمھا وحضورھا بلون الغناء الموجھ لإدامة البناء المعنوي للجنود والطلاب والرعاة والحصادین في الاریاف والبوادي والمدن. في ھذه الاغنیة التي كتب كلماتھا المشیر حابس المجالي لرفع معنویات الجنود وتعمیق احساسھم بالھویة التي یدافعون عنھا یتداخل الصوت مع اللحن وتدغم الغمزة في الكلمات فتدغدغ قلوب واحاسیس الجنود الذین یستمعون للحن ویشاھدون الاداء.
في حالات كثیرة یفقد الرجال انفسھم فلا یعرفون اذا ما كانوا یرقصون لعیون سمیرة ام للحن وكلمات العز والافتخار.
من وقت لآخر ینھال البعض باللوم والعتب او بالشكوى والتذمر فیقول ”یا اخي والله ھالبلد كذاو كذا“، ویتناسى ان البلد لیست مقتصرة علینا ولا على ھذا الجیل فقبلنا بكثیر كان فیھا انبیاء ورسل ورھبان وشیوخ وفلاسفة وعلماء ورحالة وفرسان وشعراء واولیاء وصناع وزراع وحكماء ولصوص. كان فیھا كل ما جعلھا بقعة ممیزة على خریطة العالم وصفحة مھمة في تاریخ البشریة.
ھذا البلد لم یولد معنا ولن ینتھي بنھایتنا. فعلى ھذه الارض مر موسى وعیسى ومحمد علیھم السلام وكان میشع وادوم والحارث.
في الأردن توقف امرؤ القیس والشنفرى وعاش نمر بن عدوان وتنقل بین بلداتھ عرار. وكان حابس ووصفي. وقبلھم كان الخزاعي والشریدة والجازي والاف الرجال والنساء ممن تركوا أثرا یتجاوز حدود زمانھم.
الأردنیون متعلقون بوطنھم ومتمسكون بكل ذرة تراب فیھ ولا یقبلون ان یجري تسعیر مقدراتھ ووضعھا في جداول ومصفوفات تعرض على من یرید التملك والاستثمار فھم یرون ان لكل واد قصة ولكل مغارة حكایة ولا یحبون الخصخصة ولا المرور على ذكرھا.
على الارض الأردنیة نشأت قصص وصنع تاریخ تعرفھ البشریة اكثر مما یعرفھ جیل الخصخصة الذي اندفع متباكیا على الأردن، ویرید وضع خطة انقاذ ونھوض لھ لم تسفر الا عن بیع المقدرات وتأجیرھا لیزداد الفقر وتتعمق البطالة وتتردى الخدمات.
خلال العقود الثلاثة الاخیرة انضم الى الادارة الأردنیة بعض من الشباب ممن امضوا جل حیاتھم في مجتمعات اخرى فغاب عنھم ما تعنیھ الاماكن لسكانھا وقیمة التاریخ للاجیال، فتعاملوا مع كل ما فیھ كموجودات واصول یمكن تسعیرھا والتصرف بھا حسب القیمة السوقیة، فتبنوا برامج للخصخصة ادارتھا عشرات الشركات والمؤسسات، ومع الوقت اصبحت الخصخصة منھجا انقسمت حولها القوى السیاسیة والاجتماعیة الى ان استقر كخیار سارت علیه الكثیر من القطاعات.
الیوم وبعد مرور عقدین او اكثر على تبني الخصخصة لم یلمس المواطن شیئا من الوعود، فقد بیعت ممتلكات البلاد دون ان تتناقص الدیون، وتدھور مستوى الخدمات ونوعیة الحیاة، وتغیرت قیم العمل والخدمة العامة، وتأثرت الادارة العامة بمفاھیم الاكرامیة والحوافز التي شجعت البعض على الرشوة واستغلال الوظیفة واساءة الائتمان.
الیوم تعود لذاكرتي الكلمات والصورة في مشھد اقل براءة من المشھد الذي صنعتھ الاغنیة الاسطوریة التي احبھا الجنود والعشاق والفلاحون. بشاعة الصورة الیوم ان من یزعمون انھم كبار البلد من تجار ومقاولین وانصاف موھوبین یأتون من كل حدب وصوب ینقضون على مواردھا ویتباكون على تأخر نھضتھا، فیقدمون وصفة ردیئة یجري الترویج لھا والمصادقة علیھا من قبل المتنفعین والسماسرة، ویقضون بعض الوقت في التجریب وممارسة السلطة وتنفیع الشلل ثم یرحلون بلا محاسبة.
في الأردن الیوم حاجة ملحة الى رؤیة وطنیة شاملة تتحول الى برامج ذات اھداف واضحة وآلیات تنفیذ مناسبة ضمن اطر زمنیة محددة یشارك في صیاغتھا الجمیع.
رؤیة تخرج البلاد من حالة الازمات المزمنة الى الحلول الممكنة التي یشارك فیھا الجمیع، وفي بیئة تسود فیھا العدالة والمساءلة.