صراحة نيوز بقلم عوض ضيف الله الملاحمه
ما هذا الثراء !؟ ما هذا العطاء !؟ يا ليتنا نقرأ ، ونتدبر ما يجود به مفكرونا ، يثرون المكتبات ، ويطرحون المشكلات والحلول ، ويجسدون الإختلالات ، ويضيئون على السلبيات كما الايجابيات . الحقيقية الأكيدة ان الاهتمام العربي عامة والأردني خاصة في البحث العلمي والتأليف والكتابة ضعيف جداً ، خاصة اذا ما قورن بدول الغرب المُتحضر ، اما المقارنة مع اهتمام العدو الصهيوني بالبحث العلمي والتأليف لإثراء المكتبات والحث على القراءة والاطلاع فانها شيء مُخزٍ بالنسبة لنا .
ومع كل هذا التشاؤم هذا لا يعني ان المكتبة العربية عامة والاردنية خاصة فارغة ، او خاوية ، بل ان المُفرح ان هناك عقولاً نيّرة ، تنتج الدسِم والثمين والقيّم ، ومما يزيد من تقدير عطاءهم انها تتم بجهود فردية دون اية رعاية رسمية . وهنا آتي الى موضوع المقال : حيث أهداني صديقي المحترم معالي البروفيسور المهندس / ابراهيم بدران ، مؤلفه الأخير ، الذي صدر حديثاً بعنوان (( الدولة العربية .. من السُلطوية .. الى الحداثة )) ، هذا المؤلَف الذي يبدو قيّما من عنوانه ، سبقه ( ٢٥ ) مؤلفاً ثميناً ، بالاضافة الى انتاجه الغزير لعشرات الدراسات والتقارير والأبحاث العلمية المتخصصة في مجالات الهندسة والطاقة والتكنولوجيا والتعليم . ولمعرفة قيمة مؤلفاته الأخرى أورد لكم بعض العناوين (( الدولة والديموقراطية والمجتمع / الريادية والإبداع في إدارة المشاريع / الهندسة والمهندس : المفاهيم والأساسيات / النهضة وصراع البقاء / خطاب العلم والتقدم / الطاقة النووية وحادثة تشرنوبل / التاريخ والتقدم في الوطن العربي / دراسات في العقلية العربية / قراءات في المسيرة الاقتصادية الوطنية / قراءات في المسألة الإسرائيلية .. الخ )) . بالله عليكم : اذا كانت هذه هي العناوين فكيف يكون المحتوى !؟
المشكلة الكبيرة التي واجهتني عند قراءة مؤلفه الأخير بعنوان (( الدولة العربية .. من السلطوية .. الى الحداثة )) ، تتمثل في غزارة المحتوى ، فما ان اقرأ فصلاً ، وأود الإستنباط والتلخيص ، إلاّ واجد صراعاً داخلياً يكتنفني في التفضيل بين الأفكار التي توصلت اليها وأود الإضاءة عليها . حيث وجدت رصانة وعُمقاً ، وكل جملة وكأنها تتنافس بالقوة مع الأخرى . ولم أجد حلاً الا بالتطواف العام واختزال بعض الأفكار والعناوين ، في عملية تشبه قطف وُريداتٍ من حديقة غنّاء .
تطرق المؤلِف الى بُعد المنطقة العربية عن الإستقرار ، لتبعيتها وإعتمادها على دول عدوة وطامعة ، وها هم يُثخِنون الجراح في الوطن العربي ، تقتيلاً وتمزيقاً ونهباً ، ويُركِّزون على ان لا تكون هناك دولة عربية تتمتع بالديموقراطية، لإبقائنا مُتخلفين . كما أشار الى عامل مهم يتمثل بان الدول العربية تختلف في كل شيء ، لكنها تلتقي جميعاً على نهج السلطة الفردية والحكم الشمولي الديكتاتوري . وتطرق الى نشوء العديد من الدول ، وكيفية تطورها ، وتقلبها بين الاستعمار والاستقلال ، والظهور والاختفاء ، والاندماج والانفصال ، واستمرت في حركة دائمة للمجتمع عبر التاريخ والجغرافيا والبيئة ، وعبر تغير القوانين والتشريعات ، وبالدرجة نفسها عبر تغير إمكانات السلطة الحاكمة والقوة المسيطرة ، الى ان وصلت الانسانية الى مفهوم الدولة الحديثة ( Modern State ) .
وصل المؤلِف الى الثورة الصناعية ، ومتطلباتها ، من تعليم وعلم ، وتكنولوجيا ، إضافة الى الإبداع الذي يُعتبر ضرورة مجتمعية ومطلباً اقتصادياً أساسياً كمدخلٍ للتميز . وعندما تطرق الى الإنفاق على التعليم ، أورد جداول تُبين إنفاق العديد من دول العالم على التعليم ، وَجدتُ ان إنفاق الدول العربية عامة والأردن خاصة هزيل لا يستحق الذكر ، بإستثناء دول مجلس التعاون الخليجي . أما ما أخجلني ، فهو الإنفاق على البحث العلمي والتطوير ، لكم ان تتخيلوا ان حصة الفرد من الانفاق على البحث العلمي في امريكا (١٤٤٢ ) دولاراً / للفرد ، والعدو الصهيوني ( ١٣٦١ ) دولار / للفرد ، بينما الاردن ( ٧٦ ) دولاراً للفرد ، وأجزِمُ انا شخصياً ان اغلبها تذهب الى تنفيعات على ابحاث هزيلة . كما افرد فصلاً خاصاً عن : التسامح والمفاهيم والطبيعة ، والتسامح مع الذات والتاريخ ، واطلاق طاقات المجتمع والإبداع .. الخ . وأفرد مقولة الى / البرت آينشتاين ، تقول (( إن القوانين وحدها لا تضمن حرية التعبير ، وحتى يتمكن كل شخص من عرض افكاره دون خوف من العقوبة ، ينبغي ان تعم روح التسامح في المجتمع بكامله )) . وأنا أضيف الى قول آينشتاين : اذا لم تكن القوانين حبراً على ورق ، ولا يكون الهدف منها مُغازلة الغرب ، بينما في الواقع يتمركز القهر عند المواطن ، والعُهر عند السُلطة .
اختلف مع الدكتور ابراهيم في نقطة واحدة وحيدة وهي : اننا مازلنا نعيش السلطوية ، وليس هناك مؤشرات حقيقية يمكن ان تنقلنا الى الحداثة . لان السلطوية ما زالت متجذرة ومترسخة وتتمركز وتظهر بوجوه واشكال متعددة في ظل الاحتراف بادعاء إنتهاج الحداثة .
أعلاه ، قراءة في كتاب قيم وثمين ، من انتاج مُؤلِف رصين ، يُدقِق في المصطلح ، ويَركُن الى الأرقام لإستخلاص الإستنتاجات ، وكشْف الإختلالات ، يربط الماضي بالحاضر دون ان ينسى القاء نظرة مستقبلية فاحصة لمتطلبات النهوض وبناء المستقبل ، لأنه مُفكر لا يحبذ الجلوس على الاطلال ، والتغني بأمجاد زمانٍ مضى وإندثر . مفكرنا ابن الحياة المتجددة ، المتطورة ، الراقية ، الرانية للمستقبل ، الناهضة على أسس ، المستثمِرة في الإنسان ، المُطوِرة للقُدرات والإمكانات . إنه نموذج من المفكرين الذين نحتاجهم بشدة اليوم للخروج من غياهب الجُبِّ والجَهلِ .