قبيل رحيل العاهل المغربي الحسن الثاني، وبعد عقود من صراع سياسي لم يخلُ من العنف أحيانا، استقبل الملك في قصره في فبراير 1998 المعارض البارز عبد الرحمن اليوسفي ليكلفه بتشكيل أول حكومة “تناوب توافقي” في البلاد.
كان قرار الملك باكورة “ربيع المغرب” وبداية التحولات الديمقراطية التي أكمل مسيرتها الملك محمد السادس بعد توليه العرش عام 1999، إثر وفاه والده.
التفاهمات والتنازلات التي قدمها الملك الراحل الحسن الثاني جاءت بعد “سنوات الرصاص” التي شهدت استبدادا، ومطاردات، وسجنا، ونفيا للمعارضين السياسيين، قاد أبرزها وزير الداخلية الأسبق الذي ذاع صيته إدريس البصري.
وخلال أول حكومة تناوب، قادها حزب المعارضة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، زرت المغرب، وكنت محظوظا بلقاء مع الوزير الأول (رئيس الحكومة) اليوسفي، واستمعت بإصغاء بالغ لتصوراته لتوطين الديمقراطية في بلاده بعد سنوات من المعاناة والاضطهاد.
خلال الأيام القليلة التي أمضيتها في الرباط عشت حالة النشوة التي عاشها المغاربة في تنسم رياح التغيير والديمقراطية، وانغمست في نقاشات وجدل مع وزير الإعلام حينذاك محمد الأشعري، وأول وزير لحقوق الإنسان في تلك الحكومة محمد أوجار.
كان على قادة حزب الاتحاد الاشتراكي الذي قضى العديد من زعاماته سنوات من عمرهم في السجون والمنافي أن يتكيفوا مع فكرة الوصول للسلطة، وأن يبرهنوا على قدرتهم، بالشراكة مع الأحزاب الأخرى، على إدارة البلاد، وإيجاد حلول لمشكلاتها وتحدياتها، فإطلاق الشعارات في صفوف المعارضة ليس كالعمل في ماكينة الحكم، والصراع والصدام مع “الخزان” وهم حاشية القصر والأجهزة الأمنية.
لم يطلْ مكوث اليوسفي في الحكم، ففي عام 2002، ورغم فوز حزب الاتحاد الاشتراكي بالانتخابات إلا أن الملك محمد السادس اختار تعيين إدريس جطو رئيسا للحكومة، فاعتزل اليوسفي الحياة السياسية، ومات خلال جائحة كورونا، ودفن في مقبرة الشهداء في الدار البيضاء إلى جانب أبرز رموز الحركة الوطنية المغربية، عبد الله إبراهيم، ثالث رئيس وزراء للمغرب بعد الاستقلال.
قاد اليوسفي حكومة التناوب التوافقي برئة واحدة (استؤصلت رئته في عملية جراحية)، وكان يدرك أن الديمقراطية المغربية التوافقية تعيش أيضا برئة واحدة، وقد تتعرض لسكتة قلبية في أي لحظة، فالرئيس مهما كان قويا، والحزب مهما كان ضالعا ممتدا بالمجتمع، فإن القصر يظل مُحكما بخيوط السلطة في يديه.
قبيل الربيع العربي الذي حمل “أحزاب الإسلام السياسي” إلى السلطة في تونس ومصر، وسقوط نظام القذافي في ليبيا، وانهيار حكم الرئيس علي عبد الله صالح في اليمن، واشتعال المواجهات في سوريا، حملت صناديق الاقتراع قبل عقد من الزمان إسلاميي المغرب إلى سدة الحكم.
لم يكن حزب العدالة والتنمية نسخة طبق الأصل لـ “الإخوان المسلمين” في البلدان العربية، فقد تمتع بالحكمة والفطنة، وقدم نموذجا براجماتيا في الملعب السياسي، فحافظ دائما على شعرة معاوية مع القصر، ولم يدخل في صدامات مبكرة مع “الخزان”، وكان طيعا مرنا في تمرير أجندة الملك، وأوامره.
الاختبار الأقسى الذي مر به حزب العدالة والتنمية كان الانتخابات السابقة 2016، فتباهيهم بالفوز الكاسح وحصدهم 125 مقعدا في البرلمان لم يمكن زعيمهم وأمينهم العام السابق عبدالله بن كيران من النجاة من شرك “البلوكاج السياسي” وفشله لأشهر طويله في التوافق مع الأحزاب لتشكيل حكومة، مما دفع الملك للتدخل، وإقصائه واختيار سعد الدين العثماني من نفس حزبه لرئاسة الحكومة، مما أحدث وقيعة وانشقاقا داخل حزب العدالة والتنمية، وربما كانت ضربة استبعاد بن كيران صاحب الكاريزما والحضور الطاغي في الشارع بداية تداعي الحزب شعبيا، وخسارته المذلة للانتخابات الأخيرة.
أشد التنبؤات تشاؤما لم تكن تتوقع ما حدث في الانتخابات، كان الرهان على انحسار شعبية الإسلاميين مُرجحا، فالظروف الإقليمية والدولية لم تكن مواتية او داعمة لهم، وأداؤهم في الحكم في سنوات قيادتهم الأخيرة “عراهم” أمام المجتمع، فهم لم يجلبوا من اسمهم لا العدالة، ولا التنمية للمغاربة.
كانت نتائج الانتخابات مثل الزلزال، وبمثابة سقوط لآخر قلاع ربيع الإسلام السياسي في العالم العربي، فحزب العدالة والتنمية لم يحتل المركز الثاني، أو الثالث ليظل يملك هامشا للمناورة السياسية، وإنما حل في ذيل قائمة الأحزاب في البرلمان مما يضعه خارج السلطة.
حصد الحزب 13 مقعدا، وصعد حزب التجمع الوطني للأحرار بقيادة عزيز أخنوش ليتصدر المشهد ويحوز على 102 مقعدا، يليه حزب الأصالة والمعاصرة بـ86 مقعدا، الاستقلال 81 مقعدا، والاتحاد الاشتراكي 35 مقعدا، والحركة الشعبية 29 مقعدا، والاتحاد الدستوري 18 مقعدا، وهو ما يضعه خارج حلبة المنافسة، ولن يلتفت له الحزب الحاكم ليسترضيه.
حين يؤرخ لحقبة امتدت لعقد تحت حكم الإسلاميين في المغرب، ستتعدد الروايات والتحليلات لأسباب هزيمتهم وخسارتهم، وقد يتقدمها أنهم أصبحوا جزءا لا يتجزأ من ماكينة السلطة، قايضوه على مبادئهم، ولهذا لم ينجحوا في الدفاع عن الديمقراطية، وترسيخ نهج حقوق الإنسان، وحتى شعاراتهم تنازلوا عنها طوعا حين قبلوا بالتطبيع مع إسرائيل، وحين اقتربوا في إصلاحاتهم الاقتصادية من خبز الناس وقوتهم.
وفي التفاصيل بقع سوداء كثيرة في ثوب سلطة حزب العدالة والتنمية، ففي حراك 20 فبراير لم يقف بن كيران مع شباب الحراك، ولم ينتصر لمطالبهم الثورية، واختار الحديث عن الخط الثالث، وفي العلاقة مع “رجالات الخزان” كان الولاء والتناغم السمة الأبرز للعلاقة.
يرفض أمين عام الحزب المستقيل سعد الدين العثماني الاعتراف أن سقوطهم بالانتخاب كان عقابا لهم، وغاب عن ذاكرته أن قيادي الحزب تعرضوا خلال حملاتهم الانتخابية للتأنيب والاحتجاج، وحتى محاولات الاعتداء تعبيرا عن غضب الناس على سلوكهم وأدائهم السياسي والاقتصادي.
يُضاف لكل ذلك، مرر حزب العدالة والتنمية “فرنسة” التعليم بالضد من أفكارهم، ودافعوا وبرروا تقنين زراعة “مخدر القنب”، وفي أزمة فيروس كورونا سحبت الإدارة منهم، فاستسلموا لسلطة الملك ورجالاته.
بلا شك استطاعت “حكومة الظل” أن تستنزف رصيد الإسلاميين في معارك الحكم وتكشف عوراتهم، ومثلما فشل حزب الاتحاد الاشتراكي في الاستمرار في قيادة السلطة، تجرع حزب العدالة والتنمية من نفس الكأس، وأثبت الإسلاميون أنهم أكثر قدرة واحترافا على لعب دور الضحية، والتعايش مع مظلوميتهم في المعارضة، أما الحكم فقصة أخرى لم يتقنوا لعبتها وأبجديتها بعد.
بعد أكثر من 20 عاما على تجربة “التناوب التوافقي” يعود صديق الملك، عزيز أخنوش لقيادة الحكم، ويفقد “اليسار والإسلاميين” حضورهم في مقدمة المشهد السياسي، ويصبح السؤال مُلحا؛ ماذا حققت “الملكية الدستورية” على الطريقة المغربية؟ و”أمير المؤمنين” -المسمى الدارج للملك في المغرب- بقي الحاكم الفعلي للبلاد وإن تبدلت الحكومات، وتُلخص جريدة “نيويورك تايمز” الوضع حين تساءلت إن كانت تركيبة الحكومة الجديدة ستحدث تغييرا في النظام السياسي، لتصل إلى نتيجة أن القرار السياسي في المغرب لا يصنع في البرلمان، وإنما تصنع السياسات في القصر الملكي.
انتهى ربيع الإسلام السياسي في العالم العربي بخسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات بالمغرب، وباستحواذ رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد على السلطة منفردا، والتجربة القاسية تفرض على الإسلاميين -ليس شماتة- أن يعترفوا بإخفاقهم قبل فوات الأوان، عوضا عن سردية المؤامرات لإقصائهم.