صراحة نيوز – بقلم م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران
يقال أن أحد الأمهات كانت جالسة مع أبنائها تساعدهم في مراجعة دروسهم فأعطت طفلها الصغير البالغ خمس سنوات ورقة ليرسم عليها حتى لا يزعجها حين تقوم بمساعدة إخوته الباقين، لكنها تذكرت فجأة أنها لم تبعث طعام الغداء لوالدة زوجها العجوز التي تسكن معهم في إحدى الغرف خارج المنزل في الفناء، وكانت تقوم بخدمتها ما أمكنها ذلك والزوج سعيد بما تؤديه من خدمة لوالدته .
وكانت والدته العجوز لا تترك غرفتها بسبب مرضها الشديد، قامت الأم وأسرعت بإحضار الغداء إلى والدة زوجها ثم انصرفت عنها، ثم عادت لتدريس أبنائها لتلاحظ أن طفلها الصغير الذي أعطته ورقة ليرسم عليها كان يقوم برسم دوائر ومربعات لم تفهمها، فسألته عنها ليجيبها بكل براءة: أنا أرسم منزلي الذي سأعيش فيه عندما أكبر، وبدأ يحدد كل مربع ويقول هذا المطبخ وهذه غرفة الضيوف وهذه غرفة النوم وأكمل تعداد كل غرف المنزل وترك مربعاً رسمه بعيداً عن البقية.
سألته الأم عن المربع فقال لها: هذه الغرفة التي سأضعك فيها يا أمي مثل جدتي، تفاجأت الأم بما سمعت وبدأت تسأل نفسها: هل سأبقى وحيدة خارج المنزل في الفناء بعيداً عن أولادي؟ هل سأمضي عمري عندما أكبر لوحدي بين أربعة جدران؟ ثم قامت مسرعة ونقلت والدة زوجها إلى أجمل غرف المنزل، وعندما عاد الزوج من العمل تفاجأ بما رأى وسأل زوجته عن سبب ذلك، فأجابته والدموع تترقرق في عينيها إنني أختار لي ولك أفضل الغرف إذا كبرنا وعجزنا عن الحركة !
سطور أخذتنا معها ونحن نتفكر في الموضوع الذي سنجعله فاتحة مواضيع مقالاتنا للعام الميلادي الجديد لتذكرنا بتلك اللحظة التي تحولت فيها أنظار معظم الحضور في صالة الأفراح إلينا قبل 13 عاماً بعد عرض كلمة سجلناها قبل موعد حفل خطوبتنا وإتفقنا مع منظم الحفل يومها على عرضها في منتصف الحفل بالضبط، ولم تكن سوى كلمات بسيطة رأينا أنها أقل ما يمكن تقديمه “لمن تستحق كل الوفاء”، من حملتنا داخل جنباتها إلى هذه الدنيا وكانت أول حضن دافئ عرفه خوفنا في هذه الحياة، وهي من غادرتنا قبل موعد تلك الفرحة بعامين رحمها الله، ثم لنتذكر كلمات مقالتنا “قبلة على جباه آبائنا” التي نشرناها بعد تلك الحادثة بأربعة أعوام كشيئ بسيط إخترنا تقديمه لأول من أخذ بيدنا في هذه الحياة وكان لنا الظهر والسند، خصوصاً بعد ما رأيناه وقتها من شح في الكتابة في موضوع بر الأب تحديداً، وكيف قمنا يومها بالإلحاح على والدنا قراءة تلك السطور ولم نكن نعلم أنها ستكون آخر سطور نودعه بها بعد يومين فقط رحمه الله.
وفي الحقيقة وبرغم كل تطورات الأحداث من حولنا هنا وهناك إلا أننا لم نجد موضوعاً أكثر أهمية نبدأ به من سطور بسيطة لأول من حملنا فوق ذراعيه وعلمنا النطق في هذه الحياة، خصوصاً وأحدنا يرى أولاده يركضون ويلعبون بين يديه اليوم ينتظرون منه تعلم الصواب من الخطأ، بل ويزعجونه أحياناً ثم يركضون للإرتماء في حضنه كلما إشتاقوا للشعور بالحنان والأمان والمحبة الصادقة، لتكون همسة في أذن كل من يعيش في كنف والديه أو حتى ينعم بسماع صوتهم حتى لحظة كتابة هذه السطور أن يذهب ويرتمي في أحضانهم ويتلحف بنقاء عيونهم لعله يخزن شيئاً من دفئ مشاعرهم الصادقة، لا تفوت كل فرصة لطباعة قبلة على جباههم ولو خلسة بعد أن هرمت حاملة همك، ولتمتد همستنا إلى من رحل عنه والديه كحالنا أن لا تتوقفوا عن فعل كل جميل كانوا يحبونه، وعن وصل كل من كانوا يودونهم، أذكروهم مع كل لحظة فرح كيف كانوا يعيشونها معكم وقلوبهم تقفز فرحاً بفرحكم، أذكروهم مع كل لحظة نجاح كيف كانوا يفاخرون الدنيا بنجاحكم وتميزكم وكأنه لهم، وأذكروهم مع كل لحظة حزن كيف كانوا أول من يمسح لكم دمع عيونكم، لتكون خلاصة القول سواء رحلوا أو لم يرحلوا أذكروهم وأذكروهم وأذكروهم ولا تفارقوهم ولا تفارقوا ذكراهم حتى لحظة لحاقكم بهم تماماً كما كانوا لا يحبون فراقكم لحظة.
أذكروهم بقبلة صادقة، بكلمة ترسم ضحكة على وجههم، بدعوة من القلب للقلب، بفعل جميل يدعوا من يراه لكم ولهم، أذكروهم كلما سنحت لكم الفرصة لعلكم تكونوا أجمل صدقة جارية لهم في هذه الدنيا في حياتهم أو يتركوها بعد رحيلهم، أذكروهم كيف أنكم أجمل المعاني في عيونهم ليكون أقل ما تقدموه لهم أن يبقوا دائماً أول المعاني الجميلة ومنتهاها في حياتكم وعنواناً لكل جمال في عيونكم طالما كانت للنور مبصرة.