من نصدّق؟ المسؤولين الذين يعدوننا بأن أجمل أيام الأردن لم يأت بعد، وأننا في عام سنخرج من عنق الزجاجة، وأن كل مرّ سيمر، أم المسؤولين الآخرين الذين يحذروننا من أن الأزمة التي نمر بها غير مسبوقة، وأننا وطن على مركب هائم على وجهه بلا طريق ولا رؤية، وأن الأردنيين، دون غيرهم من الشعوب، لا يسألون عن المستقبل، لأنهم لا يرونه، أو لأنهم يخشونه؟ قبل الإجابة، لاحظ أنني تعمدت اقتطاف ستة تصريحات لشخصيات من “رجالات الدولة”، تمثل الوضع القائم باختلاف تصنيفاته، بعضهم ترجل من موقعه، وبعضهم ما يزال، لاحظ، ثانيا، أن الفريقين انقسموا بالمناصفة بين متفائل ومتشائم، ما يستدعي طرفا سابعا لحسم المسألة (!)، لاحظ، ثالثا، أن ما قالوه لم يكن بالغرف المغلقة، وإنما موجه للرأي العام، وبالتالي من حقهم أن يناقشوه ويردوا عليه. لاحظ، رابعا، أن أحدا منهم لم يقدم أي وصفة حقيقية للخروج من الأزمة، أو أي برنامج يطمئن الناس على أن القادم أفضل، لاحظ، خامسا، أن هؤلاء المسؤولين أخذوا فرصتهم على امتداد سنوات طويلة، بأعلى المواقع، ثم أنهم ما زالوا يتحدثون بمنطق المواطن، أقصد النقد والتوجيه والمتابعة، لا بمنطق الشريك بما حصل، ولا الواثق بما يجب أن يحصل ويكون. ربما يتفاجأ القارئ الكريم إذا قلت: أصدّقهم جميعا، لدي ثلاثة أسباب على الأقل لذلك، الأول هو أن بلدنا يمر بمرحلة “اللايقين” السياسي، وبالتالي يمكن فهم انقسام المسؤولين على هذا الشكل، الثاني أن التفاؤل والتشاؤم وجهان لعملة أردنية واحدة، يكفي أن ندقق بمزاج الدولة والمجتمع معا لندرك الانقسام بين دعاة التيئيس ودعاة الأمل الذي يبدو مجرد وهم أحيانا، أما السبب الثالث فهو أن هؤلاء المسؤولين يتحركون بدائرة “الممكن” سياسيا، وربما لا تتوافر لديهم المعلومات، ناهيك عن الصلاحيات لتقديم وجبات سياسية دسمة ومقنعة. استأذن، هنا، بتوجيه النقاش لآخر تصريحات وصلتنا في هذا السياق، فقد أشار رئيس مجلس الأعيان، فيصل الفايز، أن الأزمة التي يمر بها الأردن اليوم لم يعهدها على امتداد مائة عام، أتفق تماما مع هذا الطرح، كما أتفق مع الطروحات الأخرى التي تحاول ترطيب المزاج الشعبي وإنعاشه، تحفظي هو أن نتجاوز مسألتي التشخيص والتحذير والوصف من جهة، ومحاولات تزيين الواقع، وتخدير الناس بالوعود من جهة أخرى، الأهم أن نسمع من المسؤولين وصفات حقيقية للخروج من أزماتنا، واقتراحات عملية لحلها. سردية فيصل الفايز الأخيرة تستند لمنطق الصراحة، وبالتالي تستحق النقاش، فهو يرى أن الدولة منذ تأسيسها واجهت أزمات عميقة وتجاوزتها: أزمة القبيلة وبناء المؤسسات، أزمة التحالفات الإقليمية، أزمة قلة الموارد واختناقات الاقتصاد، وأزمة الربيع العربي وغيرها، لكنها الآن تواجه أزمات مركبة، بعضها ارتداد واستحقاق للأزمات السابقة، وبعضها طازج تماما، أبرزها: أزمات الطاقة، وتراجع التعليم وهيبة المعلم، والإعلام والإدارة، وآخرها “الفتنة”. المشكلة هنا أن كل دولة معرضة لمثل هذه الأزمات، وربما أكثر، لكن السؤال الأهم، ما هي أزمة الأردن الحقيقية؟ أزمة موارد أم إدارة موارد، أزمة سياسة أم نخب نزلت بالبرشوت على العمل السياسي وما يزال البعض يصر على هندستها بالأدوات القديمة الفاشلة، أزمة إرادة سياسية أم قطيعة بين المؤسسات وعدم تنسيق وانسجام؟ الإجابات تحتاج لحوار وطني حقيقي مفتوح على توافر النوايا الصادقة والإرادة الصارمة، يتنازل فيه الجميع عن مواقفهم المسبقة، ومخاوفهم وحساباتهم الشخصية. بموازاة ذلك لا أستطيع أن أهرب من أسئلة أخرى تلح علي كلما دققت بتصريحات كبار المسؤولين، منها: على ماذا نحن مقبلون، هل نحن أمام أحداث جسام، أو فواتير استحق دفعها، ماذا ينتظر الأردنيين وما المطلوب منهم، إن كان ثمة مطلوب، هل سنظل أسرى للانتظار والمفاجآت، أم أن “القدر” السياسي وضع على الأثافي، والحصى ما زال يغلي؟ المسؤولون لا يريدون مصارحتنا بإجابات واضحة، أو ربما أنهم مثلنا تماما، يتكهنون ولا يعرفون الحقيقة على وجه الدقة، وأنا مثلهم صدقا لا أعرف.