هل الدولة بحاجة للصحافة؟ ينصرف اهتمام بعض المسؤولين (أغلبهم: أدق) عند الإجابة على هذا السؤال لزاوية واحدة، وهي “الورق”، ثم يتدافعون لإقناعنا أن عصر الورق انتهى، وان الحل هو “الرقمنة”، نصححهم دائما، ونقول: الصحافة ليست مجرد ورق، الصحافة صحفيون وإعلاميون ومهنيون يتولون صناعة محتوى صحفي شامل، يكتبون على الورق وفي الفضاء الإلكتروني، ويدافعون عن قضايا الناس، ويمثلون الضمير العام، أو هكذا يجب، ثم إنهم يتناوبون الخروج على وسائل التلفزة المحلية والدولية ومنصات الإعلام، يحملون رسالة الدولة، ويواجهون الجمهور مع كل ازمة، باسم الدولة وبالنيابة عنها. هل تحتاج الصحافة لدعم الدولة؟ يكرر المسؤولون، أغلبهم ايضا، لازمة واحدة: هذه مؤسسات عامة مساهمة، ليست تابعة للحكومة، ولا يمكن إدراج نفقات لها بالموازنة، صحيح، هذه حسبة مالية وربما قانونية، لكن من يعين إدارات الصحف، ومن يتدخل فيما تكتبه وتنشره، ولماذا تغضب الحكومات وغيرها من المؤسسات الرسمية حين تنتقدها الصحف؟ ثم من يفزع للدفاع عن الحكومات في أزماتها غير الصحفيين، ومن ساهم في القطيعة بين الصحف والناس، وأفقدهم الثقة بها احيانا، غير “سيف” الحكومات المسلط على ما تنشره الصحافة؟ كيف يمكن للدولة ان تدعم الصحافة؟ خياران اثنان: إما ان ترفع الإدارات الرسمية يدها عن الصحف، وتتركها تخلع شوكها بيديها، وهي قادرة على ذلك إذا غادرت منصة “التأميم” وخرجت من تحت الرقابة، وتحولت لشركات عامة حقيقية، واما أن تعتبرها مؤسسات دولة، أو ناقل إعلام وطني، وتتعامل معها كما تعاملت مع الملكية الناقل الوطني، ومع الجامعات الرسمية وغيرها، أو أن تعتبرها مؤسسات متعثرة كغيرها من المؤسسات، عندها يمكن إنشاء صندوق خاص لدعم الصحافة، أو إعفائها من الضرائب على الورق، أو الاستعانة بمطابعها لطباعة الكتب المدرسية، ولدى الصحافة اجندة حلول شاملة قدمتها للحكومات مرات ومرات، لكن لم تر النور حتى الآن. لاحظ هنا أنني لم أتطرق للدور الذي يجب ان تقوم به الصحف ذاتها، من حيث التطوير والتدريب وتحسين الخط التحريري، وترتيب علاقتها مع المجتمع والقراء، لاحظ ثانيا أنني لم أشر الى موضوع الحريات الصحفية والمهنية وإعادة الاعتبار لدور الضمير الصحفي في مواجهة قضايا المجتمع وأزمات الدولة، لاحظ ثالثا أنني لم أتحدث عن الدور الذي يجب أن تقوم به نقابة الصحفيين، سواء في المجال المهني، أو المجال الخدمي والمعيشي للصحفيين. لم أفعل ذلك لسببين: الأول أن ترتيب البيت الداخلي للصحافة يحتاج لوجود صحافة واقفة على قدميها، وهذا للأسف ما يزال حلما أو مطلبا صعب المنال، فمعظم المؤسسات الصحفية تعاني من مشكلات وجودية، تهدد استمرارها، أما السبب الثاني فهو أن الطرف المسؤول عن أزمة الصحافة في المقام الأول، كما أنه القادر على إخراجها من هذه الازمة، هو الدولة (لا الحكومات فقط)، فإذا لم تعترف الدولة بحاجتها للصحافة، ولم تتحرك لدعمها والوقوف معها في محنتها، فإن هذا القطاع سينقرض.. وبالتالي لا تستطيع النقابة، ولا الادارات الصحفية وحدها، أن تفعل شيئا. بقي سؤال أخير: هل تريد الدولة صحفيين يتحدثون باسمها؟ وصحافة وطنية تحرس قيمها، وتشكل ذاكرتها؟ إذا كانت الإجابة نعم، فإن ” الامعاء” الجائعة، والأيدي المرتجفة من البرد والعوز، والأوراق الضعيفة الهزيلة، لا تستطيع أن تكتب، أو تتحدث، أو تحرس ذاكرة وتحفظ تاريخا، أو تدافع عن واقع ومستقبل، الدولة لا تقبل بذلك، والصحافة لن ترضى بذلك.. وبالتالي الحل أصبح معروفا وواجبا أيضا.