المبادرات التي أطلقتها الدولة في شهر رمضان، حتى لو كانت بسيطة ورمزية، تستحق الاحتفاء والتقدير، الملك أطلق مشروعات لبناء مساكن ومستشفيات وإعالة أسر فقيرة، الملكة سيّرت رحلات عمرة لمئات السيدات من كافة المحافظات، الحكومة أجّلت أقساط البنوك، وجمّدت تسعيرة المشتقات النفطية لثلاثة أشهر، المجتمع، أيضا، استنفر الخيرون فيه لمساعدة إخوانهم المحتاجين، ما يعني أن دوائر الخير في بلدنا تحركت، وأن الدولة استدعت قيمها التي تأسست عليها، وباشرت وظائفها التي حاول دعاة “الشركنة” فيما مضى تعطيلها. لا أريد، هنا، أن أحاجج بمسألة الحقوق والواجبات التي تقوم عليها فكرة الدولة، أو أن أخوض في سجالات الإصلاح، وما ترتب على تأجيله من خيبات وأزمات ولدتها سياسات تفتقد للحكمة والعدالة، هذا ليس وقته أبدا، أريد أن أشير فقط إلى فرصة من الواجب أن نلتقطها في هذا الشهر الفضيل، وأعتقد أنها تشكل أرضية لترطيب مناخاتنا العامة الملبدة بالإحباط، وهي فرصة المصالحة بين الدولة والمجتمع، وعنوانها الخير العام، أو الصالح العام. في هذا السياق، أفضل هدية يمكن للدولة أن تقدمها هي طي ملف الموقوفين من النشطاء والحراكيين، الذين لم تتلوث أيديهم بأي جرائم، وقضيتهم تتعلق في “التعبير” عن الرأي، حتى لو أخطأوا فإن ما فعلوه يصب بالصالح العام، من وجهة نظر أخرى قد لا يتوافق عليها الجميع، ولكنها تشكل رصيدا يصب في مصلحة الدولة، ويعكس قدرتها على “هضم” التنوع والاختلاف داخلها، كما أنه يمنح المجتمع فضاءات أوسع من الحركة والمشاركة والثقة، ويرسخ فيه الانتماء لبلده ونظامه السياسي. إطلاق سراح الموقوفين والمحكومين بقضايا غير جنائية، وربما أخرى لا تشكل أي تهديد على سلامة المجتمع، أصبح أمرا مطلوبا وضروريا لأكثر من سبب، أولها إنساني، فلهؤلاء عائلات وأبناء وزوجات ينتظرونهم على موائد الإفطار، ويغصون باللقمة جراء الحزن على الظروف التي يعيشون فيها داخل السجن، والثاني سياسي تقتضيه مرحلة الدخول بماراثون الإصلاح، وتهيئة المجتمع للمشاركة فيه والثقة بوعوده، كما تقتضيه اعتبارات ترسيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس قيم العدالة والإنصاف، ناهيك عن قيم العفو والسماح والرحمة. سأترك الأسباب القانونية لمن يفهم فيها أكثر مني، نحن في هذا الشهر الفضيل أقدر على تجاوز خلافاتنا ومشكلاتنا، ونظامنا السياسي لم يخرج من رحم “العنف” ولم يمارسه، وبالتالي فإن “سرّ” استقرارنا وصمودنا وسط هذا المحيط المضطرب والمزدحم بالكوارث، هو الاستثمار دائما بالحكمة واللقاء على الخير العام، وتجاوز الأخطاء، واستيعاب بعضنا بعضا، صدر الدولة أوسع من صدور أبنائها، والأردنيون يردون التحية لبلدهم بمثلها، أو بأفضل منها. ربما لا يدرك بعض المسؤولين، خاصة الذين لا يعرفون سمات الشخصية الأردنية، والعلاقة التي تربطهم، وجدانيا ونفسيا ببلادهم، أن هذا الملف يشكل امتحانا للدولة، وأن تجاوزه بقليل من الحكمة، يعني الكثير بالنسبة للأردنيين، سواء أكانوا من أهالي الموقوفين أو سواهم، كما أن “التمترس” حوله، والاستهانة به، يولد مزيدا من الغضب والقهر، ومع انه بجرة قرار يمكن أن نطويه، وأن نتفرغ للأولويات الأهم، ونلتقي عليها بمنطق “الأسرة الواحدة”، لكن هذا يحتاج، بالطبع، إلى “رجالات” دولة عقلاء، يفهمون قيم الدولة، ويقدرون مصالحها، ويحترمون الأردنيين أيضا. أجزم، دائما، أن بلدنا بخير، وأن مساحات الخير العام لدينا أوسع من مساحات اليأس والمناكفة، يمكن للسياسة أن تفرقنا، لكن لا يجوز أن تجردنا من إنسانيتنا، أو أن تجرح وئامنا الاجتماعي، أو ان تحولنا إلى وحوش، لأننا حين نفعل ذلك- يا خسارة – نفتقد أعز القيم التي بنى عليها أجدادنا وآباؤنا هذه الدولة، وأراهن على أننا لن نفتقدها، ولذا أنتظر ممن يهمه الأمر، أن يطمئن الأسر التي غاب عن موائدها الرمضانية آباء أو أبناء عزيزون عليهم، بإصدار قرار إطلاق سراحهم، وهو قرار يسعدهم ويسعدنا أيضا.