الشاعر عباس جيجان والشاعرة وردة الكتوت يبدعان في المجاراة
الفنانة حنان عصام تغني (يا من رحلت عن الديار)
أبوظبي – صراحة نيوز – ليلة أمس لا صوت علا فوق صوت الشعر في الحلقة الخامسة والأخيرة من أماسي المرحلة الأولى من مراحل برنامج “أمير الشعراء” في موسمه الثامن، والذي تنظمه لجنة ادارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي، وتبثه على الهواء مباشرة من مسرح “شاطئ الراحة” قناة الإمارات، بالإضافة إلى قناة بينونة.
وقد حضر الحلقة عيسى سيف المزروعي، نائب رئيس لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، وسلطان العميمي مدير “أكاديمية الشعر”، وعدد من الدبلوماسيين وممثلين الجاليات السعودية والسودانية والسنغالية، وجمهور إماراتي، كما حضر محبو الشعر بنوعيه الفصيح والنبطي.
في بداية الحلقة قدمت لجين عمران أعضاء لجنة التحكيم د. علي بن تميم، د. صلاح فضل، ود. عبدالملك مرتاض. ثم استعرضت أسماء الشاعرَين المتأهلَّين إلى المرحلة الثانية بعد أسبوع كامل من الانتظار، فتأهّل بعد جمع نسبة تصويت الجمهور مضافة إليها درجات التحكيم؛ أحمد محمد عسيري والذي حصل على 70% ، تلته هبة الفقي بـحصولها على 67%، لينضما إلى زميلهما عبدالسلام حاج نجيب الذي أهّلته لجنة التحكيم في الحلقة الماضية. أما يارا الحجاوي فخرجت من المنافسة بـ42%.
السبهان يتأهّل
حلقة ليلة أمس ضمت آخر أربعة شعراء مثّلوا المرحلة الأولى، فألقوا نصوصهم التي جاءت كلها – وللمفارقة – على البحر البسيط. وهم: الشاعر السعودي سلطان السبهان، والشاعر السنغالي محمد الأمين جوب، والشاعرة السودانية دينا الشيخ، والشاعرة الإماراتية منى القحطاني، فتقدّم السبهان زملاءه بحصوله على47 درجة بقرار اللجنة، منتقلاً بذلك إلى المرحلة الثانية التي ستبدأ مساء يوم الثلاثاء القادم. فيما حصل جوب على 46 درجة، ومنى حصلت على 44 درجة، أما دينا فقد حصلت على 41 درجة. ليبدأ هؤلاء الشعراء الثلاثة رحلة القلق التي تستمر أسبوعاً بانتظار تصويت الجمهور لهم، سواء عبر الموقع الإلكتروني لـ”أمير الشعراء”، أو من خلال تطبيقه الإلكتروني.
الشعر غناء وارتجالاً
ليلة أمس غنّت الفنانة حنان عصام (يا من رحلت عن الديار)، وهي قصيدة من كلمات الشاعر خالد حسين رشوان، وألحان الموسيقار السعودي عبدالله علّام، وتوزيع المايسترو أحمد عبد الجواد.
وفي فقرة المجاراة؛ استضاف “أمير الشعراء” في الحلقة الشاعر العراقي عباس جيجان، والشاعرة الأردنية وردة الكتوت التي شاركت في الموسم السابع من البرنامج، والتي ألقت قصيدة قالت فيها:
فيّ مَا في الطّيرِ قصوصِ الجوانجْ
غيرَ أنّي في سَماهُ لا أبارِحْ
قد نذرتُ الصّومَ إّلا عن هوى شادنٍ
هَاءَتْ لَهُ كلُّ الملائحْ
وتَهَادى عبقريّاً كَبَيَاتٍ يُؤنِقَ العَينَ
خَيَالٌ مِنهُ لائحْ
قد تيمّمتُ تراباً مسَّهُ
رغم هذا الماءِ من عذبٍ ومَالِحْ
لي حبيبٌ حكّمَ الوَاشينَ بي
وفؤادٌ ردَّ فيه كلَّ ناصِحْ
وحَبَبْتُ الَّلوم ذكرى لاسْمِه
فاتّخذْتُ العَذْلَ ربّاً للقرائحْ
طَوَّقَ الآلامَ عندي أملٌ
كسرابٍ حين ألوى غيرَ مانِحْ
ذاكَ من أعطى قليلاً ثم أكْدَى
لهُ عندي كلَّ ذنبٍ أن أسامحْ
فيما ألقى جيجان قصيدة طويلة، من أبياتها اخترنا:
سامحتكم يا أخوان يا أحبّائي يا عدوّاني
وإحنا في عام التّسامحْ
وسامحوني حتى لو غلطان خلّونا نتصارحْ
وأنا أدري.. أدري من بعد الزّعل يصبح تصالحْ
الهِجا ما فيه خير، الخير في شعر المدائح
بالحرب بس الخراب، والسّلام أسلوب ناجحْ
بدنيتك ازرع الخير، الطّول، دام انت رايحْ
هذا قول الشّيخ زايد، لا رياء ولا نِفاق ولا مصالحْ
يعني الله اللي يغفر الذّنوب الثّقيلة
والله آمر بالتّسامحْ
خلّي قلبك على قلبي نقولها بكلّ الجوارحْ
دينا الشيخ.. والبحث عن مدائن الحب
مع قصيدة (فُصْحى المَاء) بدأ الشعر بصوت الشاعرة دينا الشيخ، والتي تمكنّت من كسب إعجاب جمهور مسرح “شاطئ الراحة”، ولا شك أعضاء لجنة التحكيم. فبعد إلقاء نصها أكد الناقد د. صلاح فضل أن دينا تراود الشعر من أقصى مسافاته كأنه حوار بين آدم وحواء، وهي التي قالت في الأبيات الأولى من نصّها:
في عزلةِ النُّورِ لا ماءٌ ولا أثرُ
ولا مسيحٌ ببابِ الوقتِ يُنتظرُ
يُراقبُ الكونَ في أَقصى المجازِ دمِي
وثمَّ آدمُ في الجنَّاتِ يستتِرُ
تفاحةٌ أَغرتِ الأَقدارَ مُذ قُطِفت
الحزنُ تأويلُنا والذّنبُ مبتكرُ
اهبطْ،هبطتُ إِلى دهرينِ من وجعٍ
يرمِّمُ الضّوءُ ظلِّي ثُمّ أنكسرُ
عُد بي إلى العشبةِ الفُصحى بخاصرة الـ
أشعارِ أفنى بها عمراً وأنتصرُ
مدائن الحبّ تشقى في الغياب معي
يطل نهر غناءٍ ثمّ ينحسِرُ
كما رأى د. صلاح فضل أن دينا حاولت تأويل المجازات، فبدل الخطيئة تصحب الحزن، موظِّفة أساطير البيئة في عشبة الأسرار والأشعار، باحثة عن مدائن الحب الشقيّ الغائب بترانيمه العذبة. لكن د. فضل وجد مشكلة وحيدة في القصيدة، تجسّدت بضبابية الرؤية، وهو ما برز في البيت: (تأخّرتْ عن مرايا الحالمينَ رؤى/وهدهدٌ مُجْهدٌ يشتاقه السّفرُ). من جهة أخرى تُسْلم دينا الزمان إلى عجوزٍ تقودها إلى ظلمة الكهف المريبة.
ورغم كل ما سبق أكد د. فضل أن لدى الشاعرة سلاسة في الشعر، وبلاغة في الصياغة، وقدرة على توظيف التراث الأسطوري والشعبي، غير أن الدعوة للحب لا تكفي لتقويم العالم، فأين الحق وأين العدل وأين الجمال؟
فيما وجد د. علي بن تميم أن النص الذي قدمته دينا جميلاً، وذو نزعةٍ صوفية، حيث بدأت الرحلة من الفردوس/الجنة، إلى لحظة الغواية ممثلة بالتفاحة، ثم إلى المسيح المنتظر.
والشطر (اهبطْ، هبطتُ إِلى دهرينِ من وجعٍ) كان إيذاناً بلحظة الهبوط من الجنة وبدء المعاناة البشرية، ليكون الشعر هو الحلّ، وبمثابة الفردوس الأرضي الذي يعوّض عن الخروج من الجنة. وأضاف: إن القصيدة أنشودة للبحث عن الحب والسعادة الكامنة في التسامح والعطاء، وهو ما يؤكده البيت: (قالت: خذوا حكمة الأنهار وانعتقوا/ بالحب هاءَ لمن للجرحِ قد غَفَروا)، وحين تكرر الشاعرة البيت مرتين؛ فإنما لتقول إنه بيت القصيد.
لكن رحلة دينا – كما قال د. بن تميم – في البحث عن السعادة والتسامح ملتوية، فمَن هي العجوز في البيت: (مرّتْ عجوزٌ على أَيَّامِ غربَتِهم/ قالتْ إليِّ، فعنديْ الوحيُ والخَبَرُ). ومن جهة أخرى فإن (الهدهد) و(الكهف) رمزان نافران في القصيدة، لا يتّسقان مع طبيعة رحلة في البحث عن التسامح. أما عندما قالت الشاعرة: (في ظلمة الكهف شيء من توقّدِنا/ حتى وإنْ ظَلَّت الأحلامُ تنحسِرُ) فإن الظلمة لا تمنع استمرار الحلم، بل الأحلام تتجلى أكثر في الظلام، ولو قالت: (حتى وإنْ ظَلَّ ضوء الكهف ينحسِرُ) لكان أجمل.
وأشار د. بن تميم أنه وبالرغم من أن عنوان القصيدة (فُصْحى المَاء) والماء لا طعم له ولا رائحة ولا لون، إلا أنه ذاق طعم القصيدة، وشمّ رائحتها، وتحسس لمستها.
د. عبدالملك مرتاض؛ بدأ من ثقافة قصيدة دينا، فقال: تبدو هذه القصيدة مثقفة لأنها عبّقت بشذا التراث الديني من بوابة القرآن العظيم، من خلال استحضار قصة آدم وحواء، وقصة الهدهد مع سليمان، وقصة سفينة نوح وألواحها ودُسُرها. موضحاً أثر القرآن في شعر دينا، مثل: (لا تُبقي ولا تذرُ).
لكن د. مرتاض وجد استعمال (هاء) من قبل الشاعرة محيراً في البيت: (قالت: خذوا حكمة الأنهار وانعتقوا/ بالحب هاءَ لمن للجرحِ قد غَفَروا)، فرأى فيه شيئاً من التكلّف والقلق والنشاز، غير أن ذلك لا ينفي أن الكثير من أبياتها تشتمل على صور فنية أنيقة ورشيقة وجميلة، وعلى ذلك وجد القصيدة بديعة ورفيعة، ناضرة وآسرة، مضيفاً: إن شئنا صنّفناها سحراً حلالاً، واستخزناها ماءً زلالاً.
السبهان.. أمير الكلام
الشاعر سلطان السبهان ألقى قصيدته (مرابطونَ على سُورِ الجَمَال) التي أشار د. علي بن تميم إلى موضوعها حول الشعر والجمال، والذي يتسابق عليه ومنه وإليه الشعراء منذ زمن قديم، ذلك أنّ هذين الرمزين صنوان. وفي الأبيات الأولى من القصيدة قال السبهان:
لم نعرف الدّار لم نقرأ بها أثرا متيّمون بما قد غادر الشعرا
نسقي بماء المعاني كلّ من وردوا بئر الكلام وعادوا للظّما أُسرا
ومتعبون نجرّ العزم في دمنا يا ربّ إنّا لمّا أنزلته فُقَرا
لُذنا إلى الظّلّ منسيّين بهجتنا أن ينبت الظل في أرواحنا شجرا
أهدتْ لنا أمُّ موسى جمْرَ لوعَتِها وَلمْ نَزَل في ظُنونٍ نتْبَع الخَضِرا
منذُ انتبهنا وثوبُ الريح في قلقٍ عن الطيور أخذنا الحُبَّ والقَدرا
وحول العنوان (مرابطونَ على سُورِ الجَمَال) قال د. بن تميم: إن هؤلاء المرابطين هم الشعراء، أو “أمراء الكلام” كما أورد الشاعر في الشطر الأخير من البيت الأخير (أمّا الكلام فقد سمّاهم الأُمرا).
وأضاف د. علي: إننا نتذكّر قول أمير الشعراء أحمد شوقي (نازعتْني ثَوبي العَصِيّ/ وقالَتْ أنتمُ النّاس أيُّها الشّعراء). ورأى الناقد أن القصيدة تتدرّج في الحديث عن الشعراء وطبيعتهم وأدوارهم ومهامهم، وذلك في بناء أفقٍ جماليٍّ يصنع الحياة، ويطلّ منها وإليها. كما تنتقل القصيدة بين مستويات متعددة من أم موسى، إلى النبي موسى، إلى الخضر، إلى السندباد، ثم إلى امرئ القيس، وتبدأ القصيدة بعنترة بن شداد (هل غادر الشعراء من متردِّمِ).
وأشار د. علي إلى بيتٍ اعتبره جميلاً، تمثّل بقول الشاعر: (أهدتْ لنا أمُّ موسى جمْرَ لوعَتِها/وَلمْ نَزَل في ظُنونٍ نتْبَع الخَضِرا)، مضيفاً أن في النص نسجاً بين جمر الشعر وأفق التوقعات في قصة الخضر. أما البيت: (لمْ يُمسِكوا غيرَ شكٍّ أوقدوه لكمْ/إنَّ الحقيقةَ شكٌّ مؤلمٌ كبُرا) ففيه فهم رائع يتمرّد على احتكار الصواب وادعاء الحقيقة المطلقة، ويميل إلى النسبية في الفهم، والتي تفضح المتشددين الدينيين الذين يمقتون المرابطة على الجمال، مفضلين المرابطة على القبح والبشاعة.
د. عبدالملك مرتاض بدأ من البيتين (قبلَ امرئ القيسِ في سِقْطِ اللغى/وقفوا يبكونَ معنىً جميلاً كان مُنتَظَرا)، و(لمْ يُمسِكوا غيرَ شكٍّ أوقدوه لكمْ/إنَّ الحقيقةَ شكٌّ مؤلمٌ كَبُرا). كما أشار إلى جمال مفردة (كَبُرا)، والتي فيها ما هو مسكوتٌ عنه، فكأنّ الشاعر يومئ إلى قوله تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وقال د. مرتاض: يبدو أن النص كان مجهوداً بالشغل في كتابته، فكأن الشاعر كان ينحت من صَخَرٍ، وسعى إلى استحضار جملة من القيم والآثار والموروثات الدينية والأدبية الجميلة، وهذا يحمد له، وهو الذي جاء بالبيت: (مَن واجهوا صفحةً بيضاءَ تهزِمُهُم/حيناً، وحيناً يُسيلونَ المدى صُوَرا)، معتبراً د. مرتاض أنه البيت الأفخم بين أبيات القصيدة، والأغنى صوراً. ثم أشاد بلغة الشاعر المعجمية السليمة، والذي قدّم نصاً أنيق التشكيل وبديع التصوير.
من جانبه أكد د. صلاح فضل أن السبهان من أمراء الكلام كما قال سبيويه، وهذا مما لا ريب فيه، فالشاعر معجون بلغة القرآن الكريم، وباللغة التراثية المفعمة بعطر الأقدمين. لكن د. فضل توقف عند مسألة في غاية الأهمية، فالبرغم من عمق الشاعر إلا أن الناقد استشعر محدودية المرجعية الثقافية وغياب أثر الفنون في قصائد الشعراء عموماً، متساءلاً إن كان الشعراء يقرأون الروايات، ويتابعون الحركة الفنية التشكيلة والمسرحية.
وأوضح د. فضل أن فؤاد الشاعر ظلّ فارغاً مثل فؤاد أم موسى، إلى أن عثر على إيقاع الحمام في بيت (نَحنُ اتّزانٌ لطيفٌ كالحَمَامِ فهل/يوماً تخَيَّلتَ سِربَاً عادَ مُنْكَسِرا). وأضاف أن بؤرة اهتمام الشاعر تتركّز في الشعر ذاته، عندما يتوحّد مع الموسيقا وتلمع الفكرة في سمائه كأنّها القمر. غير أن الملاحظة التي وضعها د. صلاح على النص تمثلت بارتداد الشاعر كثيراً إلى الماضي، مفتقداً البعد المستقبلي، فسور الجمال الذي يرابط عنده السبهان لا بدّ أن يمتد إلى الحاضر ويعانق المستقبل.
جوب.. سطوةٌ في الشعر
الشاعر محمد الأمين جوب ألقى قصيدة (سيرةٌ أخرى لابنِ نوح)، وهو الذي تعلّم العربية في السنغال، وهي النقطة التي استوقفت د. عبدالملك مرتاض الذي وجد اللغة المعجمية التي يملكها جوب جميلة، فيما القصيدة أجمل وأبدع، ومنها اقتطفنا المقطع الأول:
يَمْشِي إلى الله طِفْلَاً لَمْ يَجِدْ لُغَتَه
وَحيثُ لا جَبَلٌ يُؤْوِي بَنَى ثِقَتَه
وَحيثُ لا حَوْلَ للإنْسَانِ
ثَارَ عَلى أقْدَارِهِ
لِيُوَارِي الْمَوجَ فَلْسَفَتَه
تَمْشِي إلى أيْنَ؟
يا هَذا على حَذَرٍ
أرَاكَ مِثْلَ نَبيٍّ
خَانَ مُعْجِزَتَه
مَا زَالَ يَرْكضُ نَحْوَ الأمْسِ
مُسْتَبِقاً أيّامَهُ
فَسَّرَ الجُوديُّ مُعْضِلَتَه
“ذو مِرَّةٍ” وَاسْتَوى في الحُزنِ جَوْهَرَه
وظَلَّ يَتْعبُ في الّلاوَعْي حَنْجَرَتَه
ثم بدأ د. عبدالملك مرتاض من قول الشاعر: (كأنّني وطنٌ يَعْدو إلى وطنٍ/وقَدْ أضَاعَ دَليلُ الوَصْل بَوْصَلَتَه).. ليضيف أن الشاعر كان رائعاً في نصّه، وليعلن عن سعادته لأن الناس في الدول الأفريقية غير الناطقة بالعربية تعرف لغتنا، كما تعرف الشعر العربي والثقافة العربية والإسلامية.
وأضاف د. مرتاض أن جوب نهض بتشكيلٍ شعريّ عجيب، وجمع بين جمال الشكل الشعري ونُبل الموضوع، واستلهم من القرآن العظيم. فكان موفقاً في نصّه إلى حد بعيد، وجاء شعره كالنسيم العليل، والندى البليل، والنبع السلسبيل.
فيما قال د. صلاح فضل إن لكلمات جوب سطوة كبيرة، والسيرة التي قدّمها في نصّه شقية وعاتية، فيها مزيج من الفلسفة والشعرية، يوجزها في المطلع، فيترك الشاعر الموج يواري فلسفة ابن نوح، ثم لا يلبث أن يخاطبه، أي يخاطب ذات الشاعر، وكأنه يتقمّص شخصية الثائر المتمرد ويتماهى معه، ليصبح كأنه شاعرٌ وابن نبي، والطريف أن ابن النبي يخون معجزته، والتي تصوّر د. فضل أنها تتمثّل في الطاعة.
ولاحظ د. فضل أن جوب يستوعب النص القرآني ويجعله (ذو مِرَّة). ثم أشار إلى العبارة التي أدهشته (قَالُوا لَهُ: كُنتَ عُصفوراً/على جهةٍ غَربِيّةٍ/وَلِجُوعٍ باعَ أجْنِحَتَه)، بالإضافة إلى عبارة (أبِيْتُ خَارِجَ أنْحَائي). لكن عندما قال الشاعر: (شيئانِ في قَلبِهِ)، لم يفصِح عنهما.
والقصيدة كما وجدها د. فضل؛ صرخة ثائرٍ على نفسه، وعلى دوره، وهي تذكّره بقصيدة (ترجمة شيطان) للشاعر عباس محمود العقاد. وكل ما سبق جعل د. فضل يقول إن جوب شاعر متمكّن، وفيه شيءٌ جميل من ذاك الشيطان.
وختم د. علي بن تميم الآراء النقدية حول القصيدة بقوله: إن للشاعر مزاجٌ وكأنه مزيج بين الزنجبيل والسُّكْر، وتحديداً بقوله (سَكْرانَ يقطِفُ وردَ العُمرِ مُحْترِقاً/للآن يرفعُ كالجُدرانِ أخْيِلَتَه).
وأضاف د. علي إن القصيدة ذكّرته بقصيدة الشاعر أمل دنقل (مقابلة خاصة مع ابن نوح)، التي رفض فيها دنقل – أي الشاعر – ركوب السفينة، وآثر البقاء في وطنه دفاعاً عنه وحمايةً له، حيث قال في النص: (بعد أن قالَ “لا” للسفينة/.. وأحب الوطن!).
ثم أشار د. علي إلى أن جوب يسير على خطى دنقل الذي قدم جزءاً من سيرة ابن نوح. فيما جوب يريد تقديم كل سيرة ابن نوح، ويسعى لالتقاط التمرد في تلك الشخصية، وتبريره، فهو عنده مغامر وإن كان لا يمتلك أدوات المغامرة، حيث يقول الشاعر: (كأنّني وطنٌ يَعْدو إلى وطنٍ/وقَدْ أضَاعَ دَليلُ الوَصْل بَوْصَلَتَه)، وكأنّه ضيّع الوطن، ويعدو إلى وطن آخر.
أما الإشارات القرآنية في القصيدة مثل: (الجوديّ، ذو مِرَّة)؛ فلم يجدها د. علي تخدم القصيدة، ولا تضيف إليها جديداً، ومع أن النص جريء، وفارقٌ، ويريد مواجهة القبح بالخيال؛ إلا أنه يعجز عن استكناه شخصية ابن نوح.
القحطاني.. قوةٌ في البيان
خاتمة الشعر كانت مع الشاعرة منى حسن القحطاني صاحبة نص (صولةُ الحقُّ)، والتي كُتبته بمداد الواقع الساخن الذي نعيشه اليوم كما قال د. صلاح فضل، مستقيةً الشاعرة من القرآن، النبع المقدّس الصافي، وهو ما ترجمته في نصّها ابتداءً من أبياته الأولى:
يا صَولَة الحقِّ صُوْلِي في مَرابِعنَا ضَبحَاً إذا رَكبوا قَدْحاً إذا التهَبوا
ولْتَسْردِي شَغفًا تارِيخَ أُمتِنا فَالخَيرُ مُنسَكِبٌ والعَدْلُ مُنتَصِبُ
والبيتُ مُتحِدٌ مُذ قَالَ قائِدُنَا أُسْدٌ كرامٌ فَلا خَوفٌ وَلا نَصَبُ
حَزْمٌ وعَزْمٌ وإيمانٌ بأنَّ لَنَا صَنعاءَ تَزْهو وصَوتُ الظُّلمِ مُجْتَنَبُ
مِنهَا ارْتَشَفْنَا مَعانِي حُبهَا أَمَلا فَأَشْرَقَ الحُلْمُ وَالإِصرارُ وَالغَضَبُ
إنّا بَنُو زايِدٍ أبْنَاءُ فاطمةٍ عِزٌّ وفَخْرٌ إِلَيه الشّعْبُ يَنْتَسِبُ
وقد أضاء د. صلاح على ما قاله الشاعر أبو العتاهية حين تردّدت على مسمعيه سورة العاديات {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} فقال: لقد شيّبتني هذه الآية. مضيفاً د. صلاح: تنشد الشاعرة بقوة وبلاغة لأمة الخير المنسكب والعدل المنتصب، وتتغنى بكبرياء وفخر واعتزاز بالبيت المتّحد وقيادته، تصيب المِحَزّ، وتحسن الأداء، وتُجْمل الموقف بعرامة، كما أعرب عن جمال القرار والجواب في بيتها: (جُودٌ يُعَلِّلُنا شعرٌ يُظَلِّلُنا/هلْ للمكارمِ إلا الجودُ والأدبُ؟)، وجمال المطلع في (صَولَة الحقِّ)، مؤكداً أنها أجادت في المقطع، ولولا المباشرة التي تعطي نبرة خطابيّة للشعر – وإن كان الموقف يقتضيها – لكانت قصيدة مُعجِبة حقيقية.
د. علي بن تميم أكد أن النص لربما سقط سهواً من ديوان الحماسة لأبي تمام، فهو متّشح بالحماسة، ويفيض بها فيضاً. كما أشار إلى وجود المشاعر الصادقة والروح القوية والعنفوان في النص، إذ تستلهم الشاعرة عناصر إماراتية قوية صوراً وشعراً، وتستعير من مفردات القرآن (ضَبحَاً، قدحاً)، كما توظف في النص مفردة الشيخ محمد بن زايد (البيت متوحّد، الحزم، العزم)، وتصنع من الرموز الإماراتية بنية النص مثل (الشيخ زايد، أم الإمارات، الشيخ محمد بن زايد). لكن مأخذ د. بن تميم على النص هو الصوت الجهير الذي أضعف أحياناً الشعرية، إلى جانب وجود قوافٍ قلقة، مثل (العَدْلُ مُنتَصِبُ)، غير أن قوة البيان تنبئ عن شاعرة قابلة للنمو والتطور، وهي التي أحسنت في صراحة الموقف الذي نحن بحاجة إليه.
وآخر الآراء النقدية مع د. عبدالملك مرتاض الذي قال إن ثمة مشكلة في النحو، وتحديداً في عبارة (إنّا بَنُو زايِدٍ)، فهذا صحيح في النحو البسيط، لكن الأفضل أن تكون عبارة (بَنُو زايِدٍ) منصوبة على الاختصاص لتصبح (إنّا بني زائدٍ)، لأن الأمر يتعلق بتخصيص الإمارات بشيء، وتخصيص أبناء زايد.
والموضوع هو فخر الشاعرة بوطنها، وتبجيل قادته، وتم قبول ذلك من الشاعرة منى لأنها إماراتية، وفخرها صادق بأمجاد بلدها. ولم يفت د. مرتاض الإشارة إلى وقوع منى في بعض النشاز من مثل (فَأَشْرَقَ الحُلْمُ وَالإِصرارُ وَالغَضَبُ)، فالحلم والغضب معناهما متنافران، و(هذا هوَ النّورُ إذْ مَا خَيَّمَ الوَصَبُ) حيث جاءت مفردة (الوَصَبُ) لإقامة القافية. ومع ذلك وُفِّقَت الشاعرة في الاشتغال على اللغة واللعب بها، وهي التقنية الجمالية الأولى للغة الأدبية العصرية بعامة، والشعرية بخاصة، وهو ما جاء في الشطر (ضَبحَاً إذا رَكبوا قَدْحاً إذا التهَبوا)، و(فَالخَيرُ مُنسَكِبٌ والعَدْلُ مُنتَصِبُ)، وبناء على ما جاءت به منى؛ فقد استطاعت تطويع البحر البسيط للإيقاع الشعري، فكان يتهزهز مرحاً ويرقص طرباً.
في الأسبوع المقبل
يوم الثلاثاء القادم الموافق لـ5 مارس سيكون متابعو البرنامج على موعد مع الحلقة الأولى من المرحلة الثانية، حيث ستُعلن في بدايتها نتائج تصويت الجمهور لشاعرتين أو شاعر وشاعرة، وهم دينا الشيخ، ومحمد الأمين جوب، ومنى القحطاني.
كما سيكون جمهور الشعر على موعد جديد مع خمسة شعراء سيبدأون المرحلة الثانية من المنافسة، حيث سيسعى كل واحد منهم إلى حجز موقع متقدّم له في المسابقة، وهم مبارك السيد أحمد من مصر، شيخة المطيري من الإمارات، ابتهال تريتر من السودان، هاني عبدالجواد من الأردن، وسعد جرجيس من العراق.