صراحة نيوز – بقلم الدكتور ابراهيم بدران
دخل المئوية الثانية للدولة الأردنية العتيدة بثقة وتماسك وطني متميز. ولذا لا بد من تمهيد الطريق للعمل والإنجاز، بعيدا عن التصريحات والمراسلات والأقوال المتكررة دون أفعال. ولأن المئوية الثانية تحل والعالم في عصر التحولات السريعة والتغييرات الكاسحة في كل شيء، فإن التراخي في الأداء، وترحيل
المشكلات من حكومة إلى من تليها، سوف يضع البلاد بعيدا عن المكانة التي نطمح إليها، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو العلم أو التكنولوجيا أو الثقافة. والملاحظ في مسيرة الدول الناهضة، إن القادة والمفكرين والعلماء والإداريين يعملون دائما على حسم القضايا في كل مرحلة، حتى يتحقق الهدف المرسوم، والانتقال إلى المرحلة التالية بثقة، وإعطاء الجهد والاهتمام للمستجد من المواضيع التي يحملها المستقبل. إن واحدة من أهم عوائق الإنجاز والتقدم، هي المشكلات المتكررة، والمتناقضات المزمنة، التي تتفاقم وتصبح أكثر كلفة، فتعمل على إبطاء حركة التنمية بل وإفشالها. والمقصود بالمتناقضة هي الحالة التي تتواجد المشكلة وتتوافر إمكانية الحل في نفس الوقت وتغمض الإدارة عينيها عن المشكلة وعن الحل.
ولدينا العشرات من هذه المتناقضات التي وصلت إلى درجة مؤذية ولا بد من مواجهتها، ومنها:
1 – البطالة والعمالة: تفاقمت البطالة لدينا حتى وصلت (19.3 %) قبل الجائحة وتعدت اليوم (23.5 %) أي 440 ألف مواطن مقابل المعدل العالمي (5.42 %) والمعدل العربي (15.5 %) وفي مصر (7.2 %). وفي نفس الوقت لدينا عمالة وافدة تصل إلى(1.2) مليون شخص أي(64 %) من القوى العاملة الأردنية والبالغة (1.85) مليون. وفي الوقت ذاته تشكو القطاعات الصناعية والزراعية والإنشائية من نقص العمالة الوطنية المدربة، وتطالب السماح لها باستقدام مزيد من العمالة الوافدة. لقد أدى هذا الوضع إلى خلخلة هرم المهارات الأردنية، وتضاؤل القوى العاملة الفنية المتمكنة، إضافة إلى رفع كلفة الإنتاج والمشكلات الاجتماعية والثقافية والأمنية والصحية المتأنية عن كل ذلك. هل يعقل أن تستمر هذه المتناقضة ؟ وإلى متى؟ هل يصعب وضع خطة طويلة المدى للاحلال التدريجي مع حل المشكلات التي تعاني منها العمالة الوطنية بما فيها تعويضات أو دعم مقابل الكلفة غير المباشرة للعمالة الوافدة؟ هل يصعب تدريب عمالة أردنية لتستجيب للاحتياجات المتخصصة في القطاع الصناعي؟ إلا يجب تطوير الإنشاءات والزراعة لتنتقل من درجة المكننة المتواضعة (25 %) إلى مكننة مرتفعة (80 %) أو أكثر لزيادة الإنتاجية وإقبال العمالة الوطنية عليها؟.
2 – التخصص والاختصاص: قبل عام أو أكثر خرج مئات من الأطباء في مظاهرة يشكون البطالة ويطالبون بفرص عمل. وقبل أيام صرح مسؤول في نقابة المهندسين إن (30) ألف مهندس عاطلون عن العمل. والأمر ينسحب على عشرات التخصصات، لدرجة إن ديوان الخدمة المدنية ووزارة التعليم العالي أعلنا معا عن مجموعة من “التخصصات أسموها المشبعة أو الراكدة”. ومع هذا فلدينا ندرة في أطباء الاختصاص، كما بينت جائحة كورونا، وندرة في مهندسي الاختصاص وغير ذلك الكثير. ويتضح هذا في المشاريع حيث تلجأ مؤسساتنا دائماً إلى المستشارين والشركات الأجنبية في المشاريع (حتى مشروع تنظيف مدينة العقبة تم إحالته على شركة أجنبية). هل يمكن إن نستمر على هذه الحالة ونحن نعاني من أزمات معقدة في المياه وفي المناخ وفي الطاقة وفي البيئة وفي التصحر وفي النفط والغاز وإنتاج الغذاء وغير ذلك الكثير؟ في حين إن لدينا عشرات الآلاف من الجامعيين العاطلين عن العمل؟ ألا ينبغي الإرتقاء بالتخصصات إلى اختصاصات محددة من خلال البعثات القصيرة والدورات الاختصاصية؟ فتحدث فرقاً كبيراً في الأداء، وتخفف من الاعتماد على الشركات الأجنبية والخبراء الأجانب (مع الاحترام)، ليقوم أبناؤنا وبناتنا بذلك؟ أين استراتيجية تنمية القوى البشرية أين مركز القوى البشري؟.
3 – الاستثمار والثروة: إن الاستثمار في المشاريع، وخاصة الإنتاجية، يمثل المحرك الرئيسي للتنمية، كما أن الاستثمار في المشاريع ذات الطابع الصناعي التكنولوجي هو الطريق الوحيد للتحولات الشاملة والتقدم وقوة الدولة. والاستثمار لدينا في هذا الاتجاه محدود للغاية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار توفر القوى البشرية والأمان والاستقرار. ومن جانب آخر فإن الثروات المالية في الأردن موزعة عموما على صغار المدخرين، الذين لا يجدون الفرصة المناسبة لهم لاستثمار مدخراتهم، فتذهب إلى شراء الذهب أو العقار أو إلى البنوك كودائع، تعود الحكومة إلى اقتراض جزء منها. وتبقى البلاد من دون استثمارات وطنية متواصلة النمو حجما ونوعا وعددا وتوزيعا لتنتظر الاستثمار الأجنبي. الا يمكن حل هذه المتناقضة كما فعلت دول كثيرة من خلال تجميع الثروات الصغيرة واستثمارها في مشاريع من خلال جمعيات تعاونية وصناديق استثمار وادخار؟ الا يمكن حل هذه المتناقضة من خلال الاقتصاد الاجتماعي أو التعاوني الذي لجأت إليه دول كثيرة في مقدمتها الدول الإسكندنافية؟ وهل تشكل الاستثمارات الأجنبية ملاذا آمنا حقيقيا إذا كانت مفتوحة دون ضوابط لكي لا تزيد مثلا عن (10 %) أو(15 %) من مجمل الاستثمارات؟ وهل نبقى ننتظر الاستثمارات الأجنبية في حين يعاني العالم من انكماش اقتصادي؟.
4 – الإدارة والكفاءة: أصبحت الإدارة الحكومية تعج بالموظفين إلى درجة الترهل والإشباع ، ومع ذلك حين نتأمل كفاءة الإدارة الحكومية أو فاعلية الحكومة كما تسميها المؤسسات الدولية نجد أنها متواضعة وترتيبها (50) بين دول العالم. هذا في حين كانت هذه الفاعلية أفضل بكثير قبل سنوات، حين لم تكن الواسطة والمحسوبية والاستنفاع قد غزت الإدارة بعد. ألا يمكن ترشيق الجهاز وتخفيف الأعداد الزائدة من خلال تأهيل الموظفين للعمل في مشاريع جديدة تقيمها الحكومة ويشارك فيها الموظفون انفسهم؟ ألا يمكن ربط التقدم الوظيفي بالتدريب والتأهيل والأداء، بدل الأقدمية المضمونة؟.
5 – المرأة والتعليم والعمل: تتمتع المرأة في بلدنا بفرص للتعليم مكافئة للرجل، ونسبة الإناث في الجامعات تتعدى (51 %). ومع هذا، فإن مشاركة المرأة في قوى العمل لا تتعدى (15 %)، في حين أنها تتعدى (30 %) في معظم الدول. ونسبة البطالة لدى الإناث الجامعيات تصل إلى (48 %). هذا في الوقت الذي يعتبر حجم القوى العاملة الأردنية صغير نسبياً (1.85) مليون مقارنة مع دول أخرى. الا يمكن حل هذه المتناقضة من خلال التوسع في برامج تمكين المرأة بالمهارات الريادية والتوسع في المشاريع الإنتاجية في المحافظات وفي القرى والأرياف؟ وإدحال التطويرات التكنولوجية والمؤسسية التسويقية على الصناعات المنزلية؟.
6 – العضوية والمكافآت: في الوقت الذي يبلغ متوسط دخل الفرد في الأردن (3000) دينار سنوياً، ويطالب الكثيرون برفع الحد الأدنى للأجور وتحسين أوضاع المتقاعدين، يتزايد الانتقاد الشعبي للرواتب والمكافآت الضخمة لمندوبي أو ممثلي الحكومة في شركات أو هيئات مستقلة حيث تتعدى (15) ألفا و(25) ألف دينار شهريا، ومثل هذه الأرقام لا يصل اليها رؤساء الدول والحكومات في أوروبا وأميركا فالراتب الشهري للرئيس الأميركي (28) ألف دينار. وفي معظم الدول ترتبط رواتب المسؤولين ومكافآتهم بنصيب الفرد من الناتج الإجمالي لتكون من (10) إلى (20) ضعفا، لا أن تصل (100) ضعف، ونحن نشكو من ضائقة اقتصادية ومن ركود الأسواق وخسائر الشركات. قد يكون ضروريا وضع حد أعلى للرواتب والمكافآت والبدلات لممثلي الحكومة بحيث لا يتعدى المجموع (30) ضعف متوسط نصيب الفرد، وتحويل الفروق إلى صندوق لإنشاء مشاريع إنتاجية في المحافظات. حيث يتوقع أن تتعدى عائدات الصندوق (50) مليون دينار سنويا، كافية لإنشاء عشرات المصانع والمزارع في كل عام.
يتطلع المواطنون لأن نبدأ المئوية الثانية بوطنية ونشاط وإنجاز، بعيدا عن أعباء المشكلات والمتناقضات المزمنة خاصة وأن لدينا رأس المال البشري ولدينا الإرادة لأن يكون مستقبل الأردن مسيرة تقدم نحو الازدهار.
*وزير التربية والتعليم الأسبق