صراحة نيوز – بقلم د. محمد أبوحمور
وزير مالية سابق
أكدت مقابلة جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله مع شبكة سي بي اس الامريكية الاسبوع الماضي عمق الرؤية الملكية حول التحديات الاقتصادية التي تواجه المملكة في الظروف الراهنة وأمكانية تحويلها الى فرص، وخاصة عندما أكد خلال المقابلة أن فيروس كورونا تحد تواجهه جميع الدول ، ويتضح خلاله قدرتها على الاصلاح الاقتصادي ، وبين سعي الاردن لتصدير معدات طبية وارسال كوادر بشرية لبعض البلدان التي تعاني من تفشي الوباء .
وهذا الامر يستلزم النظر بعمق في كيفية العمل ليس فقط لتجاوز المصاعب الحالية المرتبطة بانتشار الفيروس وانما ايضاً التفكير بالاصلاحات الضرورية لتمكين الاردن من تجاوز التحديات الاقتصادية التي تفرضها ظروف ما بعد الوباء، خاصة وان هناك العديد من المصاعب والتحديات الاقتصادية المتجذرة التي كنا وما زلنا نواجهها وهي تحتاج للانخراط بعمل دؤوب وفوري خلال المرحلة الحالية والمراحل المستقبلية ايضاً فلا مجال للتأجيل أو التسويف خاصة وأن السيناريوهات المستقبلية لا زالت تتصف بالضبابية وعدم الوضوح.
وفي ذات الاطار لا بد من الاشارة الى التوجيهات الملكية للحكومة أوائل هذا الشهر حول ضرورة بحث التداعيات الاقتصادية للأزمة الراهنة ووضع الخطط اللازمة لاحتوائها.
فكرة الاصلاح الاقتصادي تهدف الى توفير مرونة اقتصادية تتيح التعامل مع الصدمات المختلفة وتوفر البيئة الملائمة للاستفادة من المزايا التنافسية ، والاصلاحات التي يمكن تنفيذها عادة ما تتم بشكل حزمة لضمان فاعليتها والاستفادة من المزايا التي توفرها، وعادة ما يتم بناء هذه الحزمة لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد بما في ذلك هيكلة مؤسسات الدولة بهدف رفع كفاءاتها.
وخلال السنوات الماضية اعتمدت أغلب الاصلاحات على الاجراءات المالية الهادفة الى جباية مزيد من الايرادات، الا انه بات واضحاً ان هذا الاسلوب لم يعد فعالاً بل على العكس من ذلك أدى الى تباطؤ النشاطات الاقتصادية ، وخلال الربع الاول من هذا العام تم التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وأقره مجلس ادارة الصندوق الشهر الماضي، ويتميز هذا البرنامج الذي يمتد لأربع سنوات انه يرمي بشكل رئيسي إلى إدخال إصلاحات هيكلية تهدف إلى زيادة النمو، عبر تحسين بيئة الأعمال للقطاع الخاص، وتوفير فرص عمل أكثر للشباب، وخفض مساهمات الضمان الاجتماعي للشركات الناشئة، وتقليل تكاليف الكهرباء للشركات.
وتبلغ قيمة التمويل الذي سيقدمه الصندوق حوالي 1.3 مليار دولار، كما أن الموافقة على البرنامج ستساعد في تسهيل الحصول على التمويل وتحفز الاستثمار المحلي والأجنبي، كما ان ذلك يؤكد ثقة الجهات الدولية بقدرة المملكة على تنفيذ اصلاحات ذات قيمة، وسوف يدعم البرنامج الجهود التي تبذل لمساندة القطاعات الاقتصادية التي تاثرت بالازمة الراهنة.
ولا شك بان هذا الاتفاق سوف يحفز مؤسسات التمويل الدولية والمانحين على تقديم تمويل بشروط ميسرة للأردن، ويدعم الثقة بالاقتصاد الاردني ، وتشير المصادر ذات العلاقة الى ان البرنامج الذي تم التوافق عليه صمم بحيث يسمح باستخدام بعض من بنود الموازنة لمواجهة أزمة كورونا، حيث أجريت بعض التعديلات على بنود البرنامج بما يتبح للحكومة إنفاق مزيد من الأموال على قطاع الرعاية الصحية لمواجهة التكاليف المالية خاصة في ظل التوقعات بتراجع الإيرادات خلال العام الحالي.
وهو ايضاً مصمم لتوسيع القاعدة الضريبية بدلاً من زيادة الضرائب، عبر تحسين الإدارة الضريبية وتقليص بعض الإعفاءات ، ولتوفير المرونة اللازمة سيتم تعديل البرنامج على مدى السنوات الثلاث المقبلة بما يتناسب مع المستجدات المحلية والاقليمية التي سوف تترتب على الازمة الناجمة عن وباء كورونا.
سوف يشكل البرنامج دعماً للجهود التي تبذل لتأمين بعض الاحتياجات التمويلية للمملكة، هذا وقد حصل الاردن خلال الفترة الاخيرة على بعض الدعم لمواجهة الوباء بما في ذلك قرض اضافي ميسر من الاتحاد الاوروبي بقيمة 200 مليون يورو، ومنحة من الولايات المتحدة بقيمة ثمانية ملايين دولار ومعونة مالية من الصندوق العربي للأنماء بمبلغ 3.2 مليون دولار
وكما أثبتت الدولة الاردنية نجاحها في التعامل مع الجانب الصحي من الازمة الحالية من المؤمل ان نأخذ العبرة من ذلك من خلال التعامل مع التحديات الاقتصادية بنفس الجدية والكفاءة بهدف تقليص الكلف المترتبة على الوطن مستقبلاً، ومن الواضح ان القدرة على استعادة زخم النمو الاقتصادي تحتاج الى التكيف مع الظروف المستجدة ليس فقط من قبل الانشطة الاقتصادية وانما ايضاً من جانب المواطنين، فقد نشهد اختلافاً في طبيعة الوظائف المطلوبة أو المهارات والقدرات اللازمة لاداء الوظائف ، وقد أثبت المواطنون الاردنيون قدرتهم على التكيف مع الظروف التي فرضتها المستجدات وتغيرت أنماط الاستهلاك ومن المحتمل ان طبيعة الاستجابة لواقع ما بعد الوباء ستكون مختلفة عما قبله، كما ان التحسين المستمر لبيئة الاعمال ضرورة لازمة ، فاستثمارات القطاع الخاص لا زالت هي الاساس الذي يمكن الاعتماد عليه لتجاوز الظروف الراهنة.
عمدت الحكومة الى محاولة الاستفادة من الظروف الراهنة لتحقيق اصلاحات هيكلية ضمن نطاقات محددة، فمثلاً فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي أوضحت بشكل جلي أن العاملين المشمولون بالضمان يمكنهم الاستفادة من المزايا التي يوفرها نتيجة التعطل عن العمل ،كما تم منح المؤسسات التي يخضع العاملون فيها للضمان ميزة الاستفادة من الفتح الجزئي لبعض القطاعات الاقتصادية بهدف التشجيع على الانضواء تحت مظلته ، كما أن هناك سعي واضح لتعزيز الشمول المالي للافراد وكذلك التشجيع على استخدام المزايا التي توفرها التكنولوجيا الرقمية في القطاع المالي ، وبالرغم من أن هناك بعض الاعتراضات على اللجوء لهذه الاصلاحات في الظروف الحالية الا ان الهدف منها والاثر المتوقع جراء ذلك قد تكون له انعكاسات ايجابية على بيئة الاعمال وعلى العاملين أنفسهم.
وفي ذات الاطار قد يكون من المناسب التفكير باجراء اصلاحات هيكلية في الاطار المؤسسي بما يضمن متانة المؤسسات الحكومية ويعزز قدرتها على تقديم خدمات ملائمة للمواطنين ، أضافة لذلك هناك حاجة لاجراء اصلاحات متعلقة بالموازنة العامة من حيث أسلوب اعدادها وتعزيز دورها الرقابي الذي يتيح المساءلة بناء على النتائج ويعزز الانضباط المالي، ويساهم في توجيه الانفاق نحو الاولويات ذات الاثر المباشر على تنمية الموارد البشرية، واجمالاً نحن بحاجة للقيام بكل ما يمكن لنستطيع ان نتجاوز الاثار المستقبلية للظروف الراهنة.
أبرزت الازمة الحالية أهمية القطاعات الانتاجية المحلية سواء ما يتعلق منها بالجانب الصحي او الغذائي كما بينت أهمية التكامل والترابط بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وقد أشار الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغلتز لهذا الجانب حيث أكد ضرورة “إقامة توازن أفضل بين العولمة والاعتماد على الذات”، وأضاف ان : الاقتصاديين اعتادوا على الاستهزاء بدعوات البلدان لمتابعة سياسات الأمن الغذائي أو الطاقة. وكانت حجّتهم أنّ الحدود غير مهمّة في زمن العولمة، وأنّه يمكنهم دائماً اللجوء إلى بلدان أخرى في حال حدوث أي شيء داخل بلادهم.
بيد أنّ هذه الجائحة أثبتت فجأة أهميّة الحدود، حيث نرى البلدان تتمسك بشدة بمواردها من الأقنعة والمعدات الطبية، وتكافح من أجل الحصول على الإمدادات”، ولكن هذا المنظور لا يعني الانكفاء على الذات وعدم الاستفادة من المزايا التي توفرها العولمة والتجارة الحرة، وانما العمل قدر الامكان لتوفير مزايا الاعتماد على الذات عبر العناية بقطاعات الاقتصاد الحقيقي المنتج مع عدم التقليل من أهمية القطاعات الخدمية.
تشير مختلف الدراسات العالمية والاقليمية الى اننا سنشهد تغيرات كبرى وأن عالم مابعد الوباء لن يكون كما قبله ، وبهذا الخصوص فقد أعلن البنك الدولي قبل بضعة أيام أن الدول النامية بصدد التعرض لخسارة كبيرة في أحد مصادر دخلها الحيوية بسبب تراجع التحويلات المالية للمغتربين بحوالي 20% ، حيث انه ونظراً لظروف الركود العالمي فمن المتوقع أن تنخفض مبالغ التحويلات إلى 445 مليار دولار مقارنة ب554 مليار في عام 2019، وبحسب دراسة جديدة للإسكوا سيعاني اكثر من ثمانية ملايين شخص إضافي من الفقر في المنطقة العربية نتيجة انتشار الوباء.
كما ستخسر المنطقة حوالي 1.7 مليون وظيفة على الأقل، وتشير الدكتورة رولا دشتي، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا(الإسكوا) الى أن هناك هدر في الغذاء بحوالي 40 مليار دولار، لذلك يجب أن يعيد المواطن العربي النظر في كيفية استهلاكه للغذاء.
وعموماً فان المنطقة العربية لديها أزمة مزدوجة فأضافة الى معاناتها من تفشي الوباء فقد اصطدمت ايضاً بازمة اخرى تتمثل في الانخفاض القياسي لأسعار النفط والذي سيكون له تأثير مباشر على الدول العربية المنتجة للنفط، كما ان الدول العربية المستوردة للنفط لن تكون بمنأى عن الانعكاسات غير المباشرة لهذه الازمة، لذلك فالتضامن في هذه المرحلة يبرز كأولوية لمختلف دول المنطقة، فالمصاعب والتحديات الصحية والاقتصادية التي تؤثر على الدول المختلفة مترابطة وان كانت انعكاساتها مختلفة الشدة والتنوع.
وفي اطار ايجاد البيئة الملائمة لتحفيز الاستثمارات المحلية وجذب الاستثمارات الخارجية نستطيع البناء على الادارة الناجحة للدولة الاردنية في المجال الصحي، والقدرة الانتاجية التي اثبتتها العديد من القطاعات الاقتصادية، حيث بات من الواضح ان لدينا امكانيات لا يستهان بها، ويمكن من خلالها تحقيق نجاحات مميزة في مختلف المجالات، خاصة اذا كرسنا مفهوم الشراكة مع القطاع الخاص بشكل عملي وواصلنا بناء أجواء الثقة ، التي سادت خلال مكافحة الوباء، لتكون نهجاً في التعامل مع الفعاليات الاقتصادية الوطنية ودعمناها بحوكمة رشيدة وارساء لحكم القانون ومواصلة التصدي لكافة اشكال الفساد .