الانتخابات التونسیة الأخیرة تشبھ فصلا من الروایات الخیالیة اكثر مما تشبھ الواقع العربي.
فالدیمقراطیة التي تجلت في انتخاب أستاذ جامعي بلا سیرة سیاسیة أو ارتباطات حزبیة دون أن یدخل في تحالفات او یحظى برعایة خارجیة مشھد یبعث على التأمل ویدعو الى التفكیر.
الحدث التونسي الجدید یتعارض مع قراءات عبدالرحمن بن خلدون ویتعارض مع نموذج الحكم العربي الذي أسس لھ معاویة قبل اكثر من ثلاثة عشر قرنا حینما اصبحت القبیلة القوة التي تدیر الدولة وتستحوذ على كل مواردھا ومجدھا وشھرتھا فیتوارث الابناء الحكم ویذعن الجمیع لسلطات الحاكم وتصاغ القوانین والدساتیر وتسیر الجیوش باسم الحاكم.
في النظام السیاسي العربي ھناك افتراضات توجھ الحاكم ونظرة یحملھا الحاكم عن الرعیة.
فالحاكم یملك الارض وما علیھا ولھ الحق في ادارة الشؤون العامة وھو الآمر الناھي الذي على الجمیع طاعتھ والانصیاع لأوامره. في مطالبات الأفراد بالمشاركة مخالفة لافتراضات الحاكم وتحد لحقھ الإلھي في الحكم لذا فإن التنازلات التي تقدم من وقت إلى آخر ھي كرم منھ ینعم بھ علیھم ولا ینبغي أن یثیر شھیتم للمزید منھا.
لا أعرف بدقة شعور النخب والطبقات السیاسیة العربیة التي قاومت الثورات فأجھضت نتائجھا وشیطنت كل من أسھم في دعمھا باعتبارھا مؤامرات حیكت في الظلام من أجل النیل من وحدة الأمة واستقرار أنظمتھا السیاسیة.
الأنظمة العربیة والعالمیة عملت على الحیلولة دون حدوث انتقال سلس نحو الدیمقراطیة لكي تنظر الشعوب إلى نماذج یمكن تقلیدھا او الاقتداء بھا.
من اجل ذلك عملت على إنفاق عشرات الملیارات لعرقلة التغییر وإیجاد ثورات مضادة.
المواطن التونسي احمد الحفناوي صاحب المقولة الشھیرة “ لقد ھرمنا من أجل الوصول إلى ھذه اللحظة التاریخیة“ نال شھرة واسعة في العالم العربي بعد ان استخدمت عبارتھ شعارا تبثھ الفضائیات العربیة التي انشغلت بتغطیة احداث الربیع العربي وتتبع انتقالھا عبر شمال افریقیا وصولا الى المشرق العربي خلال السنوات الاولى من الربیع العربي.
وسائل اعلام عربیة اعادت تسلیط الضوء على شخصیة وتجربة الحفناوي لتظھر تدھور اوضاعھ الاقتصادیة والامنیة بعد الثورة التونسیة فأجریت عشرات المقابلات مع الحفناوي لتقول بأنھ خسر المقھى الذي كان مصدرا لدخلھ واصبح غیر آمن في المجتمع التونسي الجدید. أیا كانت الحقیقة فمن الواضح وجود احتدام صراع ظاھر وخفي بین قوى المحافظة والقوى الجماھیریة الشعبیة التي لا ترى في الواقع المعاش ما یخدم المصالح الوطنیة او یحقق احلام الشعوب.
بموازاة ذلك تعیش الشعوب العربیة حالة من الانقسام حول ما حدث ویحدث على اراضیھا ففي حین یرحب البعض بحركات التغیر وینخرط في الانشطة والحركات التي تسعى للتغییر بقي البعض رافضا لكل ما یجري ومعترضا على الثورات باعتبارھا افعالا تھدد الأمن وتعصف بالاستقرار.
وسط الجدل الدائر بین الثوار والمحافظین تعمل العدید من الانظمة والقوى العالمیة الراغبة في حمایة نفسھا ورعایة مصالحھا على إنفاق ملیارات الدولارات لإجھاض الثورات وتشویھ صور قادتھا وخلق ثورات مضادة وإحداث انشقاقات وإظھار فشل القائمین على الحركات في بناء نظم جدیدة عادلة ومستقرة.
في تونس التي كانت وما تزال البلد العربي الأكثر تحررا من عوامل تكلس النظام وتباطؤ الانتقال والتغییر یبدو اختیار قیس سعید رئیسا للجمھوریة تحولا تاریخیا یبعث على الامل والفرح ویولد الثقة في اوساط الشعوب العربیة التي عانت من الخذلان والاحباط بعد ان صودرت حقوقھا وحرمت من الاستمتاع بما تحظى بھ أمم وشعوب العالم.
تحیة لتونس ولشعبھا على ھذا الانجاز التاریخي والامل ان ینجح الشعب في توظیف ھذه اللحظة لصناعة المستقبل الذي تحلم بھ الأمة.