يبدو أن حركة ماكينة التكافل الاجتماعي، التي تبلغ أعلى سرعة ممكنة لها في شهر رمضان، لم تستطع أن “تفرمل” عجلات الفقر الذي تتوسع جيوبه في بلادنا. مئات الآلاف من الطرود والمساعدات، وموائد الرحمن والزكاوات، تقف وراءها جهات رسمية، كصندوق الزكاة ووزارة التنمية الاجتماعية ومؤسسات أخرى، كما يساندها موسرون ومتطوعون وجمعيات وتكايا، تذهب كلها لسد عوز الفقراء والمحتاجين، ومع ذلك ما تزال صرخات الفقر تتصاعد، وأنين الجوع يتمدد، الحكي -كما يقولون- ليس مثل “الشوف”، فثمة بلدات وقرى بالمراكز والأطراف، لا يجد الأردنيون فيها ما يقيم أودهم، أو يلبي أدنى احتياجاتهم الإنسانية. لا جديد بالصورة، فأرقام الفقر ونسبه وصلت لنحو 30 % من الأردنيين، وربما أكثر، ومثلها أيضا أعداد العاطلين عن العمل، “كورونا” كشفتنا، ثم جاء رمضان متزامنا مع حرب” أوكرانيا” فانكشفنا أكثر، الحكومة لا تملك أي حلول جذرية، كل ما فتحه الله عليها هو أن تقدم الوعود والنصائح، آخر نصيحة سمعناها لمواجهة فوضى ارتفاع الأسعار جاءت على لسان أحد الوزراء “لا تشتروا السلع التي ارتفعت أسعارها”، شكرا! الأخطر من ذلك، أن موجة الغلاء الحقيقي لم تداهمنا بعد، يكفي أن ندقق بمشهد الاقتصاد العالمي، وكيف تصاعدت الأسعار في بلدان اقتصادياتها أفضل منا، لندرك أن الأيام المقبلة ستكون أصعب مما نتصور، وبالتالي فإن خرائط الفقر التي توسعت خلال العامين المنصرفين ستتوسع أكثر، وكل ما يمكن للحكومات أن تفعله لن يتجاوز الدعوات بأن يتحمل الناس ويدبّروا أمورهم، أما كلفة ذلك، سياسيا واجتماعيا، فلا أحد من المسؤولين، للأسف، يفكر فيها. إذا أضفنا لذلك، تسعيرة فاتورة الكهرباء التي من المتوقع، حسب التصريحات الرسمية، أن تتضاعف نهاية هذا الشهر، وما سيترتب عليها من أعباء جديدة على المواطنين، تمس أهم سلعة بحياتهم، فإن أسئلة الغلاء وتآكل الدخول المتواضعة أصلا، والخروج من دائرة الغارمين، ناهيك عن محاصرة ارتدادات الفقر اجتماعيا، على صعيد ارتفاع الجرائم والانتحار وتفشي الرشوة و”التسفل الأخلاقي”، هذه الأسئلة إن بقيت معلقة بلا إجابات واضحة، ستتحول لمفاعيل قابلة للانفجار بأي لحظة. ما العمل إذا؟ الإجابة برسم الدولة، بمؤسساتها كافة، وهي لا تحتمل التسويف، ولا تتعلق بالمجال الاقتصادي وحسب، وإنما بالمجال السياسي والاجتماعي أيضا، يمكن أن أسهم بالإشارة لعناوين عدة يجب أن نذهب اليها، الأول يترتب على الحكومة إعلان حالة التقشف العام، والبدء بإجراءات تكفل ذلك، سواء من جهة إعادة هيكلة الموازنة، وترتيب أولويات الإنفاق وتحديد سقف للرواتب…الخ، أو من جهة البحث عن بدائل أخرى تساعد على إنعاش الاقتصاد. العنوان الثاني سياسي بامتياز، حيث لا بد من تحريك عجلة السياسة، وتحسين مناخاتها، وترطيب المزاج الشعبي، فما نعجز عن إدراكه بالاقتصاد يمكن أن نعوضه بالأدوات السياسية، ليس فقط لامتصاص حالة الاحتقان والقهر والغضب الشعبي، وإنما لضمان شراكة المجتمع وتكافله، وضبط حركة الشارع الذي يعاني من فقدان الثقة بمؤسساته، ثم مقايضة مطالبه الاقتصادية بانفراج سياسي، كما حصل بتجربتنا العام 1989. أما العنوان الثالث فيتعلق بمسؤولية المجتمع، أقصد طبقة الموسرين والأثرياء، البنكرز والتجار، هؤلاء يجب أن يتحركوا، سواء بدوافع ذاتية تعبر عن قيم ومواقف “رأس المال” الوطني، أو بتدخل من الدولة بشكل قانوني إن لزم الأمر، لكي يسهموا بواجبهم، هذا ليس منّة منهم على بلدهم، وإنما جزء من مسؤوليتهم الاجتماعية، ووسيلة لحماية أموالهم واستثماراتهم، هذه التي جعل الله فيها نصيبا مفروضا للفقراء والمحتاجين، كما أن ما يدفعونه غيض من فيض كرم البلد عليهم، وقد حان وقت سداده.