في مثل هذا اليوم 6 حزيران 1967 أي اليوم الثاني لتلك الحرب، كنت قائدا للسرية الثانية من كتيبة الأمير عبد الله بن الحسين الآلية الأولى، وهي إحدى كتائب اللواء المدرع 40، الذي كّلف بصد العدو الإسرائيلي المتقدم على محور نابلس جنين. كنت وجنودي مرهقين إذ جئت بسريتي من منطقة الأكيدر على الحدود الأردنية السورية، سيرا على الجنزير طيلة ليلة 4 / 5 حزيران، للانضمام إلى الكتيبة الأم التي كانت منتشرة قيل بضعة أيام، في منطقة مثلث المصري بالغور الأوسط.
وقعت الحرب فجأة بعد ظهر يوم 5 حزيران، وصدرت الأوامر للواء المدرع 40 بالحركة نحو القدس، وبعد أن اقترب من جسر الملك حسين على نهر الأردن، صدرت الأوامر للواء بالعودة والتوجه نحو مدينة جنين من خلال جسر داميا. وخلال العودة أختلط اللواء بالقوات العراقية التي وصلت توا مرهقة إلى منطقة مثلث المصري، مما سبب تأخيرا في حركة اللواء المدرع 40 نحو جنين.
وصل اللواء في صباح يوم 6 حزيران إلى منطقة مثلث الشهداء تحت مرأى من سلاح الجو الإسرائيلي، وانتشرت كتيبة الأمير عبد الله في مزرعة الزيتون أمام قرية الكفير. كان بإسناد الكتيبة سرية دبابات وسرية مدفعية هاوتزر 105 ملم محمول، وكذلك سرية مدفعية 40 ملم دفاع جوي تساند اللواء، موزعة في مناطق واسعة على المرتفعات المجاورة.
هذا بالإضافة إلى الوعد بإسناد جوي قريب، من قبل سرب طائرات مقاتلة مصرية. كان واجب الكتيبة القيام بهجوم معاكس على قوات العدو التي ستقوم بصدّ اختراقها كتيبتي الدبابات الثانية والرابعة من كتائب اللواء، في منطقة مثلث الشهداء جنوبي بلدة جنين.
ومنذ انتشارنا في مزرعة الزيتون صباح يوم 5 حزيران ونحن نتلقى القصف الجوي من طائرات المستير الإسرائيلية، ومن مدفعية العدو الثقيلة المتمركزة خلف مرتفعات دير أبو اضعيف إلى الشمال من مواقعنا المنتشرين بها.
لم تكن لدينا دفاعات جوية فعّالة، كي تحدّ من غارات الطائرات الإسرائيلية، التي كانت تصول وتجول في سمائنا بارتفاعات منخفضة، دون أن يعترضها صاروخ أو مدفع مقاوم للجو.
فكانت الطائرات تلقي قذائف النابالم على شكل براميل متوسطة الحجم، وعندما تسقط تلك القذيفة على شجرة الزيتون المعمّرة تعرّي أغصانها من الأوراق وتحرق أطرافها، وبهذا تكشف الأليات المخفية تحتها، كما تؤدي لحرق الأجسام البشرية التي تصيبها. ثم تتناوب بعدها المدفعية التي تلقي حممها في كل مكان، حيث استشهد بعض أفراد الكتيبة ومن بينهم سائقي رحمهم الله.
ذهبت أبحث عن قائد الكتيبة، لأسأله عن الطائرات المصرية الموعودة، فوجدته مع مساعده قد اتخذا قيادتهما في مغارة فوهتها إلى الأعلى، ويتم النزول بداخلها والخروج منها من خلال استخدام ساق شجرة تين، كانت قد نبتت في وسط تلك المغارة.
وعندما هبطت إلى موقع قائد الكتيبة، سألته عن الدعم المصري بالطائرات لمواجهة طائرات العدو، أفادني بأنه اتصل مع قائد اللواء عدة مرات، وفي كل مرة يقول أنها ستصل بعد قليل. وبينما كنت في داخل المغارة، كنت أسمع دوي قنابل المدفعية المعادية على مواقعنا، بصورة مضاعفة بسبب الصدى الذي يحدث داخل المغارة.
نصحتُ قائد الكتيبة ومساعده بالخروج من هذه المغارة، لأن صوت القنابل بداخلها كان مخيفا، وأن احتمال سقوط قنبلة داخل المغارة سيقضي على قيادة الكتيبة، ولكنه لم يستجب للنصيحة. ثم تسلقت ساق شجرة التين وخرجت إلى العراء متجها نحو قيادة سريتي، بينما كنت أشاهد القنابل تتفجر من حولي وأسمع أصوات انفجاراتها أخف من تلك التي داخل المغارة.
كنت في حينها أكاد أتفجر غضبا لعدم وصول الطائرات المصرية لمساندتنا، ولعدم وجود أسلحة دفاع جوي فعّالة لدينا لتخفف من وطأة غارات الطائرات المعادية. فناقلة الجنود المجنزرة تحمل في برجها رشاش من عيار 50 ملم، ولكنه مثبت على برج الناقلة ولا يمكن توجيهه إلى الجو ضد الطائرات، إضافة لصعوبة حركته.
وعندما كنت أشاهد من مكاني على الأرض، الطيار الإسرائيلي في غرفة القيادة وهو يحاول الدوران فوق المنطقة شعرت بالقهر، فصعدت على ظهر الناقلة وحملت رشاش خفيف B R ورحت أطلق النار على الطائرات المهاجمة رغم معرفتي بعدم فعاليته ولكن لم يكن باليد ما يمكن فعله غير ذلك. وفي هذه الأثناء كان أحد ضباط الصف برتبة عريف داخل برج الناقلة، يحاول توجيه الرشاش نحو الطائرات ولكن دون فائدة.
شاهدني أحد الطيارين وأنا أوجه الرشاش نحوه رغم عدم تأثيره عليه، فقرر أن يقدم لي هدية ممثلة ببرميل نابالم، فدار دورته وألقي هديته. كنت أراقب البرميل وهو متجه نحوي فنبهت العريف لذلك، وعندما صار قريبا جدا مني قفزت من فوق الناقلة إلى جانبها، فسقط البرميل في مكاني تماما، وانتشرت نيرانه إلى جميع الجهات على شكل مظلة ولكنها لم تصبني إلاّ أنها أصابت العريف، فخرج راكضا على الأرض والنيران مشتعلة به، فقمنا بإطفاء النار سريعا وذلك بمسح النابالم عنه بالتراب، وخرج منها سالما مع بعض الحروق في وجهه.
استمر حالنا كذلك في تلقى الغارات الجوية والقصف المدفعي طيلة النهار وحتى حلول المساء، فتمكن العدو من اختراق المواقع الأمامية ووصلت طلائعه إلى أطراف بلدة الكفير. كان بالقرب مني مدرعة كاشفة، فأطلقت إحدى الدبابات المعادية عليها قذيفة خارقة، أصابتها وجرحت آمرها، الذي وقع أسيرا بيد العدو لعدة شهور، ولكن كُتبت له الحياة من جديد وعاد إلى الأردن، وما زال حيا يُرزق أمد الله بعمره.
وفي هذه الأثناء أصبتُ أنا في وجهي بجرح بليغ، بحيث لم أكن قادرا على التكلم على الجهاز اللاسلكي أو مع الآخرين، دون أن استخدام قطعة نقود معدنية، لمحاولة فتح فمي قليلا لأتمكن من الكلام.
حاولنا التراجع وتشكيل مواقع صد الخرق أمام بلدة عقّابه، ولكن صدرت لنا الأوامر بالانسحاب، بعد أن تبين بأن مصر – وهي مركز الثقل في الحرب – قد جُردت من سلاحها الجوي ولم تعد قادرة على الاستمرار بالحرب، وظهر بأننا في دول المواجهة قد خسرنا الحرب، رغم أننا لم نشتبك مع العدو في تلك المنطقة بمعركة تصادمية وجها لوجه.
ودون التطرق لتفاصيل تلك الحرب المشؤومة في مختلف المواقع أقول: أنها كانت خطأ كبيرا في توقيتها وإجراءاتها ارتكبه السياسيون العرب، فزجّوا بجيوشهم في الحرب بصورة مفاجئة دون استعداد كامل لها. فكانت نتيجتها خسارة كبيرة يعرفها الجميع، شملت النواحي العسكرية والسياسية والجغرافية والاقتصادية، وجرّت على الدول العربية نكبات ما زالت تعاني من آثارها حتى الآن، وقد ترافقهم لوقت طويل، إلى أن يبعث الله تعالى لهذه الأمة، من يسترد ما خسرته من أراضيها، ويعيد لها كرامتها المهدورة . . !