يُعد اختراع الفيسبوك ثورة تكنولوجية تستحق التأمل والتقدير، ولو عدنا إلى ما قبل هذا الاختراع من قبل مارك لوجدنا انه كان هناك قانونٌ يسمى قانونَ الاجتماعات العامة ، وكان ينص في أحد بنوده ” للمواطنين الحقُّ في عقد الاجتماعات العامة والندوات والمسيرات بِحُرِّيةٍ ، شريطةَ توجيهِ إشعارٍ كتابي للمحافظ أو مدير الشرطة بذلك قبل 48 ساعة على الأقل من موعد عقد الاجتماع.
لقد أصبح الأمرُ اليومَ مغايراً بفضل هذا الاختراع ” من خلاله تنعقدُ آلافُ الاجتماعات لمناقشة شؤون عامة وليس شأناً واحداً ويتمُّ تبادلُ الأفكار وتوحيد الجهود والتنسيق والتعارف دون الحصولِ على إذنٍ مسبقٍ لموعدِ الاجتماعِ وزمانِه وموضوعِه ،أوِ الغايةِ منْهُ . . .
ما جعلني أتناولُ هذا الموضوع هو قيامُ عشراتِ النشطاء الذين تضررت مصالحهم جراء الانقطاع المتواصل للكهرباء ، رغم تباين أحوالهم واختصاصاتهم وطموحاتهم وانجازاتهم، بل وانتماءاتهم الفكرية من إنشاء صفحة وإدارتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، والدعوة من خلالها للخروج في مسيرات منددة باستمرار الأزمة، مطالبين الجميعَ بتحمل المسئوولية الوطنية والأخلاقية تجاه الشعب . وهنا تجدر الإشارة ونحن بصدد الحديث عن وطنية هؤلاء الشبان وعن الدور الذي لعبوه في تحسين جدول الكهرباء أنهم أبناءُ أُسَرٍ منهَكَةٍ ومحبَطة ومتعبة وهي تلهث لا تستطيع التقاط أنفاسها جراء دفع الفواتير وتأمين لقمة العيش لتسد بها رمق أفرادها.
هؤلاءِ البسطاءُ الذين تجعدت وجوههم قبل أن يبلغوا سنَّ الثلاثين, كبروا على أرصفة الكفاح و الشقاء هم في ظني لا يبحثون عن مغنمٍ أو عمولة ، أو منصب ، وإنما كانت وجهتَهم وطنٌ ضاق بأهله حتى انفجرت عقولهم بكلمة لا وليسوا عابثين بالأمن ولا خارجين عن الصف الوطني، لا يحملون كما يدعى البعض أجندةً حزبيةً ولا خاصة، ولا يتلقَّوْنَ تمويلاً من جهاتٍ مشبوهة ،هدفها زعزعةُ استقرار البلاد ، والسلم الأهلي ، ولم يكونوا جزءًا من حالة الاستقطاب ، كما لم يكنِ اجتماعُهُم التحضيريَّ لهذه المسيرات منعقداً في دار الندوة ، ولا في بيت احد اشد المعارضين لنظام الحكم أو برعايته، ولا حتى تحت جنح الظلام، أو بعيداً عن أعين السلطات بل كان على العام ،عبر منصاتهم المتواضعة ، الكل على دراية بما يخططون وما يريدون، يعرف السلطان والسلطات كل همسة وكلمة، وكل مخطط وخطة ، دون الحاجة لإرسال مندوب ، تميزوا بصبرهم ورباطة جأشهم حيث بقوا على مدار الساعة في اجتماع دائم لمناقشة أنجع السبل للحد من تغول زمرة متنفذة تسلطت على جيوب الفقراء وعلى رغيفهم ، وسلبت عرقهم وجهدهم وكفاحهم ، بنوا غناهم على فقرهم وعزهم على ذلهم وصادروا ادني حقوقهم.
واصلوا الليل بالنهار حتى خرجت المسيرات الجماهيرية في شمال قطاع غزة ومخيم النصيرات وسط القطاع لترفض الواقع غير الإنساني المُهين خاصة أزمة الكهرباء التي يعاني منها القطاع منذ سنوات ، فرغم استخدام القوة المفرطة من قبل أجهزة الأمن لفض المشاركين في المسيرة و الاعتداء عليهم بالضرب ، واحتجاز عدد من القائمين عليها لبعض الوقت ، إلا أنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام كارثة الاستخفاف بالمواطن و ازدواج الثقافة
والهوية ، والعبث بالقيم ، كما وضعوا حداً للترويج لبضاعة الدجل وتجميل الوجوه الفاسدة البشعة، والرقص على حبال العاطفة ، وتسويق العهر السياسي، والكذب المغلف بالسم والترياق .
في الواقع أن هذا القمعَ يُضفي على النفس تساؤلاتٍ كثيرةً و استهجاناً ، خاصة أن أجهزتنا الأمنيةَ التي تحمى وطناً أرضه سليبة ، وحقوق شعبه مصادرة منتهكة من قبل الغاصب قد تخرج معظم قادتها من سجون الاحتلال وفعلوا كل ما بوسعهم من إضرابات واحتجاجات تطالب بتحسين ظروف معيشة السجناء !؟ كيف تأتى لهم أن يقمعوا مظاهراتٍ تندد بتقصير حكامهم وان الأصواتَ التي تتعالى بإطلاق حرية الفكر فى الشق الاخر للوطن و تندد بحجب الرأي ومصادرة الحريات و تخوض معارك إثبات الوجود الشرسة وتسن القوانين كي ينتصر الفكر الحر هي التي تنتهك فيها الحقوق ، وعلى أعتابها تموت فرص ممارسة الحرية والديمقراطية ثم إن ما يجب أخذه بعين الاعتبار والتوقف عنده مليا هو أن قمع الحريات هو وأد للمحكومين ولحق وجودهم ، وهو أشد قبحا من وأد الجاهلية فحسب ، فالجسد مجرد وعاء لما يمتلئ به ، وهو الروح والفكر ، ولا يقتل في هذا الزمن سواهما بحرمانهما من الحق الطبيعي في الحياة بحرية وكرامة ، و العدو الغاشم من يسرق حقوق الناس ويصادر كلمتهم ويكمم أفواههم و يلغي حناجرهم.
و حرية الرأي والتعبير من القضايا الأساسية التي أكدت عليها كافة المواثيق الدولية، نظراً لأهمية هذا الحق الذي يعتبر من القواعد الأساسية لحقوق الإنسان ، والمظاهرات والمسيرات السلمية الاحتجاجية التي يخرج فيها المواطنون تعتبر أرقى ما توصلت إليه أذهان البشر من مظاهر الانتقاد والاعتراض, و في أي دولة حرة تؤمن بمبادئ حقوق الإنسان كلما كان خروج المظاهرات لهدف مشروع و إحقاق حق بدون فوضى أو تخريب قامت السلطات بواجبها في حمايتها وتأمين حدوثها ، يبدو لي أن هذا الاختراع ( الفيس بوك ) لم ينه حياة قانون الاجتماعات العامة فحسب بل أنهى الكثير من معاناة المواطنين وهو في طريقه إلى تكملة مسيرته في تحقيق الغايات وأهمها العدالة في الحقوق والواجبات وأهداف أخرى
فادى منصور / غزة