القدس وكتيبة أم الشهداء

17 ديسمبر 2017
القدس وكتيبة أم الشهداء

صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان

في هذه الأيام التي يحاول بها الصهاينة وعلى رأسهم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المتهور ” ترامب ” تهويد القدس وجعلها عاصمة للكيان الصهيوني، علينا أن نستذكر تضحيات الجيش الأردني للدفاع عنها في العقود الماضية، لنعرف سبب تمسكنا بعروبتها علاوة على مكانتها الدينية في قلوب  المسلمين جميعا.

كتيبة أم الشهداء هي كتيبة الحسين الثانية، والتي كانت أحدى كتائب المشاة في لواء الملك طلال. والكتيبة لمن لا يعرف يتراوح عدد أفرادها عادة بين 400 – 500 فرد وضابط. وقد جرى تشكيلها في أواخر عقد الأربعينات الماضي حيث شاركت  حيث شاركت في حرب عام 1948 في منطقة القدس. كما شاركت الكتيبة في حرب حزيران 1967 وفي مرتفعات القدس نفسها مرة ثانية.

 ومع علمنا إذا ما علمنا بأن حرب حزيران اندلعت بصورة مفاجئة، ودون استعداد مسبق للجيوش العربية، نتيجة لأخطاء سياسية إستراتيجية، إلا أنها برزت في تلك الحرب قصصا بطولية على مستوى الأفراد،  وعلى مستوى الكتائب والوحدات الصغرى مثلت الصمود والبسالة التي اعترف بها العدو قبل الصديق.

وعندما أتحدث عن كتيبة الحسين الثانية، فإنما أتحدث عن قادتها وجنودها في ذلك الزمان، عرفانا وتقديرا لهم على تضحياتهم. فقد كانت هذه الكتيبة التي يقودها الرائد منصور كريسشان، تحتل مواقع دفاعية على المرتفعات الحيوية شمال القدس، والممتدة من تل الذخيرة شمالا وحتى سور القدس جنوبا. ورغم أن الكتيبة قاتلت قتالا أسطوريا، إلاّ أنني سأركز في هذه العجالة على موقع واحد من مواقع الكتيبة، وهو موقع تل الذخيرة الذي جرت به معارك عنيفة، بين كتيبة المظليين 66 الإسرائيلية  وسرية المشاة الثانية من الكتيبة.

فتلّ الذخيرة كان موقعا بناه البريطانيون عام 1930 أيام حكم الانتداب على فلسطين، إذ كان يستخدم لتخزين ذخيرة لمدرسة البوليس. يتكون الموقع من عشرات الملاجئ التي بنيت على طول أنظمة الخنادق الرئيسية الثلاثة المحيطة بالتل، مع وجود مرابض محصنة للمدفعية تغطي كل الخنادق، إضافة إلى ملجأ كبير تحت الأرض، يحوي أماكن معيشة للمدافعين عنه. وكان الجيش الأردني قد سيطر عليه في حرب عام 1948، وقام بصيانته وتقوينه لكونه يسيطر على الطريق التي تصل جبل المشارف بالقدس الغربية.

ونظرا لأهمية المواقع التي تحتلها كتيبة الحسين الثانية، لكونها منطقة حيوية تسهّل العبور إلى مدينة القدس، فقد قررت القوات الإسرائيلية احتلالها مهما كان الثمن. ثم قامت بحشد أفضل قواتها للقيام بهذه العملية.، وأسندت المهمة إلى لواء المظليين 55 بقيادة العقيد موردخاي غور.

بدأ اللواء بالتحشّد مسندا بالطائرات المقاتلة والدبابات والمدفعية في ليلة 5 / 6 حزيران.  وفي حوالي الساعة الثانية والنصف من صباح يوم 6 حزيران، وعلى أضواء كشافين نصبا على بناية الهستدروت، وتحت وابل من قصف الطائرات والمدفعية والدبابات، تقدم اللواء نحو مواقع كتيبة الحسين الثانية بكتيبتين في الأمام، إحداهما كانت نحو تل الذخيرة.، والثانية نحو بقية مواقع الكتيبة.  

ونتيجة للقصف التمهيدي العنيف الذي قام به العدو، تم تدمير معظم الخنادق والمواقع المحصنة ومستودعات الذخيرة ومواقع مدافع الهاون والرشاشات في تل الذخيرة. زحفت كتيبة المظليين 66 على مواقع السرية الثانية في تل الذخيرة، فجوبهت بنيران كثيفة من الأسلحة الخفيفة، دون توفر نيران أسلحة الإسناد الثقيلة لكسر حدة الهجوم. تمكنت قوات الاقتحام من اجتياز الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، والتحمت بالمواقع الدفاعية.

صمد المدافعون في مواقعهم كما في بقية مواقع الكتيبة، معتبرين أن خنادقهم مواقع للقتال أو قبورا للشهداء، الأمر الذي جعل العدو في الساعة الرابعة صباحا، يقوم بتعزيز يعزز قواته المهاجمة بكتيبة مظليين ثالثة.  فتحول القتال إلى معارك بالأيدي وبالسلاح الأبيض استمر حتى الساعة السابعة صباحا. كانت نتيجة القتال في تل الذخيرة فقط أن  استشهد 97 فردا من أصل 101 فردا هم كامل عدد السرية الثانية المدافعة عن الموقع.

يقول أحد الناجين من تلك السرية وهو المحارب السابق صالح السرحان والذي أسر بعد انتهاء المعركة، وهو يستذكر بحرقة وألم، رفاقه الذين استشهدوا دفاعا عن ثرى القدس وأسوارها ومآذنها، التي ما زالت تصدح في أرجاء المكان بعروبة المدينة وقدسيتها : ” كنا فئة قليلة، ولكننا أقوياء مسلحين بالإيمان بالله وحب الوطن، عملنا وبذلنا الإمكانيات التي لدينا على صد هجمات العدو. ومع أن الذخيرة نفذت من الجنود كنا نستخدم بندقية الذي يقضي شهيدا، بعد أن اتسم القتال بالمواجهة والقتال بالأسلحة الفردية. صمدنا وقتلنا أعدادا كبيرة من جنودهم، ولكن قلة السلاح وانقطاع الإمدادات حالت دون تحقيق النصر، لكن النشاما حققوا الشهادة “.

ويقول المحارب السابق الملازم سليمان محسن الدهام أحد مقاتلي الكتيبة : ” لما وقعت حرب عام 1967 كانت الكتيبة دون إسناد، وقدمت بطولات فائقة ضد هجمات العدو، لكن الطيران كشف مواقع المدفعية ودمرها نهائيا، فأصبحت كتيبة الحسين الثانية تدافع بأسلحتها الفردية. ثم حاولت القوات الإسرائيلية للمرة الثانية اقتحام مواقع الكتيبة، إلا أنها جوبهت بصلابة الكتيبة وتصميمها على الدفاع، انطلاقا من عزيمة الجيش وأفراده الأشاوس “. 

وإذا كانت شهادة العدو تعترف بجانب من الحقيقة، فأرجو أن أبين تاليا بعض شهادات العدو في تلك المعركة الخالدة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم إفصاحه عن حقيقة عدد قتلاه ومحاولة تعظيم إنجازاته، ولكنها تبين تصميم جنودنا على القتال رغم عدم تكافؤ ميزان القوى بين الطرفين. يقول العميد الباكستاني علي عدروس الذي عمل مستشارا في القيادة العامة الأردنية خلال عقد السبعينات الماضي في كتابه ” الجيش العربي الهاشمي ” أن موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي عام 1967 قال ما يلي :

 ” كانت معركة تل الذخيرة من أعنف المعارك، التي خاضتها أفضل وحدات القوات الإسرائيلية ضد القوة الأردنية المدافعة. فقد وجد الإسرائيليون أنفسهم بعد أن اخترقوا حاجز الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، يخوضون معركة ضد عدو مصمم على الدفاع لآخر طلقة وآخر رجل. وقد التحم الطرفان في قتال بالقنابل اليدوية والحراب والأيدي، وخسرت قواتنا 21 قتيلا وجرح أكثر من نصف القوات المهاجمة بالضباط والجنود “.

العقيد مورخاي غور قائد لواء المظليين 55 الذي هاجم مواقع كتيبة الحسين الثانية قال : ” على الرغم من أنني اشتركت في عدة معارك في حياتي العسكرية، إلا أن ما شاهدته في هذه المنطقة، وما سمعته من القادة خلال تجوالي عليهم من موقع إلى موقع، كان أمرا لا يصدّق. وكما قال لي أحد القادة : عندما سرت باتجاه مفترق الطرق كان معي أربعة جنود فقط ممن بقوا أحياء من سريتي. وهناك سرية أخرى كانت قد احتلت هضبة تل الذخيرة من الناحية الجنوبية، لم يبقَ منها بعد انتهاء العملية سوى سبعة جنود “.

في كتابه ” حرب الأيام الستة ” يقول المؤلف راندولف ونستون تشرسل، نقلا عن قائد لواء المظليين الإسرائيلي موردخاي غور ما يلي : ” كنا نتقدم بكتيبتين في الأمام، واحدة تعمل في قاطع مدرسة البوليس وتل الذخيرة، والثانية تعمل في منطقة الشيخ جراح. كان هناك قتالا عنيفا من الدرجة الأولى والذي لم أجربه سابقا. على الجنود أن يخترقوا خمسة أسيجة على الأقل، قبل أن يصلوا إلى المواقع الدفاعية.

          اجتاز جنودنا الخط الأول للدفاعات ودخلوا الخنادق، كان القتال متواصلا بين الخنادق، على الأسطح، في المنازل، في الأقبية، وفي كل مكان وأينما كان. استمرت معركة الخنادق من الساعة الثانية وعشرون دقيقة صباحا، وحتى الساعة السابعة صباحا. وقد وصلنا إلى خندق به رشاشين ثقيلين لم نكن نعرف عنهما من خلال الصور الجوية، قفز أحد جنودنا وألقى عليهما قنبلة يدوية متفجرة. انفجرت القنبلة ولكن إطلاق النار بقي مستمرا من الخندق. ثم ألقى جندي آخر ثلاث عبوات متفجرة فتفجر الخندق، وقتل ثلاثة جنود أردنيين ، إلا أن الاثنين الباقيان استمرا في الرماية، فجاء جندي إسرائيلي من الجانب الآخر، والقي عليهما قنبلة يدوية متفجرة فكانت النهاية.

عندما احتلينا مدرسة البوليس كان هناك قتالا أعنف من غيره،  كان في المركز 200 جنديا من الجيش الأردني، وقد قاتلوا قتالا كالجحيم. لقد أخذ القتال ساعات عديدة، من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع. وعندما احتلينا مدرسة البوليس، كانت هناك 106 جثث لجنود أردنيين في داخل وحول البناية، وقتل من كتيبة المظليين 40 جنديا “.

إن مرتفعات القدس تقف شاهدة على تضحيات الجيش الأردني في معارك القدس، وها هي أضرحة الشهداء تعطر ثراها وتحكي قصص بطولاتهم دفاعا عن المقدسات التي بارك الله حولها. الأمر الذي جعل جلالة الملك حسين طيب الله ثراه يطلق على كتيبة الحسين الثانية اسم ” أم الشهداء ” لكثرة ما قدمت من شهداء فداء للأرض المقدسة، خلال حربي عام 1948 و 1967 وغيرهما.

والآن أقام الإسرائيليون نصبا تذكاريا لقتلاهم في معركة تل الذخيرة، يضم متحفا عسكريا ويُقام به احتفالا رسميا في يوم القدس من كل عام. أما نحن فلم نعد نذكر تلك المعركة إلا في بعض المناسبان وبصورة خجولة، ولم نشد نُصبا تذكاريا هناك لشهداء تلك المعركة المجيدة، يذكّر الأعداء قبل الأصدقاء بتضحيات جنودنا البواسل.

 ومن المؤسف أننا لم نعد نذكر من بقي حيا من جنود وضباط تلك الكتيبة ونكرّمهم في المناسبات الوطنية. كما لم نعمل على إبراز هذه المعركة ومعارك القدس في المواقع الأخرى، من خلال  التأريخ في دروس التوجيه الوطني لأبناء الجيل الجديد. رحم الله الشهداء الذي ارتفعت أرواحهم إلى بارئها، دفاعا عن الأردن ومقدساته وأمنه الوطني، وأدخلهم فسيح جناته.

 

الاخبار العاجلة