صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
المقاومة الشعبية أو حرب العصابات، تلجأ إليها الدول الضعيفة أو منظمات التحرير، ضد عدو محتل أو مستعمر أقوى منها، بغرض طرده واستعادة سيادتها الوطنية وكرامتها. وهذا النوع من الحروب يتضمن بشكل عام عنصري القوة والضعف. فعنصر القوة يتمثل بأن قوات المقاومة لا تحتل أرضا دفاعية، يتمكن العدو من مهاجمتها واحتلالها، كما أنها لا تتحشد بمجموعات كبيرة، بل تعمل بمجموعات صغيرة أو فردية تتنقل من مكان لآخر، يسهل اختفاءها بين المدنيين.
وتعتمد ضرباتها على التأثير المعنوي وصداه لدى الطرفين، أكثر منه على الفعل العملي لدى الطرف المقابل. أما نواحي الضعف، فتتمثل في عدم قدرتها على مواجهة قوات عسكرية كبيرة، إضافة إلى محدودية معداتها القتالية، وعدم توفر الأسلحة الحديثة بين يديها، بل أن اعتمادها يتم على أسلحة بدائية بسيطة، أو ما تستطيع تطويره بإمكانياتها المحدودة، وما تستولي عليه من أسلحة العدو.
والمقاومة هي نشاط عسكري طويل الأمد يجري خفية بين السكان المدنيين، وقد شرّعتها القوانين والأنظمة الدولية. وهي نقيض للإرهاب الذي ينتهك حقوق الإنسان، ويقوض الأمن والاستقرار في المجتمعات المدنية ولا تجيزها الشرائع الدولية. ينظر لرجال المقاومة عادة من وجهتي نظر مختلفتين، ففي حين يصفهم المؤيدون بِ ( مقاتلي الحرية ) يصفهم المحتلون أو المستعمرون بِ ( الإرهابيين ) وشتان بين الوصفين.
لقد أثبتت أحداث التاريخ أن الأوطان، التي تُنتهك سيادتها وتُستباح أراضيها من قبل قوات أجنبية، لا يمكن لها أن تتحرر وتستعيد سيادتها وكرامتها، إلا من خلال مقاومة وطنية جريئة وفعّالة، يمارسها الشعب على أرضه ضد العدو المحتل أو المستعمر. وهناك الكثير من الأمثلة لعمليات المقاومة الشعبية في العالم، التي قاومت المحتلين، واستطاعت بتصميمها وشجاعتها أن تحرر أوطانها، وتحقق استقلالها وسيادتها.
فمنها مثلا المقاومة الناجحة في دول العالم التالية : ايرلندا، أمريكا، فرنسا، فيتنام، الصين. وفي الدول العربية المقاومة الجزائرية التي تحررت من الاستعمار الفرنسي بعد ما يقارب 132 عاما، وقدمت مليون شهيد ثمنا لتحرير وطنها من الاستعمار وحققت استقلالها.
أما بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى الآن، فقد خاضت الدول العربية بعد حرب 1948 حربين رئيسيتين ضد الإسرائيليين، لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة لكنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم. ثم جرّبت هذه الدول ومن بينها السلطة الفلسطينية – الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني – الحلول والاتفاقيات السلمية مع المحتلين الإسرائيليين، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي وحتى الآن، ولكنها فشلت في مسعاها.
ولكن فشلها الأخير كان أكثر ضررا من سابقيه، إذ كان متوّجا بصفقة القرن البغيضة، التي أفقدت الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وكرّست القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، مقرونة باتفاقيات إذعان وتطبيع مع العديد من الدول العربية لصالح إسرائيل.
وبهذا تكون عملية السلام قد وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد أمام الفلسطينيين من حل إلا اللجوء إلى خيارهم الاستراتيجي الوحيد، وهو الاعتماد على النفس دون انتظار الآخرين، وإشعال فتيل المقاومة الشعبية من داخل الأرض المحتلة، لكي تأخذ دورها المقدس في المقاومة المسلحة ( غير المخترقة ) ضد العدو المحتل، وتحرير أراضيهم واستعادة سيادتهم عليها.
يلخص ماو تسي تونج – الأب الروحي لحرب العصابات والمقاومة الشعبية – استراتيجيته في هذه الحرب بالعبارات التالية : ” على رجل العصابات أن يكون صلباً كالفولاذ، قاطعاً كالسيف، بطّاشاً كالنمر، هارباً كالأرنب، ومراوغاً كالثعلب. متحدثا لبقا يستطيع أن يتحدث عن قضيته بلباقةٍ تكسبه الأنصار والمؤيدين “.
ومن الجدير بالذكر أن العصابات اليهودية ( الأرجون ، شتيرن، البلماخ، والهاجاناه ) استخدمت هذه الأساليب في قتالها مع العرب، خلال النصف الأول من القرن الماضي، في تأسيس كيانهم عام 1948. ثم تحولت تلك العصابات بعد إعلان استقلال الدولة إلى جيش نظامي تحت مسمى ” جيش الدفاع الإسرائيلي”.
لقد سبق للشباب الفلسطينيين أن طبقوا بالبديهة معظم شروط حرب العصابات، خلال انتفاضاتهم ضد الإسرائيليين في عقد الثمانينات الماضي. تلك الانتفاضات التي أقضّت مضاجع الإسرائيليين وأدخل الرعب في نفوسهم، وكبدتهم خسائر بشرية كبيرة. الأمر الذي جعل أصواتا من داخل إسرائيل تنادي بالسلام مع الفلسطينيين، إلى أن جاء من يمنع ويقّمع وينسّق أمنيا مع العدو المحتل، دون تحقيق أي مكسب وطني.
واليوم حمل الشباب الفلسطينيون في حماس وبعض المنظمات الأخرى، راية المقاومة دفاعا عن المسجد الأقصى مسرى الرسول علية الصلاة والسلام، وعن أرضهم المقدسة ممثلة بمنطقة الشيخ جراح، لتحرير وطنهم من الاحتلال الإسرائيلي، واسترداد حقوقهم المسلوبة في وقت لاحق. ومن الملاحظ أن المقاومة تمكنت من تطوير صواريخها البدائية، رغم الحصار وشحّ الإمكانيات، بحيث أصبحت تطال أي مدينة أو قرية في عمق الأراضي المحتلة.
تميزت تلك الصواريخ بمداها الذي يصل إلى 250 كيلومترا، وبرأسها المتفجر الذي استطاع إيقاع الخسائر بالأهداف التي أصابها، وبكثافة عددها الذي كان يطلق برشقات تضم العديد من الصواريخ، استطاع بعضها اختراق القبة الحديدية والوصول إلى أهدافها. صحيح أن رد الفعل الإسرائيلي كان يتصف بالقسوة ضد السكان المدنيين وهدم المنازل، وهذا متوقع من عدو يتمتع بإمكانيات عسكرية كبيرة وتكنولوجيا متقدمة ولا يحترم القوانين الدولية. ولكن الشعب الفلسطيني أظهر دعمه للمقاومة رغم كل الخسائر البشرية والمادية.
من أهم ما حققته انتفاضة الأقصى الثانية النواحي التالية :
- أثبتت للعالم بأن القضية الفلسطينية في قلوب الشعوب العربية حية، ولن ينسونها مهما طال الزمن.
- ذكّرت العالم بأن هناك وطنا محتلا، وظلما وقع على أهله، ولكنهم وما زالوا متمسكين به، فاحتشد الآلاف من شعوب العالم في مدنهم تأييدا وتعاطفا معهم.
- استطاعت أن تدخل الرعب في قلوب المواطنين الإسرائيليين، وتجبرهم على اللجوء إلى الملاجئ في أوقات مختلفة، وأن هذا الخطر سيبقى مستمرا ما لم تحل الفضية الفلسطينية حلا عادلا.
- أوقفت حركة الطيران العالمي من وإلى إسرائيل وعزلتها عن العالم، كما أوقفت حركة القطارات بين المدن المحتلة.
- أثّرت على الاقتصاد والحركة التجارية من حيث حظر التجول واستخدام السكان للملاجئ، إضافة لخسائر أثمان الصواريخ التي تطلق من القبة الحديدية، إذ يكلف كل صاروخ يطلق منها 80 ألف دولار، مقابل صواريخ المقاومة البسيطة، والتي لا يكلف الواحد منها أكثر من 300 دولار.
- قد يكون لهذه المقاومة تأثيرات على المدى البعيد، من خلال تنشيط الهجرة المعاكسة من المنطقة المحتلة إلى الخارج تجنبا لأحداث مماثلة في المستقبل. لقد أثبت رجال المقاومة في غزة بشكل خاص، قدرتهم على التصدي لقوة عسكرية كبيرة، مدعمة بكل التقنيات الحديثة، غير آبهين بدعوات الحلول السلمية الفاشلة، التي تتبناها القيادات العربية، معتمدين على أنفسهم وعدالة قضيتهم. فهذه غزة الصمود، التي قال عنها رئيس وزراء إسرائيل الأسبق اسحق رابين : ” أتمنى أن أستيقظ صباحا، وأجد غزة قد ابتلعها البحر “. أما الانهزاميون والمترددون، الذين يدّعون بأن الحل فقط بيد أمريكا، وأننا لا نستطيع أن نقاوم إسرائيل فهم واهمون. فنحن أقوياء وبأيدينا كدول عربية أوراقا عديدة، ولا ينقصنا إلاّ الإرادة في استخدامها. وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية، قدرتها على استخدام ورقتها، من خلال الفعل على الساحة الفلسطينية، مؤمنين بقوله تعالى :
( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ).
التاريخ : 18 / 5 / 2021