صراحة نيوز – بقلم جميل النمري
تابعنا مبادرات انسانية واجتماعية رقيقة لجلالة الملك منها زيارته في اربد لبيت سيدة مسيحية في عيد الميلاد تلبية لأمنية حياتها في هذا العمر المتقدم أن تلقاه وتحضنه، ثم المرور بالسوق والتبضع من صاحب بسطة، ثم مفاجأة مجموعة من الطلبة في جلسة توعوية عن البرنامج الوطني للتشغيل الذاتي “انهض” حيث جلس بين الحضور واستمع وتحدث وهنا اريد ان اتوقف عند حديثه الذي ظهر بالفيديو عن التيارات السياسية والفكرية فوصف نفسه انه يساري في الصحة والتعليم ويميني في الأمن والدفاع.
لم تكن اول مرة يقول فيها الملك ذلك مع انه ليس مألوفا للملوك أن يصنفوا انفسهم سياسيا باعتبار انهم فوق الجهات السياسية والتيارات وعلى مسافة واحدة منها، لكنني استشعر شخصيا ان الملك يضع جانبا ذلك لصالح اولوية اخرى في قلبه وهي تمرير رسالة لتشجيع الشباب على الاهتمام والانحياز وتبني طروحات فكرية وسياسية وبرامجية. فحتى هو نفسه وهو ملك لا يستطيع ان يكون بمنأى عن الانحياز الفكري والسياسي لطرح ورؤية ما في الشأن العام. فالحيادية واللا موقف والنأي بالنفس ليس أمرا محمودا ولا بد ان يتفاعل الشباب مع العصر ومع الشأن العام وأن يكون لهم رأي وموقف وليس بالضرورة ان يكون منحازا بصورة عمياء على طول الخط لخط معين فهذا ايضا الغاء للعقل والتفكير النقدي وهو سمة الأيديولوجيات الشمولية والعقائدية الجامدة، ولذلك يضرب الملك مثالا عن نفسه كيف انه يجد نفسه في الشؤون المعيشية والخدماتية للمواطنين يساريا وفي شؤون الدفاع والأمن الوطني يمينيا وترجمة ذلك ان برنامج اليسار بالعادة يكون منحازا للفئات الشعبية والفقيرة ويريد من الدولة ان ترعى وتنفق على الصحة والتعليم والنقل وغير ذلك بعدالة وكفاءة لعموم المواطنين، ومصدر المال سيكون بالضرورة من الضرائب على الفئات الثرية والمقتدرة التي يريد اليمين بالعادة حمايتها من هذا العبء والنأي بالدولة عن هذه المسؤولية التي يجب ان تتركز على الأمن والدفاع والشؤون السيادية وفي هذا المجال يجد الملك نفسه يمينيا. إنه شرح سريع وبسيط لحيثيات الانحياز لرؤية او فكر او برنامج.
ان الاحكام التقليدية على الاجيال الجديدة بالسطحية تنطوي على تجن وتعميم خاطئ. ربما لا يحب الشباب اليوم قراءة الكتب على طريقتنا وفي موضوعاتنا، لكنهم في الحقيقة اكثر اطلاعا وثقافة مما كنا نحن عليه في عمرهم والفرص المتاحة للشباب للمعرفة والاطلاع هي أوسع بمئات المرات مما كانت متاحة لجيلنا وهم يستخدمون الادوات الجديدة المتاحة بذكاء ويحاكمون الأمور بطريقة أكثر واقعية، ولا جاذبية عندهم للأساطير العقائدية المتصلبة قومية او دينية او طبقية، ومنذ بعض الوقت ورغم البطالة والاحباط من الوضع الاقتصادي وانتشار اليأس من واقع الحال لدى شرائح واسعة فإنني ألمس نزعة واضحة وجريئة للشباب للانخراط في العمل العام انما بطريقة مختلفة عن جيلنا. ولعل مفهوم اليسار واليمين يختلف عندهم اليوم ويأخذ معاني اكثر عملية وواقعية وارتباطا بالقضايا الملموسة.
البلاد تحتاج الى الشباب المتعلم والمتخصص في مختلف المجالات ومنها المتقدمة جدا في زمن الثورة الرقمية لكن هذا يصنع علماء وخبراء فنيين وليس قيادات للمجتمع والدولة وادارة القرار. تكوين الرؤية والبرامج وادارة التخطيط والتوجيه يحتاج الى قيادات كونت ثقافة عامة واشتبكت طويلا وعميقا بالشأن العام وهذا لا يتم بدون الانخراط في العمل العام السياسي والحزبي والنقابي والمدني والتطوعي. وهذا ما يجب ان تستهدفه برامج التمكين الشبابي.