ثلاثة عناوين تضمنتها رسالة الملك للأردنيين بمناسبة عيد ميلاده الستين، أولها المصارحة بواقع الحال، وتشخيص ما تعرض له بلدنا في السنوات الماضية من أزمات واصابات، وما وقعنا به من أخطاء، ما ذكره الملك يتطابق تماما مع ما يتردد على ألسنة الناس، ويختصر معاناة الأردنيين ويكشف أسبابها. العنوان الثاني هو المصالحة، حديث الملك، هنا، لا يقتصر على دعوة الحكومات لاستعادة ثقة أغلبية الأردنيين بها، وإنما لفتح حوار وطني يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، المسؤولية هنا تقع على عاتق الطرفين، الرسمي والشعبي، فالمصالحة بينهما تقتضي الاعتراف بالخطأ، وتكريس نهج المساءلة للمسؤولين المقصرين ومحاسبتهم، كما تقتضي الخروج من دوامة اللوم والتشكيك وتوزيع الاتهامات. أما العنوان الثالث فهو إحياء الهمة الوطنية، الرسالة الملكية بقدر ما فتحت جراحات الواقع، ووضعت الإصبع على الوجع، بقدر ما أضاءت الطريق نحو المستقبل، والرافعة القادرة على تجاوز تباطؤ المسيرة واعوجاج بعض المقررات، وتراكم الكثير من الأزمات والاحباطات، هي “همة الأردنيين”، وإصرارهم على التقدم للأمام. الهمة الوطنية، هنا، مرتبطة بعافية الدولة ومؤسساتها، إذ لا يمكن كسب قلوب الأردنيين، وإنعاش معنوياتهم، وإخراجهم من حالة الإحساس بالشلل والفشل، دون حركة حقيقية للدولة، بكل ما فيها من موارد، وقيم وفاعلين أيضا. رسالة الملك توجهت للمواطنين الأردنيين، من خلال مكاشفتهم ودعوتهم للخروج من دوامة الإحباط، والإشادة بما أنجزوه، كما توجهت لإدارات الدولة والمسؤولين فيها، من خلال إعادة التذكير بمواصفات المسؤولية المطلوبة التي تعتمد اتخاذ أكثر القرارات جرأة، وأصعبها بلا تردد، إذ لم يعد ثمة مكان لمسؤول يهاب اتخاذ القرار والتغيير الايجابي، ولا لآخر يتحصن بالبيروقراطية خوفا من تحمل المسؤولية، ولا لثالث يخشى النقد البناء، أو لرابع يرفض الشراكة مع الأردنيين عند اتخاذ القرار. السؤال: من يلتقط الرسالة؟ واجب النخبة السياسية التي يفترض أنها تتحدث باسم الناس أن تتحرك باتجاه تحويل هذه العناوين إلى “أجندة” وطنية، تدفع لإفراز نقاش عام يساعد في ترشيد حالة المجتمع، وتحسين مزاجه العام، ثم الضغط على إدارات الدولة لتبنيها والالتزام بها، باعتبارها تعبر عن رؤية الملك والأردنيين للمستقبل. أما واجب الحكومة والبرلمان ومؤسسات الدولة وأجهزتها، فيتطلب إعلان حالة ” النفير العام”، ليس من أجل تزيين الصورة بما ألفناه من تصريحات وديباجات، وإنما لتعديل النهج والسلوك الرسمي، وترجمة ما ذكره الملك بأمانة، ليصبح واقعا لا مجرد آمال، وهذا يستدعي تغيير المناخات العامة، ووقف حالة الارتباك والتجاذبات، وإطلاق “الفعل” الرسمي المنسجم مع مطالب الناس، من قيود الخوف والتردد. صحيح، ليست المرة الأولى التي يقول الملك: كفى، سواء للمتفرجين الذين يسعون لإغراق المجتمع باليأس والخوف من المستقبل، أو للمسؤولين الذين “تقاعسوا” عن القيام بواجبهم، لكن ما قاله هذه المرة عكس تماما ما يفكر به الأردنيون، وما يتناقلونه، فحالة البلد لم تعد تقبل توزيع الاعتذارات، أو “الطبطة” على الإخفاقات، أو الهروب من تحمل المسؤوليات، الإنجاز لا ينتظر أحدا، والإحباط لا يقدم حلولا، والتشاؤم لا يبني مستقبلا، والمسؤول المرتجف لا يستحق أن يبقي في موقعه. رسالة الملك، وهو يدخل الـ60 من عمره المديد، والـ23 من الحكم، اختصرت المشهد الوطني في سياق واحد، وهو ضرورة إعادة بناء الدولة والمجتمع معا، على أسس جديدة تتناسب مع قيم الأردنيين وطموحاتهم، وتتكيف مع مستجدات العصر وضروراته، هذا البناء يحتاج لأردنيين يمتلكون الهمة والأمل، ومؤسسات يتبوأها مسؤولون شجعان يملؤون مواقعهم، ونخب حقيقية تمارس دورها القيادي كوسائط موثوقة بين الدولة والمجتمع، هذا السياق لا يقبل التأجيل، ولا التردد والانسحاب.