صراحة نيوز – بقلم د . صبري الربيحات
في الثقافات العالمية تملك الشعوب قصصا وروايات عن تاريخها وكفاحها وابطالها. في سفر الأمم أسماء الاشخاص الذين اسهموا في بناء الكيان وحققوا النهضة وأكسبوا أوطانهم المكانة والسمعة. التاريخ المكتوب والشفاهي للشعوب يشتمل على سير الفرسان والقادة العسكريين والشعراء والحكماء والعلماء واهل الفكر وكل الاشخاص الذين تركوا خلفهم آثارا تتجاوز حدود الزمان والمكان والانجازات التي تبعث على الفخر والاعتزاز.
المكونات الديمغرافية لسكان المملكة الاردنية الهاشمية الذين يتفاوتون في ميولهم واتجاهاتهم وينتمون الى منابت واعراق واصول مختلفة تحمل قيما وأولويات متباينة وتمارس انماطا من الحياة تتشابه في جوانب وتختلف في اوجه عديدة. في محاولة لتعريف الهوية الجامعة للأردنيين كتب المرحوم فهد الفانك قبل عقود مقالا في الرأي قال فيه يلتقى الأردنيون على وقوفهم للسلام الملكي وحبهم للجيش وارتدائهم للكوفية الحمراء وتناولهم للزيت والزعتر على الافطار وحبهم اللامتناهي للمنسف واختيارهم للسفر على رحلات الملكية الأردنية.
في كل ما قيل ويقال عن الهوية ما يزال الناس يشعرون بتأثير الانتماءات الفرعية على المكانات والادوار التي يشغلونها او يتوجهون لاختيارها كما ان من الملاحظ انصياع وتأثر واستجابة الافراد لمطالب وتوقعات الجماعات الفرعية بقوة تفوق الهوية التي يشتركون فيها مع الجماعات الاخرى.
بالرغم من الجهود التي تبذلها بعض المؤسسات لإيجاد حالة اندماج اجتماعي للفئات المتنوعة في الاعراق والاصول في بوتقة هوية جامعة الا ان هذا الجهد لم يحقق نتائج مرضية لأسباب يرتبط أولها بغياب المفهوم الواضح للهوية وتأرجح خطاب الدولة بين دعم البنى التقليدية والحديث من وقت لآخر عن المجتمع المدني.
لهذه الاعتبارات بقيت الهوية الجامعة حلما يراود الكثير من رواد التغيير في حين ما يزال المحافظون يروجون للقبيلة والطائفة والجهة والعرق كواجهات اجتماعية يقف خلفها الافراد ويعبرون عن انتماءاتهم من خلالها.
قبل ايام لبيت دعوة كريمة من ادارة بيت عرار في مدينة اربد للحديث حول شعر وشخصية مصطفى وهبي التل وارتباط ذلك بمشروع البحث عن الهوية. فكرة الحديث عن عرار والهوية الوطنية مغرية كمدخل لفهم الاشكاليات التي أعاقت التحول وأخرت نضوج مشروع بناء الهوية وما نجم عنه من تساؤلات خصوصا في هذا التوقيت الذي تعيش فيه البلاد تحدي التعريفات.
التوقف عند سيرة وفكر عرار السياسي والمثقف والحاكم الاداري والمحامي والشاعر بعيدا عن القراءات التي حاولت تصويره كشخصية شهوانية رافضة متجاهلة الاوضاع والمتغيرات التي ادت الى الرفض والنقد والزهد اخذتني بعيدا في تأمل الزمن الممتد بين 1899 – 1949 حيث تمكن عرار من طرح تساؤلات الهوية شعرا وسلوكا. فقد رأى عرار في الأردن وحدة جغرافية وديمغرافية وسياسية وثقافية واحدة تمتد من وادي اليتم جنوبا الى الطرة شمالا ولم يرَ فرقا بين ماحص والفحيص وبين الطفيلة والثنية فكلها بلدات أردنية تتساوى في اهميتها ومكانتها . قي زمن اللا مواصلات واللا اتصال عمل ابو وصفي في الشوبك والكرك والسلط ووادي السير وفي كل ميادين الخدمة التي عرفها الناس في ذلك الزمان. عمل معلما وكاتبا ومحاميا ومأمورا للأراضي ومدعي عاما وقائم مقام ودخل السجن لرفضه الممارسات التميزية التي لا تتماشى مع ما كان يحلم به من عدل وحرية ومساواة.
الـتأمل قي نشأة مصطفى وهبي يوسف التل الذي ولد في العام الاخير من القرن التاسع عشر ورحل قبل ان ينتصف القرن العشرون يعطي الشاعر للقاري صورة للمجتمع الأردني الذي تصوره الراحل وحدة متكاملة. صحيح ان في الأردن قبائل وجماعات ومؤسسات لكنها تشكل معا الوطن الذي اراد له عرار ان يكون موطنا للعدل والعزة والمساواة لا فرق بين مواطن وآخر فـ “الكل زط مساواة محققة…. تنفي الفوارق بين الجار والجار” .
الصور للوطن الواحد الذي يشعر مواطنه بالانتماء والكرامة هو الهدف الذي سعى لتجسيده الشهيد وصفي التل الذي أسس معسكرات البناء وصاغ الخطاب الاعلامي الذي يعرف الهوية والانتماء والقيم وأشعر المواطن بكرامته والوطن بقوته وعنفوانه وجسد بصدق معاني الاخوة العربية. لهذه الاسباب بقي وصفي خالدا في الوجدان الأردني يتحدث عنه الصغار بحب لا يقل عن اعجاب وحب من عرفوه. الهوية لا تبنى بخطابات تخلو من الصدق ولا بروايات لا اساس لها بل تبنى بالصدق والعمل ووجود القيادات التي يثق به الناس ويتعلقون بها.