صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه
بتاريخ ٢٠١٩/٤/٢٠ كتبت مقالاً بعنوان ( فسيفساء الأوطان .. تعكس حضارة الإنسان ) ، وفحواه حول مفهوم المواطنة . لكن ما حثني على مقالي هذا ندوة عُقدت في الجمعية الاردنية للعلوم والثقافة بعنوان ( الهوية الوطنية ) .
بداية ، لا قيمة للأوطان بدون الإنسان ، لان الإنسان هو الذي يبني ويطور ويبث الروح في الأوطان ، فيحول التراب الى تِبر ، والسبخات الى جنات ، ويبث الحياة فتتنفس الارض ، وتحيا الكائنات ويكاد ينطق الجماد . ومنذ بدء الخليقة أول ما كان يسعى اليه الإنسان مكان يأويه ، وسكن يَذريه ، ومَسكن يحميه . لكن مفهوم الوطن تغير مع الزمن ، ومع تطور الإنسان ، الى ان وصلنا القرن الحادي والعشرين ، وما فيه من انفتاح ، وتفتح ذهني ، وتغير مذهل من شدة تسارعه ، فتغير مفهوم الأوطان ، ومفاهيم المواطنة ، بتغير مفاهيم الإنسان ، فأصبحت ديموغرافيا الأوطان متغيرة ، متحركة كما الكثبان الرملية المتحركة ( sand dunes ) ، لكن مشكلتنا الوطنية تتمثل في استجابتنا المتأخرة دوماً للمتغيرات ، وتخلفنا على الأقل في إقتباس ما وصلت اليه المجتمعات .
أرى انه منذ القرن العشرين الذي إنْصَرَمْ لم يعد فيه مكان ولا وجود للمجتمعات والأوطان المنغلقة على عرق او دين معين ، فكيف يكون من المنطق ان نرنو او ننشد او حتى ان نفكر في مجتمعات منغلقة في القرن الحادي والعشرين !؟ ولنا في دول الغرب عامة ، وأمريكا خاصة ، العبرة والمثل الأرقى في فهم المواطنة ، وتفعيلها للارتقاء بالوطن والمواطن .
في المجتمعات الراقية ، المتحضرة ، الديموقراطية ، التي ترنو الى التطور والازدهار وإعمار أوطانها ، تسعى هي ، وتَخْلِق وتهيء الظروف للانفتاح على المجتمعات والأعراق والأديان المختلفة لتتمازج وتنصهر في بوتقة الوطن ، فيكون نتاجها حضارة عظيمة منفتحة ، يُقَيَّمُ فيها المواطن حسب إنتاجه وعطائه للوطن ، والوطن يرد الجميل للمواطن بسخاء . لانه في تلك الأوطان المتحضرة بمجرد حصول المواطن على الجنسية ، لا أحد يهتم بالمنابت والأصول كما نحن ، بل ينحصر الأمر في شيئين لا ثالث لهما : الأول الحقوق التي يكتسبها المواطن من مواطنته ، والواجبات التي تفرضها عليه المواطنة تجاه وطنه .
لكن المشكلة في منطقتنا عامة ، وفي وطننا الأردن خاصة نفتقد لشيئين : الأول هو غياب العدالة ، مما يقلل من الانتماء للوطن ، والبحث عن ، والتمسك ب الهويات الفرعية لسد الثغرات الناتجة عن غياب العدالة ، والثاني فشل الدولة الاردنية منذ تأسيسها قبل مئة عام في وضع السياسات والاستراتيجيات والخطط الوطنية العميقة والمستمرة لصهر هذا التنوع الفسيفسائي الجميل في قالب الوطن لخلق حالة وطنية ، وهوية وطنية واحده جامعة لكل من يحمل جنسية هذا الوطن . لا بل ارى انه من الضروري ان اذهب الى اكثر من ذلك ، والذي قد يكون رأياً صاعقاً للكثيرين ، وهو انني ارى ان الدولة الاردنية في أحايين كثيرة ، أذكت ، ولعبت ، وأيقظت الهويات الفرعية لغايات معينة . نعم ، هي هكذا ، سواء قبلناها او رفضناها . وللعلم ان ما أذكته بعض الحكومات ، هو منتج إستعماري بامتياز . فالاستعمار عامة والبريطاني خاصة ، لم يترك بلداً إلاّ وترك فيه العديد من بؤر الإشتعال ، على مستوى الحدود مع دول الجوار ، وعلى مستوى التركيبة السكانية ، التي يفترض ان تكون وطنية محضة . والمُفجع ، ان الاستعمار نسي ما زرع ، لسبب او آخر ، لكن الأنظمة تُذكيها ، مع انها تعلم انها تضر بالوطن .
ما زالت جينات التخلف والتحجر والانغلاق تسيطر على تفكيرنا ، وسلوكياتنا وتعاملاتنا . لماذا !؟ لان الشعوب يفترض فيها بدل ان تُركز على إثارة التعصب ، والإنشغال بالهويات الفرعية ، عليها ان تناضل لتحقيق أهم شيئين ينسيانها الهويات الفرعية ، ويُعزَز ُبهما الانتماء للوطن ، وهما العدالة ، والحرية . فإذا عَمَّ العدل ، هدأت الأنفس ، وتعزز الانتماء ، وركز المواطن على تطوير ذاته لِيُعظم فرصته ، ويخدم وطنه . أما الحرية ، فهي جوهر الإنسانية ، لان من يُمتهن ويُدجن ليصبح عبداً ، يَفور ، ويُرعد ، ويُزبد ، غِلاً وحِقداً ، ويُشلُّ فكراً وعطاءاً .
رأيي المتواضع ، النابع من حُبي لوطني وإنتمائي اليه ، رغم انه لم يقدم لي الكثير ، ان خير الأردن في تنوع فسيفسائه ، وتعدد هوياته الفرعية ، لان فيها إثراء لكل مقدرات الوطن والمواطن ، لو ان الحكومات الاردنية المتعاقبة منذ قرن من الزمان وضعت استراتيجيات بعيدة المدى لتعزيز المواطنة ، عندها سيكون هذا التنوع الفسيفسائي عامل بناء لا معول هدم للوطن ، وسيكون معززاً ورافداً وسنداً للوحدة الوطنية .
ليدلني أحد ، ويُسمي لي ، ولو دولة واحدة في العالم منغلقة على عرق ودين واحد !!؟؟ وللعلم فان هذا التنوع آية ربانية لا مناص منها . هذا التنوع الفسيفسائي المجتمعي الاردني الذي تمازجت فيه اعراق واصول ودماء وديانات يُعتبر إثراء لمقدرات الوطن ، لو تم إتباع استراتيجيات وطنية لصهره في بوتقة الوطن ، واستغلال مقدراته ، والانتفاع بتنوعه لمصلحة الوطن والانتماء اليه .
إذا رجعنا للأصول القديمة لسكان الأردن ، نكتشف اننا كُلنا قادمون وافدون من العديد من مناطق الجوار وغيرها من الدول البعيدة جداً عن الأردن . فلا يزاود اي طرف على الآخر ، لان الفرق يكمن فقط بعدد سنوات القدوم .
المواطنة عطاء ، وإنصهار في الوطن ومكوناته ، لوطن يكون معطاءاً بالأساس لأبنائه ، ولا تنمو فيه الهويات الفرعية وتزدهر إلاّ عندما تغيب فيه العدالة ، وتفشل فيه الدولة بصهر جميع السكان في بوتقة الوطن لتعزيز الانتماء والعطاء للوطن ، ويكتنف الضعف الدولة في كل مفاصلها .
أرى انه علينا كمواطنين منتمين بوعي لوطننا ان نعمل على رتق ما فتقته وفشلت به الحكومات الاردنية على مدى قرنٍ من الزمان ، بان نَجهد كمواطنين على تعزيز الانتماء بصهر كل مكونات الوطن في بوتقة الوطن ، وان لا نسمح لأن تكون الهوية الوطنية مسألة خلافية ، وان ننمي ثقافة تقبل الآخر واحترام الاختلاف والتعايش معه ، لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا ، وأننا نواجه نفس المخاطر ، ونتشارك نفس المصير .