من القصص الجميلة التي تحمل العبرة، والتي أوردها الكاتب أدهم شرقاوي في كتابه ” أحاديث المساء ” القصة التالية، واقتبس مع بعض التصرف :
” كان أحد الشباب قد أثرى ثراء عظيما في الماضي، إذ كان والده يعمل بتجارة الجواهر والياقوت. وكان الشاب يؤثر أصدقاءه أيما إيثار، وهم بدورهم يجلونه ويحترمونه بشكل لا مثيل له. ودارت الأيام دورتها، فمات والد الشاب وافتقرت العائلة من بعده.
بدأ الشاب يبحث عن أصدقاء الماضي. فعلم أن أعزّ صديق كان يكرمه ويؤثر عليه، وأكثر مودة وقربا منه، قد أثرى ثراء لا يوصف، وأصحب من أصحاب القصور والأملاك والأموال. فتوجه إليه عسى أن يجد عنده عملا أو سبيلا لإصلاح حاله. فلما وصل باب القصر، استقبله الخدم ورحبوا به دون معرفة. فذكر لهم صلته بصاحب القصر وما كان بينهما من مورة قديمة، وأنه يطلب زيارته. فذهب أحد الخدم وأبلغ الصديق بهذا الطلب.
نظر الصديق من خلف الستار، ليرى شخصا رثّ الثياب، ويبدو عليه آثار الفقر، فرفض مقابلته، وأبلغ الخادم أن يخبره بأن صاحب القصر لا يمكنه استقبال أحد في قصره. فخرج الصديق والدهشة تأخذ منه مأخذها وهو يتألم على الصداقة كيف ماتت، وعلى القِيمْ كيف تذهب بصاحبها بعيدا عن الوفاء، وتساءل في نفسه عن الضمير كيف يمكن أن يموت، وكيف للمروءة أن لا تجد سبيلها في نفوس البعض . . !
وفي طريق عودته إلى دياره صادف ثلاثة من الرجال، عليهم أثر الحيرة وكأن يبحثون عن شيء ما. فقال لهم ما أمر القوم ؟ قالوا له : نبحث عن رجل يدعى فلان ابن فلان. فقال لهم إنه أبي وقد مات منذ زمن. فحوقل الرجال وتأسفوا على وفاته، وذكروا أباه بكل خير، وقالوا له : إن أباك كان قد ترك عندنا أمانة، فأخرجوا كيسا كبيرا قد ملئ بالمرجان ودفعوه إليه ورحلوا، والدهشة تعلو محياه وهو لا يصدق ما يرى ويسمع . . !
ولكنه تساءل أين اليوم من يشتري المرجان ؟ فإن عملية بيعه تحتاج إلى أثرياء، والناس في بلدته، حالهم كحال عامة الأردنيين، ليس فيهم من يملك ثمن قطعة واحدة من هذه الجواهر، ولكنه مضى في طريقه. وبعد مسافة غير بعيدة، صادف امرأة كبيرة في السن، تبدو عليها آثار النعمة والخير. فقالت له : يا بُني أين أجد مجوهرات في بلدكم ؟ فتسمّر الرجل في مكانه ليسألها : عن أي نوع من المجوهرات تبحث ؟ فقالت : أريد أحجارا كريمة رائعة الشكل مهما كان ثمنها.
فسألها إن كان يعجبها المرجان ؟ فقالت له : نِعمَ المطلب . . فأخرج بضع قطع من الكيس ووضعها أمامها، فاندهشت المرأة لما رأت وابتاعت منه قِطَعا، ثم وعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد. وهكذا عادت حالة الرجل إلى اليسر بعد العسر، وعادت تجارته تنشط بشكل كبير. فتذكر بعد حين من الزمن، ذلك الصديق الذي ما أدى حق الصداقة، فبعث له ببيتين من الشعر جاء فيهما :
صحبت قوما لئاما لا وفاء لهم * * يدعون بين الورى بالمكر والحِيَل
كانوا يجلونني مذ كنت رب غنى * * وحين أفلستُ عدوني من الجهل
فلما قرأ الصديق هذه الأبيات، كتب على ورقة ثلاث أبيات وبعث بها إليه، جاء فيها :
أما الثلاثة قد وافوك من قِبَلي * *
ولم تـكـن سببـا إلاّ من الحِيَل
أما من ابتاعت المرجان والدتي** وأنت أنت أخي بل منتهى أملي
وما طردتكُ من بخل ومن قلل * *
لكن خشينا عليك من وقفة الخجل
* * *
التعليق : هكذا يتصرف الصديق الحقيقي الذي لا ينسَ المعروف، مهما تبدلت أحواله إلى الأحسن أو ترقى في منصبه إلى درجة عليا، بل يحافظ على صداقاته ويزداد تواضعا مع الجميع.
فالدنيا دار زراعة لا دار حصاد، وإذا زرعت معروفا مع إنسان فلا تتذكره، أما إذا صنع إنسان معك معروفا فلا تنساه. لهذا اكتب معروفك مع الناس، على الرمل لتذروه الرياح، واكتب معروف الناس معك، على الصخر لتقرأه على الدوام . . !