صراحة نيوز – كتب الدكتور عودة أبو درويش
تجري هذه الأيّام في معظم الدول العربيّة التي ابتليت بتقاتل أبنائها ، عمليّة يسمّونها تبادل جثث القتلى الذين سقطوا في معارك بين الجانبين المتحاربين ، ولا نعلم ، ولا يعلم معظم المتصارعين فيها أو الذين أصبحوا جثثا قابلة للتبادل ، على ماذا أو من أجل ماذا يتقاتلون . كانوا في البداية ينادون بالحريّة والديموقراطيّة ، فجابهتهم الأنظمة الحاكمة بالقمع . فتشكّلت فصائل مسلّحة كثيرة تتناحر على ورثة لأنظمة سابقة مضت أو لأخرى ما تزال باقية تتابع من غير حول ولا قوّة أعمال دول أُخرى لها مصالح ، تدّخلت في الصراع الدائر في الدول التي تحكمها هذه الأنظمة ، قامت بقتل أبناء الشعب ، بحجة أنّها تحافظ على حلفائها ولا تريد تغيير الحكّام التابعين لها ، من أجل أن يبقى لها في هذه الدول موطئ قدم .
تصوّرت جثّتين تقابلتا في أرض محايدة بين سوريّا ولبنان ، أو داخل سوريّا نفسها ولكن في منطقة حرام بين فصيلين متقاتلين . أو في صحراء قاحلة بين مدينتين من مدن ليبيا جرت بين أبنائها معركة لم يفهموا لماذا جرت أو من أجل ماذا أو لمصلحة من . أو أن هاتين الجثّتين التقيتا في سفح جبل من جبال اليمن الذي كان يسمّى سعيدا ، جرى بجانبهما نهر صغير يشرب منه أهل القريتين اللتين تنتمي اليهما الجثتّين . أو في أيّ مكان من الوطن العربي المكلوم ، المتخم بالجراح في كلّ قطعة من جسده المقطّع أصلا . وفي فترة الانتظار بين تبادل الجثث وتسليمها الى أهلها ، جرى حوار بينها لم يسمعه أحد .
قالت الجثّة الأولى التي كان صاحبها يدافع عن النظام القديم ، وفي نبرة صوتها تحدّي . أنا الى الجنّة ذاهبة ، لأنّ صاحبي شهيد ، حارب من أجل دحر العدوان الذي يقع على بلدي منك ومن أمثالك . شهيد لأنّ كلّ الناس الذين يستقبلون جثّتي الآن شهدوا بأنّي من أرفع الشهداء منزلة وأن لي بيتا مبنيا هناك .الا تسمعي ايتها الروح التي لا أطيق ان أتمدد في التابوت بقربها . انّهم يطلقون النار في الهواء ابتهاجا لأنّي سأوارى الثرى في بلدتي ، والنساء ينثرن على سيّارة الصليب الأحمر المسجّى جسدي فيها ، الورد والأرز ، وتعلو زغاريدهنّ لأنّ جثّة البطل الذي قضى في الدفاع عن المبادئ التي نادى بها رؤساؤه ، حتّى وان لم يكن مقتنعا بها أو لا يعلمها ، هي الآن بين أهلها وستدفن في مقبرتها . أمّا أنت ايتها الجثّة النتنه ، فلن يستقبلك أحد ، ولن يفرح للقياك النساء ، لأنّك كنت تحاربين من أجل باطل .
انتفضت روح الجثّة في التابوت الذي سيجري نقله الى الجهة الأخرى . وتمنّت ، كما تمنّت الأخرى لو أنّ لها كرّة ثانية فتعود تقاتل ، فتقتل صاحب الجثّة في التابوت المجاور . ونادت بصوت عالي فيه نبرة المتفائل . وما أدراك أنت أيتها الجثّة التي لا تسوى أن يبادلني بها المتبادلين . ألم تعلمي أنّي أنا جثّة الشهيد . فأنا صاحبة صاحب الحق . الذي نادى بالحريّة والمساواة ونبذ التسلّط ، وخرج في مظاهرات مع كثير من الناس ، كانت قوّات النظام التي قاتلت من أجله بانتظارهم بالبنادق والقنابل . ولم يسمعوا لهم ، بل نعتوهم بالمارقين الخونة الذين تمادوا على نظام الحكم في البلد ، فهم اذا لا يستحقّون العيش ، ويجب قتلهم أو اعتقالهم . فاضطررنا الى حمل السلاح الموّرد الينا من الخارج . أنا صاحبة الشهيد وأنا من سيستقبلني أبناء بلدتي مبتهجين بالزغاريد ، ان كانوا على قيد الحياة .
سارعت السيّارتين اللتين تنقلان الجثّتين الى الانطلاق ، احداهما الى الشرق والأخرى الى الغرب ، يحفّهما من كلّ جانب سيّارات مسلّحة كثيرة كان من فيها من المقاتلين المسلّحين الذين يتحدّثون نفس اللغة العربيّة ، مبتهجين بإتمام صفقة مبادلة الجثث . لكنّهم نسوا أن المبادلة القادمة ربّما تكون على جثثهم ، بعد أن يُقتلوا من أجل لا شيء .