صراحة نيوز – بقلم الدكتور محي الدين توق
تشهد أروقة وزارة التربيّة والتعليم حركة نشطة لتطوير وإصلاح العمليّة التربويّة التي شابها مؤخرّاً خلل واضح، وتعمل طواقم الوزارة بقيادة وزيرها الشاب د. عمر الرزاز على وضع الأسس اللازمة لانطلاقة تربويّة جديدة تمهّد للإصلاح المنشود. لقد اطلعتُ عن كثب على العديد من الخطوات الإصلاحيّة التي تمّ التأسيس لها أو في طريقها للظهور، وكان لي شرف المشاركة في مناقشة بعض السياسات الواجب اتّباعها. ومن التطوّرات التي دخلت حيّز النفاذ والتي تعمل الوزارة على بلورتها حاليّاً:
1. إنشاء مركز مستقل للمناهج وقد تمّ إصدار نظامه وتشكيل مجلس إدارته.
2. التأسيس لاحتساب علامة امتحان الثانويّة العامة كعلامة كليّة لتحل محل المعدّل العام الذي ليس له معنى من الناحيّة الإحصائيّة.
3. إعداد الأسس اللازمة لاعتماد الاختبارات الإلكترونية لبعض مواد امتحان شهادة الثانويّة العامة مما سيخفّف من عبء الامتحانات ماليّاً وإداريّاً واجتماعيّاً ونفسيّاً.
4. العمل على إنشاء بنك للأسئلة يمكن استخدامها في تطوير الاختبارات المدرسيّة بشكل عام وامتحان شهادة الثانوية العامّة بشكل خاص.
5. تخفيض عدد الأوراق الامتحانيّة للثانويّة العامة ووضعها في رزم متقاربة ممّا سيساعد على تطوير الامتحان والتخفيف عن كاهل الطلبة.
6. تطوير نظام رتب المعلّمين وربطها بمعايير أداء المعلّم.
7. وضع الأسس التشريعيّة والإداريّة للترخيص لمهنة التعليم وربطها بمعايير الأداء.
8. التأسيس لموضوع مراقبة الأداء والمساءلة التربويّة بحيث تصبح جزءاً رئيسيّاً في العملية التعليميّة والإداريّة.
إنّ بعض مما ذكر أعلاه كان قد تمّ التأسيس له على مستوى الدراسات وأوراق العمل منذ سنوات، فجاء الوزير الرزاز ونفض الغبار عنها، وحرّك المياه الراكدة، ونقل الأفكار إلى حيّز التنفيذ. فبالإضافة الى كونه قارئا نهما وواسع الإطّلاع على خلاصة التجارب الدوليّة، فهو كذلك مستمع جيّد ولا يتوانى عن طلب المشورة سواء من داخل الوزارة أو خارجها، ويجسّد هذا الأمر عمق إحساسه بالمسؤوليّة من ناحية، وإيمانه بأنّ إصلاح التعليم مسؤوليّة مجتمعيّة مشتركة من ناحية ثانية.
لا شكّ بأنّ وزارة التربيّة والتعليم تتحمّل عبء إدارة العمليّة التعليميّة من كافّة مناحيها والتأكد من تحقيق الأهداف المرسومة في قانون التربية والتعليم، والوزير القائم على رأسها مساءل أمام الملك والشعب، إلّا أنّ مسؤولية إصلاح التعليم ليست مقتصرة على الوزارة أو الوزير، بل يجب أن تكون من مسؤوليّة الدولة والمجتمع، ولا يجب أن تترك المسؤوليّة على كاهل الوزارة ووزيرها فقط، وهنا أودُّ أن أطرح التساؤلات التالية:
1. لماذا لا تعلن الحكومة برنامجاً وطنيّاً لإصلاح التعليم، يتم اعتماده منها، ويقرّه البرلمان وتعتبره الدولة أولويّة وطنيّة لا تتغيّر بتغيّر الحكومات والوزراء كما هو الحال في برنامج التصحيح الاقتصادي الذي يعتبر سياسة ثابتة عابرة للحكومات؟
2. لماذا لا يمارس البرلمان بغرفتيه النواب والأعيان الرقابة الحقيقيّة والمساءلة الواجبة للحكومة عندما يتراجع التعليم وتتدّنى نسب تحصيل الطلبة الأردنيين في الاختبارات الوطنيّة والدوليّة؟
3. لماذا لا تمارس مؤسّسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية وغير الحكوميّة دوراً حقيقيّاً في الدفع باتجاه إصلاح التعليم ودعم الجهود الرسميّة في هذا المجال؟
4. لماذا لا تمارس الشركات الكبرى ومؤسّسات الأعمال والصناعات دوراً ملحوظاً في دعم الإصلاح التربوي وهي التي تشكو ليل نهار من تدّني نوعيّة الخرّيجين؟
5. لماذا لا تلعب المدارس الخاصّة الأردنية التي ارتقى بعضها إلى مستوى العالميّة دوراً ملحوظاً في تنميّة مدارس القطاع العام؟
6. لماذا لا يتحرّك الأهالي ايجابيّاً في مساءلة المدارس عن نتائج أبنائهم المتدنيّة، ولماذا يشعل بعضهم الإطارات في الشوارع عندما يتم القاء القبض على مروّج مخدّرات أو شخص مطلوب للعدالة ولكنّهم لا يحرّكون ساكناً عندما لم ينجح أي طالب في امتحان الشهادة الثانويّة العامّة في ما يزيد على مائتي مدرسة؟
إنّ الإصلاح الحقيقي للتعليم لا يمكن أن يتم إلا بتظافر جهود القطاع العام والخاص والأهلي والتطوّعي. وقد يستدعي الأمر عقد مؤتمر وطني ضخم لإصلاح التعليم يهدف الى حشد كافّة الجهود الرسميّة والمجتمعيّة للإتفاق على رؤيا واضحة للتعليم في الأردن والكيفيّة التي يمكن أن تسهم فيها هذه الرؤيا في بناء الأردن الجديد والسبل الكفيلة بتحقيقها. ولنا في هذا المجال تجربة عام 1987 وهي تجربة رائدة يمكن الاقتداء بنهجها.
تستند هذه الدعوة غلى مقولة أصبحت راسخة في التجربة الدوليّة، مفادها: “ما من أمة تقدّمت إلّا وكان إصلاح التعليم أحد أركانها الأساسيّة”. وإلى وقت ليس بالبعيد كان الأردن سبّاقاً في مجال التعليم في الوطن العربي، إلّا أنّه اعترى العمليّة التعليميّة بعض القصور والمصاعب والمشكلات التي أدّت الى تراجعه. إنّ الأسباب وراء ذلك معروفة جدّاً وقد تمّ تشخيصها بشكل جيّد، كما أن المطلوب عمله معروف كذلك، وإن كان هناك اختلاف حول أولوياته.
ويهمني في هذه الورقة الوقوف عند نقطة أساسيّة أشارت إليها دراسة حديثة للبنك الدولي حول التعليم في الأردن تتعلّق بتدّني إنتاجيّة المعلّمين الأردنيين بدلالة المستويات التحصيليّة المتدنيّة للطلاب، إذ بيّنت الدراسة بالأرقام أنّ تحصيل الطّلبة الأردنيين أدنى بشكل ملحوظ من تحصيل الطلبة في دول يساوي مستوى إنفاقها على التعليم مستوى الإنفاق الأردني، أو حتّى أقل. وعند تفحّص الأرقام بشكل أكثر عمقاً، وجد أنّ الزمن الذي يقضيه المعلّم على مهمّات التعليم الحقيقيّة التي تصنع الفرق في التحصيل متدنٍ بشكل ملحوظ، مما حدى بالبنك الى الاستنتاج بأنّ “النتائج المتحقّقة ليست مسألة وسيلة، بل نوعيّة الخدمات التي يقدّمها المعلّمون”، ولإعطاء مثال واحد فقط، فقد وجد “أنّ 24% فقط من المعلّمين في المدارس الحكوميّة في الصّفيّن الثاني والثالث الإبتدائي يقومون بتشجيع التلميذ على إعادة المحاولة أو توضيح السؤال أو تصويب التلميذ دون توبيخ”. وعلى ضوء هذه النتائج تتوقف الدراسة عند مبدأين أساسيين لتحسين النوعيّة هما زيادة الرقابة وتعزيز المساءلة.
إنّ معظم المعلّمين يعرفون ما عليهم القيام به، إمّا من خلال الإعداد المسبق، أو من خلال الخبرة المستمدّة من الممارسة اليوميّة، إلاّ أنه لا يمكن الركون إلى أنهم يقومون بالعمل الصحيح في كل الأوقات. وهنا يأتي المبدأ الإداري البسيط الذي يقول “ثق بالفرد ولكن دقّق عمله باستمرار” فإذا تركت المدرسة بدون رقابة الوزارة، وإذا ترك المعلم بدون رقابة المدير أو المشرف التربوي فلا توجد ضمانات حقيقيّة للقيام بالعمل الصحيح إلأّ من قبيل حسن النوايا، وهذا أمر لا يمكن الركون إليه دوماً.
أمّا فيما يتعلّق بالمساءلة فإنّها تأخذ شكلين: المساءلة المرتبطة بالأداء والإنجاز الذي يقود إلى المكافاة أو المحاسبة والذي عادة يأخذ شكل المساءلة من الأعلى Top- Bottom Approach، والمساءلة المجتمعيّة المرتبطة بالنتائج المتحقّقة إمّا من قبل الشعب مباشرة أو من قبل ممثّليه المنتخبين أي ما يسمّى Bottom-Up Approach، وعلينا الإعتراف بوجود نقص فادح في كلا الشكلين. فإذا نأت الدولة بنفسها عن مساءلة المعلّمين، وإذا نأى المجتمع بنفسه عن المشاركة في رسم السياسات التربويّة، ودعمها، والرقابة على تنفيذها، ومساءلة القائمين عليها لا يمكن أن تؤتي جهود الوزير والوزارة أكلها. فإذا أردتم الإصلاح لا تتركوا الرّزاز لوحده في الميدان، لتقدّم له الدّولة والمجتمع الدّعم المطلوب.