إذا سألتني عن “دمغة” تميز تجربة حكوماتنا في الادارة والسياسة عن غيرها من تجارب دول العالم، سأجيبك بلا ترد: ” التأجيل”، نحن نتعامل مع أزماتنا بمنطق التقسيط تارة، والتسكين والترحيل تارة أخرى، حكومة تهرب للأمام وأخرى للخلف، واحدة تفتح ملفا ثم ترحله للأخرى. نحاول التغطية على أوجاعنا، ونستعين أحيانا بالأمل لإطفاء حرائقنا، ثم نكتشف أنه مجرد وهم، قليلا ما نجرب المواجهة والجراحات العميقة، أما النتيجة فهي تراكم الأزمات واستعصاؤها، وتصاعد العجز والمديونيات، واتساع فجوة الثقة مع الناس، وانتظار الغيب بما يحمله من مجهول لا يعرفه أحد. على امتداد السنوات الماضية، تطارحنا حول ” الاصلاح” السياسي، كانت العملية أشبه بالماراثون أو سباق المسافات البعيدة، كلما انتهينا بدأنا من جديد، جربنا خمسة قوانين انتخاب، ومثلها تعديلات على قانون الأحزاب، وفتحنا الدستور أربع مرات، وفي كل مرة نهرب من الاجابة على سؤال: ماذا نريد؟ ثم نستغرق بمزيد من النقاشات والمكاسرات حول الموضوع، دون ان نتوافق على حلول نهائية مقنعة، وكفيلة بإحداث ” الفرق” بين ما نعاني منه وما نطمح اليه. تتكرر ” البروفة” ذاتها، الآن، مع الحكومة، فكل ما فتح الله عليها هو ” التأجيل” تمهيدا للترحيل ، أشير لثلاثة ملفات تعكس هذا المنطق وتؤكده، ملف الدفاع وأوامره، ملف تسعيرة المشتقات النفطية، وملف تأجيل أقساط البنوك، وأضيف على الهامش ملف ” العين الحمرا”، باعتبارها سلاحا لمواجهة التجار حين يتجاوزون حدود ” التسعيرة”، أو يحتكرون المواد الغذائية الأساسية. استخدمت الحكومة طيلة عام ونصف قانون الدفاع لمواجهة ” كورونا” وتداعياتها، واستندت في ذلك لثلاثة اعتبارات: الحفاظ على الصحة العامة، ضمان عدم تسريح العاملين، تعطيل القانون الذي يسمح بحبس المدينين والمتعثرين. حين ندقق بهذه الاعتبارات الوجيهة، نجد أن الحكومة (الحكومات أدق)، لم تفكر فيما بعد وقف العمل بقانون الدفاع، ولم تسأل نفسها: ماذا سيحدث باليوم التالي لحوالي ربع مليون (250 ألفا) من المطلوبين للتنفيذ القضائي، (دعك من الدائنين الذين قد تضيع حقوقهم)، وأكثر من 100 ألف من العمال المهددين بالتسريح نتيجة تعثر مؤسساتهم. هذه الأزمات الكبرى، إذا، ستبقى معلقة ببقاء قانون الدفاع وأوامره، لكنها ستنفجر بوجوهنا ما لم نكن مستعدين بشكل مدروس للتعامل مع هؤلاء العمال والمدينين، لا توجد لدي اجابات على ما يجب أن تفعله الحكومة، لكن ما سمعته من وصفات، ومنها اقرار مشروع قانون التنفيذ، والاستعانة بالضمان الاجتماعي ماليا، وفتح سجون جديدة، ودعم القطاع الخاص (كيف؟ لا أعرف)، لا تحمل أي تطمينات جدية لتجاوز الأزمة بمنطق آخر، غير منطق الترحيل لحكومة مقبلة. كما فعلت الحكومتان السابقة والحالية في مواجهة ” كورونا” بأوامر الدفاع، تفعل الحكومة، الآن، لمواجهة تداعيات حرب “اوكرانيا” على أمننا الغذائي بقرارات التخفيف على الناس من وطأة الغلاء وارتفاع الأسعار، حيث قررت تثبيت تسعيرة المحروقات للشهر الثالث على التوالي، لا بأس، ربما يبدو هذا القرار شعبيا، وربما يقال إن الحكومة تربح من خلال ما تفرضه من رسوم وضرائب على هذه السلعة. لكن كيف يمكن للخزينة ان تتحمل كلفة التثبيت المقدرة بنحو 100 مليون دينار، ثم إلى متى ستصمد، وماذا ستفعل اذا استمر الارتفاع لعام أو أكثر، والأهم: لماذا لم تتوجه لمراجعة أصل المشكلة، أقصد الضرائب غير المفهومة التي تفرضها على المحروقات، فتحل القضية من أساسها. تبقى قضية البنوك، الحكومة طلبت من البنك المركزي تأجيل دفع الأقساط المترتبة على المواطنين لشهر نيسان (رمضان)، الحل، بالطبع، مؤقت، ويتعلق بشهر واحد، لكن المشكلة أكبر من ذلك لأنها مرتبطة بمسألتين: الأولى هيمنة البنوك وتوسع نفوذها بشكل جعلها القوة الضاربة، اقتصاديا وسياسيا، هناك تفاصيل كثيرة حول الضرائب التي تدفعها، ومعدلات الفائدة والأرباح التي تحققها حتى في ظل الركود الاقتصادي، لكن ما فعلته الحكومات للدفاع عن حق المواطنين هو التأجيل فقط. أما المسألة الثانية فتتعلق بارتفاع الأسعار بشكل عام، وتغول بعض التجار على السوق (لاحظ هنا ان تعديل فاتورة الكهرباء بداية شهر نيسان) هذا يحتاج من الحكومة الى قرارات جريئة مستندة لقوانين حازمة، اما اظهار ” العين الحمرا” فمجرد تهديد لا علاقة له بالاقتصاد ولا بالسياسة.