ذكريات من الماضي تصبّ في قوانين التقاعد

8 سبتمبر 2018
ذكريات من الماضي تصبّ في قوانين التقاعد

صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان

بمناسبة البحث حاليا في تقاعد الوزراء من قبل مجلس النواب، أود أن أسرد هذه القصة التي حدثت معي شخصيا ليس للتفاخر، بل لإبراز حقيقة الفرق بين الخدمة المدنية والخدمة العسكرية ومخرجاتها في قوانين التقاعد، ويشهد على تفصيلاتها من كان معي في ذلك الحين، إن كان ما يزال على قيد الحياة :

بعد أن عدنا من غزوة حزيران 1967، التي زجتّنا بها القيادات السياسية دون استعداد مسبق، عدنا إلى معسكر الزرقاء لإعادة التنظيم. كنت حينها برتبة نقيب قائدا لسرية آلية في كتيبة الأمير عبد الله بن الحسين الآلية الأولى. وبعد تلك الحرب نشطت العمليات الفدائية في غور الأردن بدعم من القوات المسلحة الأردنية، خاصة بعد أن أعلن جلالة المغفور له الملك حسين قائلا ( أنا الفدائي الأول ).

فكانت القوات الإسرائيلية تقوم بعمليات انتقامية، على قواعد الفدائيين والقرى الأردنية في غور الأردن، قصفا بالمدفعية وطائرات الميراج الفرنسية. وفي إحدى الليالي قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم على قرية الشيخ محمد في الغور الشمالي، وأوقعت بعض الخسائر البشرية وهدمت العديد من المنازل، كما ودمرت قسما من قناة الغور الشرقية.

على أثر ذلك ألحقت السرية الثانية التي كنت أقودها ( 130 جندي محمولين في 11 مجنزرة M 113 ومدفعي هاون 3,5 بوصة ومدفعي 106 ملم )، مع لواء الإمام علي بن أبي طالب من فرقة المشاة الثانية في المنطقة الشمالية. كان قائد اللواء المرحوم اللواء خلف رافع، حيث أسند لي نجدة القرى الأمامية في غور الأردن، ابتداء من نهر اليرموك شمالا وحتى نهر الزرقاء جنوبا، بطول يقارب 50 كيلومترا.

كان معسكر سريتي المؤقت في بلدة دير أبو سعيد، وكان علي أن أتحرك بسريتي بعد الغروب من كل ليلة دون استعمال الأنوار، في طريق منحدرة ومتعرجة من دير أبو سعيد إلى قرية الزمالية، ولمسافة تقرب من عشرة كيلومترات، استعدادا لمواجهة أي هجوم أو تسلل إسرائيلي ليلي على القرى الأمامية.

ناقشت قائد اللواء بصعوبة تنفيذ هذا الواجب من حيث الحركة ليلا من المرتفعات إلى الغور على ذلك الطريق المتعرج والنزول الخطر، وصعوبة نجدة المواقع التي يحتمل أن يقع الهجوم عليها ليلا، لأن المسافة بين نهر الأردن والقرى في الغور الشمالي لا تتجاوز بضع كيلومترات. ثم أن العدو سيضع كمائن ونقاط غلق في طريق أية قوة قد تتحرك لنجدة الموقع الذي تتم مهاجمته. ولكن الأوامر بقيت كما هي دون تغيير، سوى أنه سمح لي بأن أتمركز ليلا ونهارا، في منطقة مثلث الزمالية. ورغم اعتراضي بأن هذا الموقع هو منطقة تقتيل مسجّل لدى العدو، وغير مناسب للتمركز به إلا أن قائد اللواء أصرّ على قراره.

إزاء هذا الموقف الصعب، وتوقعي بأنني لن أتمكن من الوصول إلى المكان المقصود لنجدته، فكرت أن آخذ ضباط الصف آمري وسائقي الناقلات المجنزرة ( حوالي 25 فردا ) ليستطلعوا الطرق وطبيعة الأرض التي سنعمل عليها إن دعت الحاجة. حملتهم في صبيحة يوم مشمس بشاحنة فورد 3 طن، وتحركت أمامهم بسيارة اللاندروفر، بعد أن اخترت عدة نقاط للاستطلاع وللتوقف بها وشرح طبيعتها، والتعرف على طرق التقرب إليها.

كانت إحدى تلك النقاط على طريق جسر الشيخ حسين، تبعد حوالي 400 متر عن نقطة مراقبة العدو على الجانب الآخر من النهر. وعند وصولنا هناك اكتشفت خطأي بأنني اقتربت كثيرا من موقع العدو، ومعي عدد كبير من الجنود محمولين في سيارة شحن 3 طن. وتصورت في تلك اللحظة أن الشاحنة بحمولتها تشكل هدفا دسما للعدو، فلو أطلق النار عليها من رشاشاته المتوسطة أو من مدافعه، فستكون الضحايا من جنودي بالجملة. وبكلمات سريعة شرحت لهم ما أردت، وطلبت من سائق السيارة أن يتحرك بسرعة عائدا خارج المنطقة.

كان الوقت في أواخر الخريف وكان الفلاحون قد ( ربصوا بالماء ) المنطقة الزراعية على جوانب الطريق المعبد الذي يقل عرضه عن 3 أمتار، وكان من الخطورة أن تخرج الشاحنة خارج الطريق لأنها ( ستغرّس ) في الطين. وأخذ السائق يناور بالشاحنة التي لا يعمل جهاز التوجيه بها على نظام ( الباور ) فكانت الثانية الواحدة بتقديري تعادل يوما كاملا، خاصة وأنا أتوقع أن تُطلق النار على ركاب الشاحنة بين لحظة وأخرى.

عندها قررت أن أقف بين الشاحنة ونقطة المراقبة، إذ فضلت أن أكون الهدف الأول قبل الشاحنة إذا ما أطلقت النار علينا، فمن الأولى أن تصيبني القذائف قبل أن تصيب جنودي، ولكي أتجنب ( التحقيق في سؤل وأجاب ) متحملا كامل المسؤولية عن الخطأ الذي أقدمت عليه. استمرت عملية مناورة الشاحنة 5 دقائق خلتها شهرا، وانتظرت في مكاني حتى ابتعدت الشاحنة بركابها لمسافة 3 كيلومترات من الموقع، ثم تبعتها بعد أن تأكدت من سلامة ركابها لمواصلة عملية الاستطلاع.

بعد حوالي شهرين تسلّم قيادة اللواء العميد الركن محمد موسى اليطاوي، والذي كان آمرا لمدرسة المشاة، وهو من الضبط المميزين في القوات المسلحة. فزارني في موقع مثلث الزمالية وقال : لماذا أنت متمركز بسريتك في هذا الموقع ؟ هذا بالتأكيد هو هدف مسجل من قبل مدفعية العدو. قلت له أنني بينت لقائد اللواء السابق هذا الأمر ولكنه لم يستجب لي ورضخت لأوامره. فأمر بانتقالي إلى موقع آخر بعيد عن هذا الموقع. بعد فترة قصيرة أعيدت سريتي إلى وحدتها الأم في معسكر الزرقاء.

نُقلت بعد ذلك من الكتيبة إلى مدرسة المشاة لأعمل مدربا بها. وسمعت لاحقا أن الإسرائيليين قد قصفوا مناطق متعددة بالمدفعية والطائرات في غور الأردن. والتقيت صدفة مع العميد الركن محمد موسى، فقال لي هل تذكر الموقع الذي كنت تشغله في الزمالية ؟ قلت نعم. قال لم يبق منه شبر واحد لم تسقط به قنبلة، وقد كان مسجلا كهدف دفاعي لمدفعية العدو كما توقعنا. ولو كنتم هناك لما وجدنا منكم من نتحدث معه اليوم، فقلت له الحمد لله على ما قدّر وفعل. رحم الله العميد الركن محمد موسى اليطاوي ومن سبقه في قيادة اللواء وجميع شهداء وموتى قواتنا المسلحة.

في الختام أسأل : هل هناك وزير أو عين أو نائب عدا العسكريين منهم، من واجه موقفا يضعه بين الحياة والموت دفاعا عن الوطن الذي يمتطون صهوته هذه الأيام ؟ وكيف يمكن أن تتم المقارنة بين ضابط أمضى في الخدمة العسكرية بما يكتنفها من خطورة لما يقارب 40 عاما، ويحصل على راتب تقاعدي لا يزيد عن 1350 دينارا، بينما وزير يتم اختياره من المعارف والأصدقاء، يمضي ما مجوعه 7 سنوات في خدمة ناعمة ومرفّهة تصحبها امتيازات بلا حدود، ويحصل على راتب تقاعدي مدى الحياة يصل إلى 3000 آلاف دينار ؟ الجواب إنها العدالة المفترى عليها، فيما يسمى دولة القانون والمؤسسات . . !
التاريخ : 7 / 9 / 2018

الاخبار العاجلة