صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
في مسيرة الأمم يبرز عادة قادة سياسيون عظماء يتولون قيادة شعوبهم إلى الرقي والتقدم، ويصنعون تاريخا مشرفا يطبع بصماتهم على جبين الوطن، وتعيش ذكراهم خالدة بين الناس يتناقلونها جيلا بعد جيل. فتصبح أفعالهم مشعلا ينير الطريق لمن يرغب الاقتداء بهم، في السعي لنهضة بلادهم كي تساير ركب التطور والحضارة في العالم.
المارشال مونتجمري صانع النصر للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، قال في وصفه لعظماء الرجال ما يلي : ” لا أعتقد أن الرجل يوصف بالعظمة والعبقرية في مجال الزعامة الوطنية ما لم يحقق عملا نافعا لبلده وأمته، عملا خالدا يدوم حيا على مر الزمن “.
مناسبة هذا الحديث هو ما جرى في نهاية الأسبوع الماضي، حيث أحتفل الماليزيون في كافة مدنهم وقراهم بعودة رئيس وزرائهم المخضرم مهاتير محمد، إلى موقعة السابق لقيادة سفينة الوطن مجددا، بتوليه رئاسة الوزراء في المملكة الماليزية، بعد أن حقق حزبه ( تحالف الأمل ) أغلبية مطلقة في الانتخابات النيابية ضد منافسيه، وحظي بمبايعة شعبية غير مسبوقة.
ورئيس الوزراء الماليزي الدكتور / الطبيب مهاتير محمد، هو أحد أولئك العظماء، الذي حفر اسمه في قلوب شعبه وطبعه على جبين وطنه، عندما رفعه من حالة الفقر والتخلف، ليصبح دولة صناعية متقدمة خلال عقدين من الزمان، فانطبق عليه ما جاء في وصف مونتجمري لعظماء الرجال.
ونظرا لإعجابي بهذا القائد الوطني، فقد كتبت عنه خلال السنوات الماضية عدة مقالات مشيدا بجهوده، آملا أن يقتدي به متعهدو الخطط الاقتصادية في بلدنا، ولكنهم فعلوا عكسه تماما وأمعنوا في خططهم الفاشلة التي أفقرت الشعب، وأغرقت البلاد بمديونية عالية.
عندما تولى مهاتير رئاسة الحكومة في عام 1981 ولمس الفقر والتخلف في البلاد، علق قائلا : ” بغير توفر فرص العمل للشعب يصبح الاستقلال لا معنى له، وتغزو المشاكل الاجتماعية كيان الدولة “. ومن خلال إيمانه بقدرات الشعب الماليزي على النهوض واللحاق بركب التقدم، رفع شعارين لانطلاق التنمية الاقتصادية : الأول هو ( ماليزيا بوليه ) أي أن ماليزيا والماليزيون يستطيعون فعل أي شيء يفعله الآخرون. والثاني ( أنظروا شرقا ) أي على الماليزيين الاقتداء بالنهضة الاقتصادية في دول جنوب شرق آسيا.
وبناء عليه صمم خططه الاقتصادية لتنفذ على ثلاثة مستويات : قصيرة المدى لمدة عام، ومتوسطة المدى لمدة خمسة أعوام، وطويلة المدى لمدة ثلاثين عاما، مع الحفاظ على مستوى معيشة مناسب للمواطنين. وتمت مراقبة تطبيقها بصورة مستمرة من قبل الوزراء، إضافة لمكتب “مراقبة التطبيق ” الذي كان عليه أن يقدم تقاريره أسبوعيا عن سير العمل إلى مجلس الوزراء. وقد تم التأكيد في هذه الخطط على نقل التكنولوجيا وتعلم الإدارة من المستثمرين الأجانب، فأصبح الماليزيون قادرين على تصنيع كل شيء تقريبا بما فيه الإلكترونيات والسيارات.
في أواخر السبعينات كانت نسبة الفقر والبطالة في البلاد 57 % وفي عام 2004 أصبحت أقل من 5 %، وكان معدل دخل الفرد عند تولي مهاتير مقاليد الحكم عام 1981 لا يتجاوز 300 دولار سنويا. وعندما غادر المنصب عام 2003، وصل دخل الفرد الماليزي إلى 16000 دولار سنويا. وجنت الدولة من وراء تصدير التكنولوجيا 59 مليار دولار في السنة، وحققت فائضا في ميزانها التجاري بما قيمته 25 مليار دولار، وارتفع الدخل القومي إلى 215 مليار دولار سنويا.
لقد استمع مهاتير لتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولكنه ضرب بهما عرض الحائط، ووضع خطته الاقتصادية الطموحة التي اشتملت على خارطة طريق لمستقبل ماليزيا من خلال رؤيته الثاقبة وحكمته الراسخة، حدد بها الأهداف والنتائج لتصبح ماليزيا في طليعة الدول المتقدمة بحلول عام 2020.
لخص مهاتير تجربته الاقتصادية بالوصفة التالية : ” إن وصفة التقدم هي أن يخلّص الإنسان نفسه من ثقل الكرة الحديدية داخل عقله. وبإيماننا أننا نستطيع أن نفعل ما يفعله الآخرون، نكون قد فزنا بنصف المعركة. لقد وهبنا الله – نحن البشر – قدرة على التعلم والتفوق في كل شيء، إذا كنا على استعداد للمحاولة مرة بعد أخرى حتى ننجح “. وأثبت بأن الإصلاح ليس ( معجزة ) إذا ما توفرت النوايا الحقيقية، والأفكار القابلة للتطبيق لدى المسؤولين.
أذكر أنه خلال مشاركته بصورة شخصية في المؤتمر الاقتصادي العالمي، الذي عقد في الأردن قبل بضع سنوات، زار مهاتير مدينة البتراء الوردية فقال حينها : ” لو كنت مسؤولا عن هذا المعلم السياحي العظيم، لاستطعت أن أجلب للبلاد عشرة ملايين دولار سنويا من عائداته السياحية “.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذه الحالة هو : لماذا عاد الرجل الذي بلغ من العمر 92 عاما إلى رئاسة الحكومة، رغم تخليه عن هذا المنصب طوعا عام 2003، ولكنه أصرّ على العودة إليه بعد خمسة عشر عاما من مغادرته ؟
وللإجابة على هذا السؤال أقول : أن مهاتير الحريص على تقدم وطنه، لاحظ أن من خلفوه في الحكم قد غرقوا في الفساد ونهب أموال الدولة، وقاموا بفرض الضرائب على السلع والخدمات بنسبة 6 %، وضاق الشعب بقراراتهم وسوء إدارتهم، التي أدت إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، وانحراف مسيرة الدولة عن هدفها المرسوم.
ورغم النصائح التي قدمها مهاتير إلى المسؤولين لتصحيح مسارهم، إلا أنهم لم يستجيبوا له ولم تجد نصائحه آذانا صاغية، الأمر الذي أضطره للعودة إلى عرينه، حفاظا على مصالح الوطن والشعب، ومواصلة مسيرة ماليزيا كما خطط لها سابقا، لكي تصبح في مقدمة الدول الصناعية بحلول عام 2020.
وهنا أتساءل : هل لدينا من رؤساء الحكومات السابقين واللاحقين من يمكن أن نطلق عليهم لقب ( العظماء )، ممن طبعوا بصماتهم الوطنية على جبين الأردن، منذ تأسيسه وحتى الآن، سوى وصفي التل رحمه الله ؟ ثم لو عاد أي من رؤساء الوزارات السابقين إلى الحكم، هل يستقبله الشعب بالترحيب والاحتفالات كما فعل الشعب الماليزي، أم يستقبله بالغضب والاستنكار ؟ الجواب سأتركه محفوظا في صدور الأردنيين . . !
التاريخ : 12 / 5 / 2018