صراحة نيوز – بقلم د. محمد ابو حمور
تحفل المئوية الأولى للدولة الأردنية (1921 – 2021) بإنجازات عظيمة في المجالات كافة،رغم أن هذه الدولة نشأت وعاشت ولا تزال وسط دائرة من اللهيب والصراعات والحروب؛ وأهمها الصراع المتعلق بالقضية الفلسطينية،ولكنها استطاعت أن تحافظ على وجودها وأن تبني مؤسساتها رغم ضآلة الإمكانات المادية، وأن تتقدم بشعبها في مراتب الحضارة والعلم، وتصون مبادئها وثوابتها.
وقد تمثّلت حكمة التكوين للأردن الحديث في فكر المغفور له الملك المؤسس عبد الله بن الحسين، الذي كان زعيماً مثقفاً يمتلك رؤى نهضوية بعيدة الأفق، فنهض بالتعليم باعتباره الركيزة الأساس للفكر والثقافة وإطلاق الطاقات الفكرية والإنتاجية والإبداعية نحو بناء الوطن، وفي شتى المناحي الاقتصادية، والتعليمية، والصحية، والعسكرية، وغيرها.
كما أن التطور السريع الذي جعل من الأردن الدولة الصغيرة عمراً وجغرافيا؛ دولة كبيرة الأثر على الساحة العربية والدولية، يعود الفضل فيه إلى هذا الفكر النهضوي الذي حمله القادة الهاشميون والأردنيون، دون أن يتقلّص إلى فكر قُطري لا يتجاوز الحدود بين الأردن ومحيطه العربي الحيوي والإنساني العام.
وفي المقالة الجامعة لسموّ الأمير الحسن بن طلال بعنوان «على عتبة المئوية الثانية للدولة» التي نُشرت مؤخراً، محاور مهمة في دلالتها حول الظروف التي نشأت فيهاإمارة شرقي الأردن بعد زوال الدولة العثمانية والإطاحة بالدولة العربية في دمشق بزعامة الملك فيصل بن الحسين، وفرض الانتدابين الفرنسي والبريطاني في المنطقة وفق اتفاقية سايكس – بيكو، وقد أوضح سموّه أن الدولة الأردنية بعد استقلالها عام 1946 وحتى اليوم، ظلَّت دولة تحمل مبررات بقائها لسببين: الأول أنها قامت على أساس من طموحات النهضة العربية، والثاني أن الأردنيين ومعهم إخوانهم من رجالات العرب كانوا جزءاً من هذه النهضة، واستطاعت هذه الدولة الناشئة في حينه أن تعمل بمبادئها النهضوية، وفي الوقت نفسه أن تنجح في تشكيل مجتمع متنوّع يتوحّد في طموحه المشروع نحو التقدم، مما أسهم في نمائه وتطوره في ميادين الإدارة والتعليم والثقافة والسياسة والعسكرية، وغيرها.
كما يوضّحمقال سموّ الأمير شكل الدولة الأردنية الذي يجب أن تكون عليهفي المئوية المُقبِلة؛فتكون دولة مدنية يسود فيها القانون، وتقوم على خطاب حداثي ومتنوّر،وتلبّي حقوق جميع المواطنين وتحقق العدل والمساواة والتسامح بينهم، وتعيدبلورة الخطاب الرسمي للحكومات اعتماداً على دراسة ردود الفعل الشعبية والنخب السياسية والاجتماعية والفكرية للخطاب الحالي.
أمّا دورمؤسسات الدولة الأردنية في المئوية الثانية فيتمثّل بوضع خطط استثمار وتنمية مستدامة نابعة من صميم حاجات الشعب الأردني، لتعمل على تطوير المنظومات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية،وتقوم على التشبيك بين مؤسساتها بشكل عملي، من أجل إيجاد الترابط الوثيق بينها بهدف تحقيق فاعلية أكبر ونتائج أنجعلهذه الخطط، خاصة على المدى الطويل. فضلاً عن الارتكاز إلى العمل المؤسسي المُستدام بعيداً عن الاعتماد على الشخصيات المتغيّرة، ووضع التشريعات المتكاملة التي تعمل على التجديد والتحديث، والتي تفعّل دور الإدارة وتعززه، خاصة في التصدي للفساد، وذلك حرصاً على إعادة بناء الثقة بين الشعب وصُنّاع القرار.
إن هذا التصوّر المُستقبلي لشكل الدولة الأردنية وعمل مؤسساتها يتماشى مع تطلعات المجتمع الأردني وصورته في المئوية المُقبِلة؛ ليكون مجتمعاً قادراً على مواجهة التحديات والتأقلم مع التغيرات المتسارعة بشكل ذكي وصحيّ، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال ردم الفجوات التي تُباعد بين الفئات المجتمعية، وتعظيم روح المواطنة وجعلها العنصر الجامع الموحّد بين كل المواطنين، وتحقيق العدل والمساواة بينهم، وتعزيز دور الفرد المجتمعي والوطني عن طريق التعليم، وحُسن إدارة رأس المال، ووضع الإجراءات المناسبة التي تعود على كل الفئات المجتمعية بالنفع والحماية.
إن المحاور الثلاثة التي تناولها مقال سمو الأمير الحسن بن طلال، والتي تدور حولشكل الدولة الأردنية وعمل مؤسساتها ومجتمعها في المئوية الثانية، ليست إلا امتداداً لفكر النهضة وروحها في التأكيدعلى التواصل بين الأجيال منذنشأة الإمارة الأردنية، وتلك التي عاصرت مسيرة الأردن الموصولةبقيادة الملوك الهاشميين.
لقد جاءت الأوراق النقاشية الملكيةالسبع لجلالة الملك عبدالله الثانيابن الحسين لتكون مدار نقاش وتحاور وتفاكر، في إطار تعزيزمشاركة مختلف الأطياف الاجتماعية والسياسية والفكرية في هذا الحوار الهادف والبنّاء؛ لصياغة رؤية استراتيجية وطنية عملية، تستشرف مسار الإصلاح الديمقراطيّ في الأردن، وتبني على ما تحقَّق من إنجازات تستند إلى القوة النابعة من أصول الهويّة الأردنية، إضافة إلى ترسيخهاللوحدة الوطنية، والاستقرار المجتمعيّ؛ كضمانٍ للمستقبل الذي نطمح إليه جميعاً.
تُعدّ هذه الأوراق النقاشية سابقة في تاريخ الديمقراطيات في العالم؛ إذ تتجلى في مخاطبة قائد البلاد لمواطنيه ومشاركته إياهم في الحوارِ الوطنيّ العام، لتدلّ على عمق الثقة المتبادلة بين الملك والشعب، والإيمان بقدرة الأردن على تمتين البناء الديمقراطيّ، والوصول إلى مستقبل آمن لأجياله.
ولعلالورقة النقاشية السادسة حول قضية سيادة القانون كأساس للدولة المدنية تُبرز أهم معالم الدولة الأردنية في المئوية الثانية من حيث أن سيادة القانون تتّبع نهج المساواة والعدل وتكافؤ الفرص، وبذلك يتم الحفاظ على التسامح والتناغم بين الفئات المجتمعية المنتمية إلى مختلف الأعراق والأديان والمذاهب، مما يوحّد النسيج الاجتماعيويزيد من التماسك بين جميع مكوناته، ويدفعبالمواطن إلى مواصلة تطبيق القانون واحترام سيادته على الجميع دون أي تمييز أو استثناءات.
ومن المهم التنويه هنا بأنالمواطنة المسؤولة تفرض تطبيق نهج سيادة القانون وممارسته الفاعلةعلى مؤسسات الدولة كافة كما على المواطنين، لأنه نهج أساسي في عملية إصلاح المؤسسات، تلك العملية التي تتطلبتحديث الإجراءات وتطوير الإدارة،واختيارالكفاءات والقيادات الإدارية، ومكافحة الواسطة والمحسوبية، وتطوير القضاء والأجهزة المُساندة له،والرقابة والتفتيش القضائيّ، والقدرة على خدمة المواطن.
وانطلاقاً من الرؤية الملكية الساميةلجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في كون المسؤولية جماعيّة «في احتضان القيم والممارسات الديمقراطية والاستمرار في تطويرها مستقبلاً، بحيث تتجذّر في المنظومة القيمية والتربوية والتشريعية»،فإننا نشاركاليوم في مرحلة مهمة من العمل الوطني الديمقراطيّ، مستنيرين بالرؤية الهاشمية الجليلة لبناء أردن قوي، قادر على تجاوز التحديات، وإعطاء المثلوالقدوة في التغلّب على الصعوبات الداخلية وتلك التي تفرضها الأوضاع والأزمات الإقليمية.