صراحة نيوز – يوم أمس وقبل أن تبلغ الساعة الثامنة صباحا ساق لي الله صاحب البكم الأزرق (نيسان جونيور) «المهبرت بكل ما فيه ميكانيكيا والشامخ بكل كبرياء من حيث الكرامة » الى الشارع الواقع بالقرب من بيت أهلي في اربد قرية
( بيت يافا) بعد أن غاب عني لسنوات وسنوات، زارنا لكي أسطر لكم هذا المقال وأعيد جزءًا من ذكريات الزمن الجميل وخصوصا لمن عاشها أو عاش جزءًا منها ..
طبعا في القرية كل شيء متشابه فلا أحياء شرقية أو غربية، ولا توجد خدمات خمس نجوم وأربعة نجوم وما دونهما، ولا يوجد مناطق محرمة ممنوع الوقوف والتوقف فيها، ولا يوجد مناطق (أ) و(ب) و(ج) وسكني وتجاري وخاص وخاص جدا.. فالكل سواسية والكل عليه الفريضة ذاتها في حب الوطن والوفاء لترابه الطهور…
بصراحة هذا الصوت الغائب عني لسنوات أعاد بداخلي الكثير من الذكريات الخالدة ، واعاد في داخل الكثيرين منكم نفس الذكريات، هو نفس الصوت واكاد أجزم أنه نفس البكم الذي زار معظم قُرانا ومُخيماتنا وبوادينا وحتى الأحياء الشعبية من مراكز محافظاتنا لسنوات خلت،
بالتأكيد هونفس الشريط الدعائي، لم يتغير شيء سوى السائق الذي على الغالب رحل عن الدنيا واورثها (طابو) بالتلزيم الى أحد الابناء فتقبلها عن طيب خاطر، هي المنصب دون أي تدخلات من هنا او تزكية ودعم من هناك،
هي المهنة و السَّتْـرُ والرضا بالقليل والإكتفاء بالموجود وترك الشوق إلى المفقود ، هي لقمة العيش الصادقة التي لا يعرف غيرها، وكلي يقين أنه لا يقبل تبديل اقفاص الدجاج بكل وظائف الدنيا،
هي الحب الأول حين كان طفل يجالس الدجاجات في حلها وترحالها ويتنقل معها في غرفة البكم لسنوات وسنوات ومن مكان الى اخر ، يحدثهم ويلاعبهم طوال الطريق، يغطيهم في الصيف إذا اشتد الحر ويدفيهم في الشتاء من البرد والمطر…
لا جديد في الأمر فطريقة وضع الدجاجات واحدة وحتى جلستها في القفص متناغمة، تجلس بنفس الطريقة ونفس السلوك، باختصار دجاج فهم الحياة صح بعد كل سنوات الخبرة التي عاشها، فقبل بالنصيب حتى آخر يوم له. ( دجاج مَزارع هَرش بطل يبيض ( حل ذبحه) فالمكتوب مبيِّن من عنوانه عليه )، لذلك لن يتدلل كثيرا ولن يرفض الواقع أو يتطلع الى أفق أبعد مما هو فيه (فلو بدها تشتي كانت غيمت عليه من زمان ) ..
صدقوني حتى طريقة البائع كما هي لم تتغير منذ 40 عاما أو ربما اكثر، الرجل جالس على طرف البكم وبدخن وكاف بَنْطلونُه من تحت كفتين أو ثلاث فوق بعض، وسارح وكأنه في عالم اخر، والناس بتقلب بالاقفاص وكأنها لا تعنيه، وحتى السعر أتوقع لم يشطح كثيرا فلماذا الإنتباه والأخذ والرد والتركيز في البيع والمفاصله، السعر ثابت فإن ارتفع خلال هذه السنوات فيكون الارتفاع مقبولا جدا ومعلوما للجميع وغير مستغرب… فلا يتجاوز إرتفاع لتر بنزين خلال شهرين متتاليين..
مما أسعدني هو الإصرار من صاحب البكم على نقل الماضي بكل ما فيه من جماليات فتجد صورة لمحمد عبده وأخرى لأم كلثوم وصورة لشعار الجيش، وأخرى لعسكري رافع بندقية يزين البكم فيها ولتحميه من حر الشمس، حياته ببساطتها كما كانت وعجلة الزمن لا تتحرك عنده كثيرا
فلا تجديد في المضمون ولا الجوهر ولا العنوان، فرغم هذه السنوات والتطور المكاني والزماني والتكنولوجي يعيش كما هو بكل صدق، يعيش كما كان طفل يلعب مع الدجاجات بكل سرور،
أول ما تقف بجانبه يعرفك وأن شعر انك غريب أو زبون جديد أو( طيار)، بقلك عشان يسحبك بالكلام، الله يعين الناس هو من قليل بركضوا على هيك دجاج، بسألك هو أنت من هاي البلد ولا غريب، وبس تحكيله أنك منها بطلع، يعرف نص البلد وتاريخ ميلادهم، (صدقوني هو مش جاي يبيع بلغة التجار والسماسرة والمحتكرين والمزورين والمتلاعبين ) بتشعر أنه جاي رفع عتب، بدك تشتري أهلا وسهلا وإذا ما بدك فيه مسخم ثاني رح يشتري )
بالنهاية بالتأكيد رح يروّح واقفاص الدجاج فارغة إذا ما باعها عندك ببيعها بالقرى التي حوليك، فما اكثر المسخمين في زمان أصحاب الملايين ..
ما زال الشريط يردد نفس الكلمات التي لا ينساها ابناء جيلنا جيل السبعينيات والثمانينيات وما قبلهم (الجاج يا ابو العيال الجاج)،(على السيارة يا جاج)، (الجاجة بستين)، وما زال وضع الزبائن على حالهم يتقاطرون للشراء فلا يدخل (الزفر) بيوت الكثيرين منهم الا من هنا ..
كتبت مقالي وانا كذلك كما أنا أردد على الدوام ما زال على هذه الأرض ما يستحق الحياة والحب والعمل والإنجاز ، وأهمس في داخلي واتعمق بمعنى (ابن الحراث حراث وابن الوزير وزير.. )، صدقوني بلا لف ودوران هم الهم الوطن اعتبروه منجم ذهب وإحنا النا ترابه والدفاع عنه هو المغنم وهذا يكفينا وزيادة..
م مدحت الخطيب