” لافارج ” في الأردن من التأسيس إلى الإعسار معلومات مثيرة
9 أكتوبر 2021
صراحة نيوز –
تم تحديث هذا التقرير الموسع بتاريخ 28 أيلول 2021 لتناول تطورات قضية الشركة والنزاع العمالي فيها.
«بناء مدن أفضل».
يتصدر هذا الشعار الموقع الإلكتروني لشركة مصانع الإسمنت الأردنية/لافارج؛ الشركة التي بدأت برأسمال وطني عام 1951، ثم باعت الحكومة عام 1998 القسم الأكبر من حصتها فيها للشركة الفرنسية، ضمن ما يعرف ببرنامج التخاصية؛ وهي سلسلة صفقات بيع مؤسسات الدولة التي بدأت تلك السنة، وشملت 19 مؤسسة في قطاعات التعدين والاتصالات والنقل الجوي والكهرباء.
«لافارج الأردن» التي حققت، خلال النصف الأول من عملها بعد الخصخصة، أرباحًا تجاوزت في بعض السنوات رأسمالها المكون من 60 مليون و400 ألف، ثم بدأت في النصف الثاني رحلة تعثر مالي أوصل خسائرها إلى 225% من رأسمالها، انتهى بها الأمر في تموز الماضي إلى الحصول على حكم قضائي بإشهار إعسارها. حكمٌ كان من المفترض بمقتضاه أن تتمتّع بفترة سنتين[1] لتنظيم أوضاعها، تكون خلالها في منأى من الملاحقة القضائية، ويتوقف خلالها تراكم الفوائد على ديونها. لكن الحكم أبطلته في أيلول الماضي محكمة الاستئناف.
ورغم إبطال الاستئناف الحكم، إلا أن إجراءات الإعسار ما زالت بموجب قانون الإعسار مستمرة، إلى أن تحسم القضية محكمة التمييز. فبموجب قرارها سيتضح إن كانت الشركة ستتمتع بالحماية التي ضمنها لها قانون الإعسار، أو أنها ستضطر للدخول في نزاعات قضائية مع قائمة طويلة من الدائنين، تشمل بنوكًا وبلديات وعمال ومنظمات مجتمع مدني.
في الحالتين، فبعد 22 عامًا من العمل في الأردن، لا يبدو أن «مدن أفضل» هي بالضبط العبارة التي يمكن أن تصف تجربة لافارج في الأردن، ولا الأماكن التي عملت فيها عبر مصنعيها في الفحيص والرشادية.
في الفحيص، في محافظة البلقاء، هناك مصنعها الضخم المتوقف عن العمل منذ العام 2016، والجاثم في قلب المدينة، بأفرانه، ومطاحنه، ومن حوله الأراضي المجرّفة التابعة له، والممتدة إلى الجارة ماحص، أراض كانت كلها كروم عنب، وأشجار فواكه، حولتها عشرات السنوات من التعدين والتفجير وقَطْع الجبال لاستخراج الحجر الجيري، إلى حفر هائلة، بمصاطب متدرجة شاهقة الارتفاع، تركت منذ عقود من دون إعادة تأهيل.
وفي الرشادية، في محافظة الطفيلة، حيث مصنعها الآخر، هناك مشهد مشابه. ففي المنطقة الجبلية، التي كانت كروم زيتون، وحقول قمح وحبوب، وشكلت تاريخيًا مصدر الغذاء الوحيد لأهالي بلدات الرشادية وبصيرا والقادسية، توسعت الشركة في شراء الأراضي المحيطة بتلك التي كانت قد استملكتها، واضعةً يدها على آلاف الدونمات، وحوّلت قسمًا كبيرًا منها إلى محاجر استُنزفت إلى آخر رمق، وتُركت أيضًا من دون إعادة تأهيل.
في هذه الأماكن، هناك البشر من السكان الذين أمضوا العقود الماضية، جيلًا بعد جيل، يستنشقون غبار الإسمنت، الذي يغطي أوراق الشجر، ويفزعون لأصوات التفجيرات، ويستيقظون كل صباح يفركون الغبار الأسود عن أرضيات شرفاتهم وسياراتهم، ويراقبونه يدخل خلال مصابيح الكهرباء، ويشهدون تدمير عيون الماء التي سقت أجدادهم، وروت مزروعاتهم.
هناك أيضًا مئات العمال السابقين ممن سُرّحوا ضمن عمليات إعادة الهيكلة التي تلت الخصخصة، والذين يشهدون تراجع الشركة عن أداء حقوق حصّلوها مقابل تسريحهم المبكر، وأبرزها التأمين الصحي الذي دفعوا ثمنه، ليس فقط من خلال اقتطاعات رواتبهم أثناء عملهم، وواصلوا دفع الاقتطاعات بعد التقاعد من رواتب الضمان الاجتماعي، بل دفعوا الثمن بالأساس من صحتهم جرّاء عملهم أمام الأفران، والكسارات، وخطوط تعبئة أكياس الإسمنت.
وهناك زملاؤهم من العمال الذين ما زالوا على رأس عملهم، الفزعين من حقيقة أن إعلان الشركة إعسارها، يمكن أن يكون منفذًا قانونيًا لتسريحهم، مقابل ما لا يتعدى رواتب ثلاثة أشهر، يخرجون بعدها إلى الشارع.
وفوق كل هذا، هناك النزاع بين أهالي الفحيص والشركة على قرابة ألفي دونم، يقول الأهالي إن القسم الأكبر منها استملك من أجدادهم تحت الضغط بأوامر دفاع، لغرض المنفعة العامة، ومنحت للافارج مجانًا، إذ لم تحتسب قيمتها، ضمن صفقة الخصخصة، التي أقرت الحكومة نفسها بأنها محاطة بشبهات فساد. والآن تريد الشركة بعد إغلاق مصنعها في المدينة التكسّب من هذه الأراضي، وبيعها لمستثمر مجهول الهوية، ضمن صيغة تعاقدية فضفاضة، في شكل مذكرة تفاهم، لا تضمن إلزام الشركة بأداء واجبها في إعادة تأهيل الأراضي التي عدّنت فيها، ولا تضمن ألا تنفذ أي مشاريع مستقبلية بطريقة تهدد هوية المدينة، وتربك حياة أبنائها، وتدخلهم فصلًا جديدًا من معاناة استمرت أكثر من 60 عامًا.
وسط هذه الفوضى، أعلنت الشركة إعسارها، لتكون الشركة الأولى[2] التي قبل طلبها الإعسار (قبل استئنافه لاحقًا)، بموجب القانون الذي صدر في أيار 2018.[3] وجاء هذا الإعسار بعد 22 عامًا من العمل في الأردن، منها ما يقارب الثماني سنوات احتكرت خلالها سوق الإسمنت بشكل غير رسمي، بعد انتهاء عقد امتياز الشركة الأم عام 2001. وقد استغلت الشركة هذه السنوات الثماني، كما يقول مستثمرون في قطاع الإسكان، بأن رفعت الأسعار إلى مستويات قياسية، بحيث أنها تمكنت خلال السنوات العشر الأولى التي تلت الخصخصة من تحقيق أرباح بلغت 375 مليون دينار.[4] إلى أن تغيرت الحال ابتداء من العام 2009، عندما دخل السوق منتجون جدد، ظلت الشركة تقول إنها عاجزة عن منافستهم، لأن الأهالي في الفحيص والرشادية يقاومون، لاعتبارات بيئية، استخدامها وقود الفحم الحجري منخفض الكلفة الذي يستخدمه منافسوها. إضافة إلى تكبدها مبالغ كبيرة، قيمة التعويضات عن الضرر البيئي، التي كان القضاء يحكم بها للأهالي. من هنا، بدأت الشركة بتسجيل خسائر متتالية، وصلت قيمتها التراكمية نهاية العام 2019 إلى 135.7 مليون دينار، شكلت 225% من رأسمالها البالغ 60.4 مليون دينار تقريبًا.[5]
فكيف وصلت الأمور إلى هنا؟
يحاول هذا التقرير الموسع أن يجيب على هذا السؤال من خلال استعراض أبرز محاور قصة لافارج في الأردن منذ دخولها المملكة إلى إعلانها الإعسار.
لماذا لافارج؟
تأسست شركة مصانع الإسمنت الأردنية في كانون الأول 1951، في ما بدا استجابة لارتفاع وتيرة النشاط العمراني الذي تلا مباشرة تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن بعد نكبة العام 1948. وتظهر محاضر جلسات مجلس الأمة آنذاك أن قسمًا كبيرًا من أسهمها طرح للاكتتاب العام في أيلول من تلك السنة، باقتراح نيابي عوّل أصحابه على أن يقوّي إسهام الشعب في المصنع «ارتباط الأهلين بالحكومة القائمة [ويحوّل] اتجاه الشعب من الإسراف إلى التوفير».[6] لكن تلك المحاضر تكشف أن الشعب لم يقبل على شراء الأسهم بالصورة المتوقعة، وأن إنشاء المصنع واجه الكثير من التعثر، ولم يبدأ العمل فعليًا إلا العام 1954، وأشار إلى ذلك الملك الراحل الحسين بن طلال في خطاب العرش نهاية تلك السنة.[7]
تأسست «الإسمنت» بعقد امتياز منحها حق احتكار السوق لخمسين سنة، لكن العقد ضمِن للحكومة حق التدخل في تحديد الأسعار،[8] ودعم كلف النقل للمشترين. ورغم بند الاحتكار، فقد وافقت الشركة[9] للحكومة على إنشاء مصنع آخر للإسمنت في محافظة الطفيلة، شريطة أن يكون كامل إنتاجه للتصدير. كان هذا مصنع الجنوب، الذي تأسس العام 1982، وبدأ العمل العام 1984. لكنه لم يعمل طويلًا منفردًا، فقد اندمج العام 1985 مع الشركة الأم.
لقد كان بيع «مصانع الإسمنت الأردنية» باكورة صفقات التخاصية، التي توالت منذ أواخر التسعينيات. وهو ما مهّد الطريق للافارج، كي تستحوذ على ما نسبته 50.3 تقريبًا من حصص «الإسمنت»، وتسيطر بالتالي على إدارتها. انضمت «الإسمنت» بذلك إلى قائمة شركات لافارج؛ الشركة التي تأسست العام 1883 في فرنسا، ثم انطلقت تتوسع خارجها، بشكل أساسي من خلال الاستحواذ على الشركات المحلية القائمة في بلدانها، حتى أصبحت إحدى شركات الإسمنت العملاقة في العالم. ثم أصبحت الأكبر العام 2015، عندما اندمجت مع عملاق إسمنت آخر، هو هولسيم السويسرية. ولديها الآن منشآت في 78 بلدًا، وتتوزع نشاطاتها على أمريكا الشمالية، وآسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية وشرق أوروبا. ويتركز القسم الأكبر من نشاطاتها في الدول النامية.
قبل دخول لافارج العام 1998 شريكًا استراتيجيًا، كانت ملكية «الإسمنت» تتوزع وفق الآتي: الحكومة الأردنية: 49.5%، الضمان الاجتماعي: 6.3%، مستثمرون أجانب: 3.8%، مستثمرون عرب: 3.6%، والنسبة الباقية وهي 37.8% كانت متداولة في بورصة عمان. اشترت لافارج 33% من حصة الحكومة العام 1998. بما قيمته 72.3 مليون دينار. ثم رفعت نصيبها لاحقًا إلى 50.3%.[10]
حاليًا، فإن ملكية الشركة إضافة إلى لافارج، تتوزع على مؤسسة الضمان الاجتماعي، التي تملك 22% تقريبًا، والمستثمر المغربي ميلود شعيبي، بـ10.3%. في حين يتداول الـ17.4% الباقية من الأسهم صغار المساهمين في بورصة عمان.[11]
إلى الآن، لا أحد يعرف لماذا لافارج بالتحديد التي فازت بصفقة شركة الإسمنت الأردنية، ولا حتى رئيس الوزراء السابق عمر الرزاز، الذي أشرف على عمل لجنة «تقييم أثر التخاصية» التي تشكّلت بتوجيه ملكي لمراجعة سياسات وعمليات الخصخصة، وأصدرت العام 2014 تقريرها الذي ضمّ خلاصة هذه التحقيقات. إذ يذكر التقرير أن المؤسسة الأردنية للاستثمار،[12] الذراع الاستثماري للحكومة آنذاك، ومالكة حصصها في «الإسمنت» لم تطرح عطاءً لبيع «الإسمنت»، بل لجأت إلى ما يسمى بـ«استدراج عروض»، فراسلت بشكل مباشر، وبمساعدة من مستشار مالي عُين بالتعاون مع البنك الدولي، 20 شركة عالمية وعرضت عليها شراء حصتها من الشركة، ثم وقع الاختيار على لافارج.[13]
الرزاز ألقى محاضرة في منتدى الفحيص الثقافي بعد أشهر قليلة من صدور التقرير، وقال للحضور إن اللجنة «لم تجد أي وثيقة توضح كيفية الوصول لاختيار لافارج لكي تكون الشريك الاستراتيجي».
لقد أحيط بيع «الإسمنت» بالكثير من اللغط، كان منه أن الصفقة التي أبرمت في تشرين الأول 1998، تمّت قبل صدور قانون التخاصية نفسه العام 2000.[14] فرغم أن الحكومة كانت صاحبة الولاية في قرارات الخصخصة قبل عام 2000، إلا أن هذه الولاية كانت مقيدة بالمادة 117 من الدستور، التي تمنع منح حقوق امتياز لاستثمار المعادن والمناجم والمرافق العامة، إلا بقانون يصدق عليها. لذا، شابت الصفقة شبهة مخالفة دستورية قال تقرير «التخاصية» إن المجلس العالي لتفسير الدستور خرّجها[15] عندما حسم العام 2012 بأن دخول شريك استراتيجي في الشركات صاحبة الامتياز لا يغير من شخصيتها المعنوية، ولا يعد بالتالي منحًا لامتياز جديد.[16]
لكن تقرير «التخاصية» يشير مع ذلك إلى مخالفات لم يكن لها تخريج، منها أن الصفقة تمّت بمذكّرة تفاهم وصفها بأنها «لا ترقى لأن تكون اتفاقية نقل ملكية أسهم وفق الممارسات المتبعة في هذا المجال»، الأمر الذي يؤكده المحامي المتخصص في قانون الشركات، والقانون التجاري، عاكف الداوود، والذي يقول إن البيع بموجب مذكرة تفاهم لا اتفاقية، ومن دون طرح عطاء، يشكّل خروجًا عن أبسط الأبجديات التي تنظم إجراءات هذا النوع من الصفقات، ليس في ما يتعلق بالشركات المملوكة للحكومة وحسب، بل في الشركات المساهمة العامة بشكل عام.
فطرح عطاء، يقول الداوود، هو إجراء يضمن الشفافية التي تضمن بدورها حقوق المساهمين. أمّا بالنسبة لمذكرة التفاهم، فيشرح أن مذكرات التفاهم تبرم في العادة بوصفها اتفاقات أولية، تنظم التواصل بين الأطراف التي تنوي التعامل معًا، وتتميز نصوصها بالعمومية، وهي غير ملزمة، ولا تتضمن شروطًا جزائية. على عكس الاتفاقيات التي تكون نصوصها تفصيلية، دقيقة وصارمة، ويترتب علي الإخلال بها غرامات مثبتة ضمن بنودها.
في سياق المخالفات أيضًا، يلفت تقرير المدقق المالي الملحق بتقرير «التخاصية» إلى العديد من المخالفات الفنية المتعلقة بآلية تقدير قيمة الشركة، والتي أدت إلى خفض قيمتها.
الدونم بثلاثة دنانير
تظل المخالفة الأعظم التي أشار إليها تقرير «التخاصية» هي عدم احتساب قيمة الأراضي ضمن الصفقة. أي أنه عندما جرى تقدير قيمة موجودات الشركة، لاحتسابها ضمن ثمن البيع، بقيت الأراضي خارج الحسبة، وهذا يعني أنها عمليًا قدّمت للافارج مجانًا. علمًا بأن الشركة نفسها رصدت، العام 1999، قيمة هذه الأراضي بـ4 ملايين، و267 ألف دينار تقريبًا.[17]
حاليًا، تملك الشركة ما مساحته 1900 دونم تقريبًا، تبلغ مساحة ما استملكته الحكومة منها 1527 دونمًا.[18] وما تبقى اشترته لاحقًا من أهالي البلدة من مجاوري المصنع، الذين باعوا أراضيهم هربًا من الضجيج والتلوث والانبعاثات الناجمة عن المصنع، حسبما يقول سليمان صويص، أحد أبناء المدينة.
صويص، الذي يحمل درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون في فرنسا، وهو أحد مؤسسي اللجنة الشعبية للدفاع عن أراضي الفحيص العام 2016، يقول إن هذه الأراضي كانت مصدر معيشة الأهالي، لهذا لم يتم التخلي عنها طواعية، خصوصًا وأن التعويض، الذي كان في المتوسط ثلاثة دنانير للدونم الواحد، ولم يتجاوز الخمسة دنانير، كان بخسًا، حتى بمعايير تلك الأيام. لقد رضخ قسم كبير من الناس بسبب رهبتهم من أوامر الدفاع. ومن قاوم، كان بحسب ما نقل عن الأجداد، يهدد بالسجن.
الآن، باتت هذه الأراضي، التي تتوسطها منشآت المصنع الضخمة، عبارة عن حفرة هائلة جرداء، تتوزع فيها مواضع القََطْع في الجبال على شكل مصاطب صخرية بارتفاعات شاهقة. ويحيط بها سياج حديدي عليه لافتة تحذيرية، مرسوم عليها جمجمة وكلمة «تفجير». وفي حين كان المصنع في زمن ماض بعيد نسبيًا عن العمران، فإن البوابة التي تقود إلى منشآته، صارت الآن في قلب المركز التجاري للمدينة.
لم يكن غنى الفحيص بالحجر الجيري، الذي يشكل العمود الفقري لصناعة الإسمنت، هو السبب الوحيد لاختيارها كي تكون مركز الإنتاج والتعدين. فهذا الحجر، يقول نقيب الجيولوجيين المهندس صخر النسور، متوفر في معظم مناطق المملكة. وهو موجود في الأراضي الجرداء كما في الأراضي الزراعية. لقد كان من بين العوامل الأساسية لاختيار الفحيص، هو حسابات الكلفة. فالبلدة التي لم تكن آنذاك مزدهرة عمرانيًا كما هي الحال اليوم، كانت قريبة من السوق الأساسي في العاصمة. وكانت أيضًا قريبة من المناطق التي تجلب منها باقي المواد الأولية التي تدخل في صناعة الإسمنت، مثل الجبصين الذي كان يجلب من سيل الزرقاء التابع للصبيحي في السلط، وكان هناك الرمل والكاولين الذي كان يجلب من منطقة وادي الأزرق، قرب الفحيص وماحص.
في الطفيلة، كان هناك سيناريو مشابه، إذ استُملكت من أجل مصنع الجنوب أيضًا أخصب أراضي مرتفعات الرشادية، كما يقول خليل الغزيوات (55 سنة)، الذي عمل في كسارات الشركة 22 سنة، تدرج فيها من مشغّل إلى مراقب، وأخيرًا رئيس قسم، حتى تقاعد العام 2019.
يشير الغزيوات، الذي يعرف طبوغرافية المنطقة جيدًا بحكم عمله، إلى أن في المنطقة مساحات شاسعة من الأراضي الجرداء الغنية بكميات هائلة من الحجر الجيري، والتي كان يمكن استخدامها في التعدين، بدلًا من مرتفعات الرشادية التي كانت مصدر معيشة أهل المنطقة في الرشادية والقادسية وبصيرا. لكن حسابات تكاليف نقل المواد الخام إلى المصنع، ثم نقل الإسمنت بعد تصنيعه إلى السوق، هي ما حكم، كما يقول، اختيار الموقع بالأساس، لا الآثار بعيدة الأمد على البيئة ونمط حياة الناس.
يشير الغزيوات إلى الأراضي المحيطة بمصنع الرشادية، الذي لا يبعد عن منزله أكثر من كيلومتر ونصف، ويقول إن القمح كان فيها «متر ونص»، وكان وسيلة المقايضة لأهل المنطقة عندما ينزلون إلى السوق. وهو نمط عيش كان قائمًا عندما تأسس المصنع في المنطقة.
الآن، فإن من يزور مناطق التعدين، ومنها على سبيل المثال محجر لَحْظَة، الواقع على حدود محمية ضانا، والذي انتهى التعدين فيه، بحسب الغزيوات، العام 2007، يجد أنه على بعد أمتار قليلة من السياج الحديدي للمحمية، هناك حفرة شاسعة، بجدران شاهقة الارتفاع، كانت في مضى جبلًا يشكل امتدادًا طبيعيًا لضانا. وقد وصل الحفر في المنطقة المهملة، إلى «الثحان»، بحسب تعبير أهل البلدة، أي الطبقة الصخرية الداخلية، ما يعني أنها دمرت زراعيًا إلى الأبد.
ورغم أن الآثار المدمرة للتعدين ماثلة للعيان، فقد أشارت بعض التقارير السنوية للشركة إلى أنها زرعت الأشجار في كل من الفحيص والرشادية، ضمن إنجازها في تأهيل المحاجر.[19]
كما في الفحيص، كان هناك رهبة لأوامر الدفاع الملزمة، والتي يقول الغزيوات إن الناس لم يملكوا حق الاعتراض عليها. كان يمكن فقط الاعتراض على السعر، الذي كان يرفع قليلًا لمن ساعده وضعه المادي على توكيل محامٍ يتولى القضية، ولم يكن هؤلاء كثرة. لكنه يلفت إلى عامل آخر لا يقل أهمية، هو أن رضوخ الناس، كان سببه أيضًا حقيقة أن الترويج لإقامة المصنع كان على أساس أنه سيوفر وظائف لأبناء المنطقة.
وهذا حدث فعلًا. فقد وظف المصنعان في الفحيص والرشادية الآلاف من أبناء المنطقتين، لكن عندما جاءت الخصخصة، كان أول ما فعلته هو أنها أطاحت بهم.
«لا نية» للاستغناء عن أي موظف
هذا هو مضمون كتاب رئيس مجلس إدارة «الإسمنت»، الدكتور طالب الرفاعي، الذي وجهه إلى عمال الشركة بعد أسابيع قليلة من توقيع مذكرة البيع، يطمئنهم فيه بأنه «لا نية لإدارة الشركة اللجوء إلى أي تقليص لأعداد العاملين لديها بأي صورة من الصور». وما يزال أحمد المسيعديين، العامل السابق في الشركة، وعضو لجنة العمال النقابية منذ العام 2010 إلى العام 2019، عندما تم تسريحه، يحتفظ بهذا الكتاب ضمن أرشيف أوراق عمله النقابي.
يحمل المسيعديين، دبلوم هندسة ميكانيكية، تعين في الشركة العام 1989، وقد عاصر خلال العقد الأول من خدمته الشركة عندما كانت وطنية، ثم عمل عشرين سنة بعد دخول المستثمر الأجنبي. وهو يقر بأنه كان هناك عمالة زائدة في المصنعين، لكنه يلفت إلى أن مشروعًا حكوميًا كهذا، عندما كانت ملكيته وطنية، لم يكن محكومًا بحسابات الربح والخسارة فقط، بل كان يلعب دورًا وطنيًا في منطقة فقيرة، يعاني أهلها من التهميش الاقتصادي، وضعف فرص التأهيل والتنمية. لقد كانت الوظائف التي يوفرها المصنع تعمل صمام أمان اجتماعي واقتصادي في المنطقة. لهذا، عندما أعلن عن الخصخصة، ثارت مباشرة مخاوف العمال من أن المستثمر الأجنبي لن يكون لديه هذه الهواجس، وستكون سياسته محكومة حصرًا بالبعد الاستثماري، كما يقول المسيعديين.
لم يفهم العمال وقتها لماذا جرت خصخصة هذه الشركة بالذات، فهي لم تكن خاسرة. وفي العام 1997، قبل الخصخصة بسنة، حققت ربحًا مقداره 12 مليون دينار تقريبًا.[20] وقد أشار تقرير التخاصية نفسه إلى أنه رغم تضخم العمالة في الشركة، وباقي المشاكل في التسويق والإنتاج، إلا أنها كانت «قادرة على تغطية تكاليفها وتحقيق هامش ربح معقول».
قبل كتاب الرفاعي، كانت لافارج نفسها قد ساقت تطمينات مشابهة لمؤسسة الاستثمار الأردنية قبيل توقيع مذكرة البيع، وذلك في كتاب[21] تعهّدت فيه بالإبقاء على موظفي الشركة، وإنه في حالة وجود حاجة لتقليص العدد، فإن هذا سيكون على أسس طوعية. ومن ذلك مثلًا، كما ذكر الكتاب، خروج من بلغوا سن التقاعد المبكر.
في شباط من العام 2000، وضعت الشركة ما أسمته نظام التسريح بحوافز، الذي تضمن منح العمال مزايا مقابل تقديم استقالاتهم، ضمن اتفاقيات عمالية بين الشركة ونقابة العاملين في البناء. عقدت هذه الاتفاقيات بالفعل ما بين العامين 2000، و2012، وخفضت عدد العاملين من 2650 عام الخصخصة، إلى 606 نهاية العام 2012.[22] والقسم الأكبر من هؤلاء، خرج ما بين العامين 2000 و2002، حيث هبط عدد العمال من 2506 إلى 1427.[23]
يشرح معمر عكروش الذي عمل في الشركة فني كهرباء في مصنع الفحيص من العام 1993 إلى نهاية العام 2019، وكان عضوًا في لجنة العمال النقابية، ابتداء من العام 2010، أن مهام العمال المغادرين كانت توزع على من تبقى في المصنع. إذ تم تدريب العمال في قطاعات معينة على مهارات إضافية، وتم تكليفهم بمهام العمال المغادرين، مقابل زيادات، يقول إنها كانت وقتها 40 او 50 دينارًا لكل موظف. ويتذكر أنه رغم الزيادات التي حصّلها جزءٌ ممن بقوا، إلا أن دخول لافارج أحدث فرقًا كبيرًا في الجو النفسي داخل الشركة، لقد انهار الأحساس السابق بالأمان الوظيفي لدى العمال. وصار العامل في حالة توجس دائم كما يقول. «أميت ممكن تنزل ورقته؟ أميت ممكن يروحوه؟».
«الورقة» التي يشير إليها عكروش هي «الإشعار» الذي بدأت الشركة بإرساله إلى من ترغب في تسريحهم من العمال، والذي وصل عادل حامد (60 سنة)، ابن بلدة القادسية، وكان أحد الخارجين في الدفعة الأولى العام 2000.
عيّن عادل في المصنع العام 1983، فني لحام وتصنيع قطع غيار. وفي العام 2000 استلم مع مجموعة من العمال إشعارات من الشركة تبلغهم فيها أن بإمكانهم الاستقالة مقابل حوافز مالية تفاوتت وقتها بين متقاعد وآخر بحسب مدة الخدمة، وقيمة الراتب، والفئة العمرية التي ينتمي إليها. بالنسبة إليه، يقول إن مكافأته كانت 26 ألف دينار.
عادل الذي كان وقتها في الأربعين من عمره، وأبًا آنذاك لسبعة، أكبرهم في الرابعة عشرة، والصغير في عمر السنة، يؤكد أنه ما كان يريد ترك العمل. صحيحٌ أن المبلغ المطروح كان كبيرًا بمعايير تلك الأيام. لكن كان هناك خمس سنوات تفصله عن سن التقاعد المبكر الذي يؤهله لاستلام راتب، كان عليه خلالها مواصلة دفع اشتراكاته للضمان. وكان في الوقت نفسه، ما يزال يسدد أقساط قرض سكني أخذه من الشركة قبل الخصخصة.
كان عليه وقتها أن يبلغ الشركة بقراره خلال شهر، وفي حال الموافقة، لم يكن يحق له التراجع.[24] يقول عادل إنه لم يكن يريد الموافقة، لكن بمجرد توزيع هذه الإشعارات على العمال، انتشرت في المصنع أقاويل، كان مصدرها، بحسبه، بعض المسؤولين في الشركة، مفادها أن «اللي بتجيه ورقة وما بطلع، يمكن يطلعوه ببلاش». وهكذا تحت وطأة الخوف خرج. والآن هو يتلقى راتبًا تقاعديًا مقداره 377 دينارًا، بعدما اضطر لدفع ما تبقى من اقتطاعاته ليصل سن التقاعد. ولم يستطع طوال السنوات الماضية العثور على عمل بديل. إذ لا مشاريع تنموية توفر فرص عمل لمن مثله.
يعلق عكروش الذي كان شاهدًا على حالات المئات ممن دفعوا إلى التقاعد المبكر، بالقول إن هؤلاء عمليًا تقاعدوا في منتصف حياتهم العملية، وهذا ضرب المسيرة المهنية لكثيرين، لم يجدوا بعد الخروج من الشركة وظائف تتناسب مع خبراتهم، في سوق عمل هو أصلًا شبه مغلق.
احتكار السوق رغم تحريره
ابتداء من العام 2001 بدأت أرباح الشركة بالتصاعد، ثم بدأت تأخذ شكل القفزات.[25] وهذه الارتفاعات الدراماتيكية في الأرباح، لم يقابلها زيادة تتناسب معها في الإنتاج. لقد حققت الشركة مثلًا العام 2005 ربحًا زيادة عن العام 2003 مقداره 40 مليون و200 ألف دينار، في حين أن الفرق بين إنتاج العامين كان نصف طن فقط.[26]
لقد كان تقليص أعداد العمال مساهمًا بسيطًا في رفع أرباح الشركة، لكن العامل الأساس كان في الحقيقة أن الشركة، ظلت محتكرة السوق قرابة الثماني سنوات بعد انتهاء عقد امتياز الشركة الأم العام 2001. واستغلت الشركة هذا الاحتكار، كما يقول مستثمرون لرفع أسعار الإسمنت إلى مستويات قياسية، لم تنخفض إلا العام 2009، بعد دخول منتجين جدد.
في كتاب لافارج إلى مؤسسة الاستثمار الأردنية السابق الذكر، تشير الشركة إلى أن من فوائد الشراكة معها، إضافة إلى مساهمتها في توفير إسمنت عالي الجودة «ومنخفض الكلفة»، أنها ستساعد شركة مصانع الإسمنت الأردنية على مواكبة «العولمة»، والتي من سماتها، كما ذكرت الوثيقة تحرير السلع من الجمارك. لكن لاحقًا، عندما صيغت مذكرة التفاهم التي تم بموجبها بيع «الإسمنت»، كان من بين شروط لافارج في مذكرة البيع، إضافة إلى شرط تحرير سوق الإسمنت، بعد انتهاء اتفاقية الامتياز، وكفّ يد الحكومة عن تحديد سعره، والتوقف عن دعم كلفة نقله إلى المشترين، أن تفرض الحكومة 30% رسمًا جمركيًا على الإسمنت المستورد.
لقد انتهت اتفاقية الامتياز العام 2001، لكن الدخول الفعلي لمنتجين جدد إلى السوق جاء تباعًا ابتداءً من العام 2009، رغم أن تأسيس أولهم تم العام 2006. وحاليًا، هناك إلى جانب لافارج أربعة منتجين للإسمنت؛ سمنترا (الراجحي سابقًا)، والشمالية، والقطرانة، والمناصير. وجميعها باستثناء المناصير استثمارات خليجية.
خلال هذه السنوات الثماني، اتُهمت الحكومة بعرقلة دخول منتجين جدد من أجل تكريس احتكار لافارج. وهو اتهام ينفيه مدير مديرية المنافسة في وزارة الصناعة والتجارة، المهندس جميل زايد، الذي يقول إن فترة الفراغ بين انتهاء الامتياز ودخول منتجين جدد كان سببه وجود إجراءات للترخيص والإنشاء تسبق المباشرة في الإنتاج، وهذه تحتاج إلى زمن. الأمر الذي يؤكده مدير شركة الشمالية للإسمنت، ورئيس جمعية منتجي الإسمنت، سليمان ملحس، الذي قال إن إنشاء استثمار مثل مصنع إسمنت يكلف مئات الملايين، يجب بالضرورة أن تسبقه فترة كافية لدراسة السوق، والتثبت من جدوى الاستثمار. ويجب أن تسبقه أيضًا الدراسات الجيولوجية اللازمة للأراضي المقرر استخدامها في التعدين، إضافة إلى الفترة التي تستغرقها عملية بناء المصنع نفسه.
سواء كان احتكارها السوق نتيجة تأخر طبيعي لدخول آخرين، أو أن هذا تم بمساندة حكومية، فقد كانت «لافارج الأردن» بعيدة عن العهد الذي قطعته بتوفير إسمنت «منخفض الكلفة»، وتصرفت في السوق، كما يقول رئيس جمعية المستثمرين في قطاع الإسكان المهندس زهير العمري، كأي محتكر. وبدأت بمجرد دخولها السوق، سلسلة ارتفاعات كبيرة في الأسعار؛ وهي ارتفاعات يقول العمري، الذي يعمل في القطاع من 30 عامًا، إنها لم تكن مبررة، حتى مع الأخذ في الاعتبار ارتفاع كلفة الوقود في بعض الأوقات.
كلام العمري أكّده تقرير «التخاصية» الذي أشار إلى أن النمو المضطرد لأرباح الشركة يعود إلى «الوضع الاحتكاري الذي كانت تتمتع به الشركة، على الرغم من انتهاء عقد الامتياز». وذكر التقرير أن ارتفاع أسعار الإسمنت في السنوات الخمس الأولى، كانت أعلى بكثير من النمو في تكاليف الإنتاج في الفترة ذاتها. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر الطن من 36 دينارًا تقريبًا العام 2000، إلى 51 دينارًا تقريبًا العام 2005، بنسبة ارتفاع بلغت 42%، في حين أن تكاليف الإنتاج زادت 3% فقط.[27]
لكن العمري يؤكد أن الأسعار واصلت ارتفاعاتها غير المبررة بعد هذا التاريخ. ففي العامين 2007 و2008 مثلًا، وصل سعر الطن في الأردن إلى 100 و110 دينارًا للطن، في وقت ما كان يجوز أن يتجاوز السعر العادل الـ75 دينارًا للطن، مع الأخذ في الاعتبار ارتفاع أسعار الوقود وقتها.
يشير تقرير «التخاصية» هنا إلى إجراءات حكومية قال إنها «جاءت متأخرة» للتعامل مع هذا الاحتكار. منها تخفيض الجمرك على الإسمنت المستورد من 30% إلى 25% ثم إلى 10% عام 2005،[28] والتوصل عام 2009 إلى اتفاق مع الشركة على ربط سعر الإسمنت بكلفة الوقود.[29]
ورغم أن الاستيراد كان أقل كلفة من الإسمنت المحلي، فقد كانت إجراءاته، حسبما يقول العمري، تتم بطريقة جعلت المستثمرين يعزفون عنه، إذا كانت تتم المماطلة في تخليصه قرابة الشهر، يخزن فيها، ضمن شروط لا تكون دائمًا مناسبة، ما قد يؤدي إلى تلفه. يضاف إلى ذلك تكبد المستوردين كلف أجور دفع الأرضيات. وهذا، كما يقول، جعل المستثمرين عمليًا أسرى الإسمنت المحلي رغم ارتفاع سعره.
هنا، يعلق زايد، مدير مديرية المنافسة، بأن موضوع أسعار الإسمنت كان حاضرًا بشكل دائم على طاولة المديرية في وزارة الصناعة والتجارة منذ تأسيسها عام 2003، حيث منحت صلاحيات التدخل لمنع الممارسات الاحتكارية. ويقول إنه مع كل ارتفاع في السعر كانت المديرية تتابع وتحاول أن تعرف السبب. وكانت خلال مراقبتها هذه تأخذ في الاعتبار كلف الإنتاج العالية. لكن في النهاية، يقول زايد إن أسعار الشركة «المحتكرة» هي دائمًا أعلى مما لو كان هناك منافسون، وهذا في رأيه هو «الإشي الطبيعي في أي اقتصاد».
لقد كانت هذه مفارقة كبيرة؛ ففي وقت يلفت تقرير «التخاصية» إلى أن الخصخصة جاءت للقضاء على الممارسات الاحتكارية للشركات التي كانت الحكومة تملك نسبة كبيرة منها،[30] فإن ما حدث بعد خصخصة «الإسمنت» هو أنه سُمح لها بالتصرف كمحتكر، لكن من دون ضوابط التدخل الحكومي في تحديد الأسعار، ودعم كلفة النقل.
وقود رخيص مدمر للبيئة
انتهى الاحتكار أخيرًا بنزول أول دفعة إسمنت إلى السوق العام 2009 من مصنع الراجحي (سمنترا لاحقًا). ويلاحظ من البيانات المالية للشركة الانخفاض الدراماتيكي للأرباح، التي ما لبثت أن تحولت ابتداء من العام 2011 إلى خسائر.
في تصريحاتها الصحفية، كانت الشركة تقول إن أحد أسباب خسائرها، إضافة إلى انخفاض المبيعات، هو عجزها عن منافسة الشركات الأخرى التي تستخدم الفحم الحجري، وهو وقود قليل الكلفة مقارنة بالوقود الثقيل، والذي اضطرت هي إلى مواصلة استخدامه بسبب مقاومة الأهالي في كل من الفحيص والرشادية بسبب أضرار الفحم الحجري البيئية والصحية على السكان. هذا قبل أن تنجح العام 2013 في استخدامه في الرشادية. لكنها فشلت في الفحيص، ما أدى إلى إغلاقها لخطوط الإنتاج في مصنعها هناك العام 2013.
لقد بدأت الشركة محاولاتها استخدام وقود قليل الكلفة حتى قبل دخول منافسين بسنوات. صحيح أن أسعار الوقود شهدت ارتفاعًا بعد العام 2006، لكن حقها في استخدام الفحم البترولي[31] كان منصوصًا عليه في مذكرة البيع. وأقامت له بالفعل منشأة خاصة في مصنع الفحيص. لكن وزارة البيئة رفضت العام 2005 منحها الموافقة، لأنها «وجدت أن الوضع البيئي القائم في هذه المناطق لا يتحمل المزيد من الملوثات».
ثم قررت الشركة استخدام الفحم الحجري. ويكشف الدكتور عبد الإله الخطيب، رئيس مجلس الإدارة آنذاك، في الكلمة الافتتاحية للتقرير السنوي الشركة لعام 2011، أنها حصلت ذلك العام على موافقة وزارة البيئة على استخدام الفحم الحجري. لكنها رغم ذلك، يقول الخطيب، لم تتمكن من ذلك «لأسباب لا تستند إلى أسس فنية أو علمية».[32]
كلام الخطيب عن انعدام الأسس الفنية والعلمية، لم يكن دقيقًا، فإلى جانب عدة دراسات عالمية أشارت لذلك، أعد الدكتور حازم النمري ورقة علمية عن خطورة استخدام الفحم الحجري كوقود، رفعت آنذاك إلى مجلس النواب في محاولة لمنع الشركة من استخدامه. وأثبتت الورقة أن التعامل مع الفحم الحجري يتسم بالخطورة الشديدة في كل مراحل معالجته، ابتداءً من استخراجه ومرورًا بنقله وتخزينه وطحنه، وأخيرًا حرقه، نتيجة الانبعاثات والمواد المشعة التي يطلقها. وتقول الدراسة إن غبار الفحم من الدقة بحيث أن الأغشية الوقائية في أنف الإنسان لا تلتقطه، لهذا يدخل ليستقر على جدار الرئتين، وفي مسامات التربة، وعلى أوراق النباتات، وأسطح المنازل، وإنه عند نزول المطر، يتسرب هذا الغبار إلى مصادر المياه الطبيعية، والتي تكون في هذه الحالة غير قابلة للمعالجة. وهذا هو السبب، تقول الدراسة، السبب في أن أسعار الفحم الحجري تواصل الانخفاض، رغم ارتفاع أسعار أنواع الوقود الأخرى.
بحسب ملحس، مدير شركة الشمالية ورئيس جمعية منتجي الإسمنت، فجميع مصانع الإسمنت في الأردن بما فيها مصنعا لافارج تستخدم الآن النوعين، البترولي والحجري. لكنه يشير إلى أن هذه المصانع «تستثمر الملايين» في فلاتر لضبط الانبعاثات.
لهذا كله، يقول صويص إن أهالي الفحيص قاوموا استخدام الفحم الحجري في مدينتهم بقوة، حتى بعد نيل الشركة موافقة وزارة البيئة. وخرجوا وقتها لمنع الشاحنات التي تحمله من الدخول إلى المصنع، رغم التهديدات المستمرة من الشركة بأن مواصلة مقاومة استخدام الفحم الحجري ستؤدي إلى إغلاق المصنع. وهذا ما حدث فعلًا، إذ أُغلقت مطلع العام 2013، خطوط الإنتاج في الفحيص، وأبقي على خط تعبئة الإسمنت الذي كان يصنّع في الرشادية. وهذا أغلق هو أيضًا منتصف العام 2016.
ووفق العديد من التصريحات الإعلامية للشركة، فإنها لم تسرّح عمال المصنع بعد إغلاقه النهائي العام 2016، وظلت تدفع رواتبهم من دون أن يقوموا بأي عمل. حبر تواصلت مع الشركة لمعرفة عدد هؤلاء العمال، وملابسات دفع رواتبهم من دون عمل، لكنها لم تجب على هذا السؤال، كما لم تجب على أي من أسئلة حبر الأخرى التي أرسلت إليها مكتوبة قبل حوالي شهر من تاريخ نشر هذا التقرير.
لقد كان إغلاق الفحيص، يقول الغزيوات، تحويلًا لخطة الشركة الأساسية، بعد دخول منتجين جدد، وانخفاض إنتاجها، وهي إغلاق مصنع الرشادية، والتركيز على مصنع الفحيص، الأقرب إلى السوق، وأقل كلفة نقل. وهي خطة يقول إن عمال الرشادية كانوا مدركين لها، إذ مهدت الشركة لذلك بإغلاق أحد خطيّ إنتاج مصنع الرشادية منتصف العام 2010.
لقد قاومت الرشادية أيضًا استخدام الفحم الحجري. يتذكر عماد،[33] العامل السابق في الشركة، أن الأهالي اعتصموا أمام بوابات المصنع ضد استخدام الفحم الحجري، وحاولوا منع الشاحنات من الدخول، عندما تدخلت قوات الدرك، وطاردت المعتصمين بقنابل الغاز المسيل للدموع.
نجاح الشركة العام 2013 في استخدام الفحم الحجري في الرشادية، يقول عماد، كان سببه أن الشركة واصلت التهديد بأن عدم استخدام الفحم الحجري في مصنع الرشادية سيجعله يلقى مصير مصنع الفحيص. وهذا خلق شقاقًا في المجتمع المحلي في بلدات القادسية وبصيرا والرشادية، التي كان في كل واحدة منها عائلات تعتاش على وظائف أبنائها في المصنع. وهي عائلات كانت فزعة من فقدان مورد رزقها. ووقتها، يقول عماد إن الإدارة أبلغتهم صراحة أنها بحاجة لدعمهم في هذه المسألة.
وهكذا، فإن قسم الأهالي المعتمد في معيشته على المصنع، يقول عماد، أقنع القسم الآخر بالرضوخ. بل ذهبوا أبعد من ذلك، فعندما بدأ استخدام الفحم، وتلقت الشركة بعدها بوقت قصير إنذارًا من وزارة البيئة بسبب انتهاكها شروط التخزين والمناولة، وطُلب منها التوقف عن استخدام الفحم لحين ظهور نتيجة دراسة ستقوم بها لجنة فنية مشكلة من قبل الوزارة، يقول عماد إن العمال ذهبوا حينها إلى وزارة البيئة، واعتصموا أمامها للمطالبة بالسماح للشركة باستخدام الفحم. «شو بدنا نسوّي؟ الموظف اللي بعيد عشر سنين عن الضمان، بقولك بوكل فحم، بوكل هوا. المهم يشتغل المصنع، وألقى راتب آخر الشهر».
الأضرار البيئية الناجمة عن نشاطات مصنعي الشركة دفعت كثيرين في الفحيص والرشادية إلى رفع قضايا تعويضات، تقول الشركة إنها كانت هي أيضًا أحد عوامل خسارتها، إذ تقول إنها دفعت تعويضات بقيمة 45 مليون دينار ما بين العامين 2007 و2019.
أنطون سميرات (61 سنة) من الفحيص، كان أحد من رفعوا قضية على الشركة. أصبح سميرات أحد جيران مصنع الفحيص منذ العام 1994، عندما أقام منزله على قطعة مساحتها أربعة دونمات ونصف، ورثها عن والده، وكان من حظه أن حدودها تنتهي على بعد مئة متر من السياج الحديدي المحيط بحرم المصنع. وكان مضطرًا لهذه الجيرة، فهو لا يملك أرضًا غيرها، ولم يكن يستطيع بيعها وشراء غيرها في مكان أبعد، بسبب أن الأراضي القريبة من المصنع فقدت القسم الأعظم من قيمتها، هذا في حال وجدت أصلا من يشتريها.
سميرات الذي عمل 30 سنة مدير علاقات عامة في مطار الملكة علياء، وتقاعد العام 2008، ولد بعد خمس سنوات من بدء المصنع إنتاجه، لهذا كبر والتلوث جزء من حياته. وما زال يتذكر حين كان يذهب في السبعينيات مع زملائه إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، الرائحة الكريهة التي كانت تملأ الجو، وكيف كانت عيونهم تصاب بالحرقة نتيجة الغبار الأسود، الذي كان يمكن رؤيته في الهواء بالعين المجردة.
ومع ذلك، ففي تلك السنوات لم تكن نشاطات الشركة التعدينية قد وصلت إلى جميع الأراضي المحيطة بالمصنع، فقد كان فيها وقتها بساتين دراق ومشمش وتين، يعرجون عليها في طريق العودة من المدرسة، وفيها عين مياه كانت وقتها رائقة، قبل أن يلوثها استخدام مياهها لتبريد الأفران. هذه الأراضي هي نفسها التي يطل عليها سطح منزله، والتي أوصلت التفجيرات فيها الحفر إلى قاع الصخر؛ تفجيرات يقول سميرات إنها كانت تجعل سرير النائم «يهتز تحته كإنه هزة أرضية».
إلى ما قبل اغلاق المصنع، يقول سميرات إنه كان جزءًا من روتين العائلة الاستيقاظ والبدء بفرك الغبار الأسود بملح الليمون عن زجاج النوافذ والأرضيات والسيارات، وهو غبار «بس يمسك بصير زي الباطون». وإلى الآن، ما زال بالإمكان رؤية طبقة من هذا الإسمنت تغطي أسطح خزانات المياه على سطح منزله.
لاحقًا، يقول سميرات، جرى تحسين وضع الفلاتر، وخفّ الغبار الأسود في الجو، لكنه لم ينته تمامًا. فقد بقي بحسبه غبار شديد النعومة، كما بقيت أيضًا الرائحة في الجو. الوضع لم يتغير فعليًا للأهالي، كما يؤكد، إلا عندما أغلق المصنع تمامًا. وقتها يقول إن نوعية الهواء تغيرت، وصار بإمكانهم كعائلة فتح الشبابيك براحة، والجلوس في الخارج.
رفع سميرات على الشركة قضية تعويض بسبب الأضرار التي وقعت عليه بسبب نشاطات المصنع، وكان على رأسها تخفيض قيمة الأرض. وحكم له بتعويض قيمته تسعة آلاف دينار، دفع للمحامي منها ثلاث آلاف دينار.
بقايا «الفريسة»
يلفت رئيس جمعية الحماية من التلوث البيئي في الفحيص، إلياس سمعان، إلى أن الضرر البيئي الذي أحدثته نشاطات الشركة في المنطقة، هو أوسع بكثير من ذلك الذي وقع على السكان، ودفعت الشركة لقسم منهم تعويضات عنه. فالأراضي التي أقيم عليها المصنع، والأراضي التي تم تعدينها هي أراض عمليًا مدمرة، لكن لا أحد إلى الآن يعرف وضعها بشكل دقيق، لأن الشركة لم تجرِ لها عمليات إعادة تأهيل، ولم تجر لها أي دراسات تقييم أثر بيئي. «هذه أراضي تم استخدام عشرات الآلاف من المواد المتفجرة فيها، وتعتبر أراضي متحركة في الباطن. لافارج رفضت إجراء أي دراسات جيوفيزيائية أو دراسات هندسية او طبوغرافية».
ورغم عدم وجود دراسات علمية، يقول سمعان إنه من السهل مع ذلك رؤية الدمار بالعين المجردة، فالأرض، كما يقول، تشبه «فريسة وحش مفترس، ترك بقاياها وراح». ومع أن جزءًا من الانتهاكات البيئية بدأ مع الشركة قبل الخصخصة، لكن هذا، كما يؤكد سمعان، لا يمنع مسؤولية الإدارة الحالية عنها، ليس فقط لأنها ورثت هذه الاستحقاقات، بل أيضًا لأنها استمرت في هذه الانتهاكات.
يؤكد رئيس بلدية الفحيص، المهندس جمال حتر، كلام سمعان، ويقول إن البلدية، وبسبب عدم وجود دراسات علمية توضح حالة الأراضي المعدّنة، استعانت مؤخرًا بصور جوية حديثة من المركز الجغرافي الملكي في محاولة لتكوين صورة ولو أولية عن وضع الأرض. وأثبتت الصور التي حللها خبراء استعانت بهم البلدية، أن هناك ضررًا هائلًا هو ناجم بالضرورة عن تعدين جائر.
وفي وقت تنص معايير التعدين على أن ارتفاع الجدران في المقلع لا يجوز أن تتعدى الـ30 مترًا،[34] يقول حتر إن الصور أثبتت أن هناك في العديد من المواضع قطوعات حادة شبه عمودية، تصل ارتفاعاتها ما بين 50-70 مترًا. وإضافة إلى ذلك، يقول إن في منطقة التعدين تجمع دائم للمياه، شكّل بركة آسنة، ونشأ نتيجة للتفجيرات، التي يرجح أنها أحدثت تصدعات في طبقات الحوض المائي.
إن الوضع الذي تركت عليه أراضي الفحيص هو «مأساة»، يقول النسور. فعدا عن التشوه البيئي، يمكن لمواقع الَقطْع العالية أن تشهد انهيارات بفعل عوامل الأمطار والثلوج، وهي تشكل خطرًا بسبب حوادث السقوط المحتملة. وهناك أيضًا التلوث بالغبار، بسبب أن الأرض التي جردت من غطائها النباتي، صارت مفتوحة للهواء على مدار السنة. استمرار هذا الوضع كل هذه السنين، يقول النسور، «يدل على غياب الجهات الرقابية»، على رأسها هيئة تنظيم الطاقة والمعادن.
وفق رئيسة قسم تقييم الأثر البيئي في مديرية التراخيص في وزارة البيئة، المهندسة جمانة تيم، فإن القانون ينص على أن إجراءات إعادة التأهيل، تبدأ من لحظة بدء عمليات التعدين وتستمر خلالها، وتستكمل بعد الانتهاء منها. إذ على الجهة المعدنة أن تقوم أولًا بأول بإجراءات تضمن تخفيف الضرر الناجم عن التعدين على البيئة والسكان. وهي إجراءات تتضمنها خطة التعدين المفترض أن تقدمها الشركات لهيئة تنظيم الطاقة والمعادن، من أجل الحصول على رخصة تعدين، تمنح بعد الحصول على موافقات عدة جهات حكومية، منها موافقة وزارة البيئة.
دور وزارة البيئة، بحسب تيم، هو دراسة الجزء الذي يخصها من خطة التعدين هذه، وهو خطة الإدارة البيئية، التي تتضمن الإجراءات سابقة الذكر، والتأكد من أنها منسجمة مع المعايير المطلوبة، خصوصًا عندما يكون المشروع مصنفا من المشاريع عالية الخطورة، كما هي الحال مع صناعة الإسمنت. هنا، تلزم المؤسسة بتقديم دراسة تقييم أثر بيئي. أما في ما يتعلق بمراقبة التزام الجهة التي قامت بالتعدين بالإجراءات التي قدمتها ضمن خطة التعدين على الأرض، فهذا من مسؤولية مفتشي «الطاقة والمعادن»، تقول تيم.
المشكلة هنا هي أنه لا دراسات تقييم أثر بيئي موجودة من الأساس لنشاطات الشركة التعدينية في الفحيص والرشادية. وسبب ذلك، كما يقول مدير مديرية التراخيص والحد من التلوث في وزارة البيئة، المهندس فواز كراسنة، أن نظام الموافقات البيئية الذي ينظم العملية السابقة، صدر العام 2005. وهذا يعني أن كل المشاريع المقامة قبل هذا التاريخ، من بينها مصنعا «لافارج الأردن»، أنشئت من دون موافقات بيئية. وبذلك، يقول كراسنة، فإن وزارة البيئة لا تستطيع التدخل في قضية الأراضي المتروكة من دون تأهيل، لأن هذا داخل في اختصاص «الطاقة والمعادن».
لكن تيم تستدرك بأن نظامًا[35] صدر في آب الماضي، وسيدخل حيز التنفيذ في 16 شباط القادم، ألزم المؤسسات المصنفة عالية ومتوسطة الخطورة، وغير الحاصلة على الموافقات البيئية بأن تقدم للوزارة دراسة «تدقيق بيئي»، وأعطاها مهلة سنة من تاريخ السريان لتفعل ذلك. في الوقت الحالي، فإن ما لدى وزارة البيئة من لافارج، تقول تيم، هو دراسة تقييم أثر بيئي، طلبتها الوزارة لجزء من مصنع الفحيص، قامت الشركة بتفكيكه. يذكر أن دراسات الأثر البيئي، بحسب الوزارة، هي وثائق سرية.
وقد أرسلت حبر إلى هيئة تنظيم الطاقة والمعادن، قبل أكثر من شهر من تاريخ نشر هذا التقرير، قائمة بأسئلة مكتوبة، تتعلق بمسؤولياتها الرقابية على قطاع التعدين، لكنها لم تجب.
ملاعب جولف وفلل ومستشفى
عدم وجود دراسات تقييم أثر بيئي، أو أي نوع من الدراسات العلمية لأراضي مصنع الفحيص بعد عقود من التعدين، يقول حتر، هو السبب الرئيسي لرفض البلدية إجابة مطلب دائم للافارج بإدخال هذه الأراضي في التنظيم. وهو طلب تعاظم الإلحاح عليه منذ العام 2016، بعد الإغلاق النهائي لمصنع الفحيص، وبدء الحديث من قبل الشركة عن مستقبل استخدامات هذه الأراضي، التي يقول حتر إنها تقع بكاملها ضمن الحدود الإدارية للبلدية، لكن القسم الأكبر منها ما زال خارج التنظيم. وكان موقف البلدية الثابت هو أنها لن تصدر قرار التنظيم، الذي سيرفع تلقائيًا سعر هذه الأراضي أضعافًا، إلا بعد أن تلتزم الشركة بأداء استحقاقاتها القانونية المتمثلة بإعادة تأهيل الأراضي؛ الطلب الذي يقول حتر إن الشركة ظلت تقاومه. وهذا كان عاملًا أساسيًا في إطالة أمد المفاوضات معها حول مشروع عقاري ضخم اقترحته على البلدية لتطوير أراضي المصنع، كانت أحد بنوده يلزم البلدية بإدخال الأراضي التنظيم.
المشروع الذي اقترحت الشركة إقامته مكان المصنع بعد إزالته، يشمل إنشاء مجموعة من المشاريع الاستثمارية، من بينها جامعة ومستشفى، وفندق وفلل سكنية وحديقة عامة وملاعب جولف وغيرها.
ومع أن مذكرة التفاهم التي اقترحتها الشركة لإتمام المشروع، منحت البلدية 400 دونم تقريبًا من الأراضي، إلا أن صيغة العقد، لم تكن مطمئنة للبلدية. فلا ضمانات حقيقية، بحسب حتر، بأن الشركة ستتحمل مسؤوليتها في إعادة تأهيل الأراضي، ولا ضمانات بأن هذا المشروع الضخم سينفذ بطريقة لن تؤثر سلبًا على المدينة وأبنائها. خصوصًا وأن هذه الأراضي، تشكل ما يقارب الـ12% من مساحة المدينة، وهي على شكل جزيرة داخلها، والطريقة التي ستستخدم بها، سيكون لها أثر مباشر، من ناحية اقتصادية، واجتماعية، وبيئية، ومرورية. وهذا هو السبب، يقول حتر، في أن البلدية، بمجلسيها اللذين عاصرا مفاوضات المشروع، كانت حذرة في اتخاذ القرار، وحرصت على أن يكون نتاج نقاش حقيقي شامل داخل المجتمع المحلي بكل ممثليه، لضمان ألا يكون الاستخدام الجديد لهذه الأراضي فصل معاناة جديد بعد أكثر من ستين عامًا من من المعاناة مع مصنع الإسمنت، الذي يقول إنه آذى المدينة بما يكفي، وعطّل تطوّرها الطبيعي.
يذكر أن الشركة تشير في تقريرها السنوي للعام 2017، وضمن خطتها المستقبلية، إلى أنه في حال اتفاقها مع بلدية الفحيص على تنظيم الأراضي، وحصولها على حكم «قطعي» بذلك، فإنها ستمنح البلدية 430 دونمًا. وهذا الاتفاق سيشمل إعفاء الشركة من أي عوائد مالية مستحقة للبلدية نتيجة تغيير صفة استعمال الشركة للأراضي، ومن أية التزامات مالية مترتبة عليها لصالح البلدية، سواء كانت هذه الالتزامات رسومًا أو عوائد أو تعويضات، باستثناء ما يتم الاتفاق عليه بين الشركة وجهات التنظيم.
يقول ماهر فرحات، العضو في المجلس البلدي السابق، إنه ما كان يمكن للبلدية أن توافق على المشروع بالصيغة التي قدم إليه، إذ قدم من دون أي دراسات أولية توضح الأسس التي استند عليها تصميم المشروع، والتي يمكن أن تدلل على إمكانية تحققه في الواقع. لقد كان مجرد صور لخرائط جميلة ملونة تتوزع عليها مبان وشوارع ومساحات خضراء، يقول إنها عرضت على المجلس وطلب منه التوقيع بالموافقة عليها، ومنح إذن التنظيم. وعندما كان المجلس، يسأل عن الأسس التي بناء عليها أنجزت هذه التصاميم، لم يكن هناك إجابات. ثم بعد الإلحاح، يقول فرحات إن الشركة جاءت بدراسة مرورية،[36] لكنها كانت بالغة الهزالة، حتى أنها لم تشتمل على أي رقم، بما يتنافى مع أبجديات إعداد هذا النوع من الدراسات.
يقول فرحات إنه لم يكن هناك رفض للمشروع من حيث المبدأ، وإنما اشترط للموافقة عليه وجود اتفاقية محكمة تضمن التزام الشركة بأداء استحقاقاتها القانونية، المتمثلة في إعادة تأهيل الأراضي، والحصول على الدراسات اللازمة التي تدلل على إمكانية تحقق المشروع الذي في الصور على الواقع. لكن الشركة كانت ترد على هذه المطالبات بأن «المطور» هو من سيقدم هذه الدراسات.
هذا المطور المجهول، وفق فرحات، كان عقبة أخرى في طريق المفاوضات، ذلك أن مذكرة التفاهم لم تكن تنص على أن لافارج بالتحديد هي من سينفذ المشروع، بل اشتملت كل بنودها على عبارة «الشركة أو مطور». وبذلك، يقول فرحات، كانت هناك مخاوف من أن يكون مخطط الشركة هو الحصول على قرار تنظيم للأراضي يرفع سعرها أضعافًا، لتبيعها في النهاية إلى مستثمر آخر، مجهول تمامًا للبلدية، دون أن يكون لديها أدنى فكرة عن الكيفية التي سينفذ فيها المشروع، في حال باعت الشركة له الأرض وانسحبت.
وفق المحامي الداوود، في حال باعت الشركة الأراضي لمستثمر يتولى هو تنفيذ المشروع، فإن هذا المستثمر لن يكون ملزمًا قانونيًا ببنود مذكرة تفاهم لم يوقع هو عليها.
ومع ذلك، يقول حتر إن المفاوضات استؤنفت لاحقًا، وأحرزت البلدية في الفترة الأخيرة تقدمًا نسبيًا على صعيد مفاوضاتها مع الشركة. وبدا أن الأمور تسير بشكل جيد نسبي، عندما فوجئت البلدية بإعلان الشركة إعسارها. علمًا بأنه قبل الإعلان بأيام، يقول حتر، كان هناك اجتماع بين الطرفين، ولم تلمح الشركة إلى نيتها ذلك.
الحقيقة أن الشركة كشفت في تقريرها للعام 2019 عن نيتها التقدم بطلب إعسار، ووضعت برنامجًا متكاملًا لخطتها في المرحلة القادمة في حال لو أجيب طلبها. لكن التقرير نشر على موقع البورصة في 20 أيلول الماضي، بعد أكثر من شهرين على إعلان تقدم الشركة للإعسار.
يقول حتر إن البلدية اتصلت بالشركة بعد إعلان الإعسار مستفسرة عما يجري. ووقتها أبدت الشركة استعدادها لسحب طلبها الإعسار، شريطة إصدار قرار بتنظيم الأراضي، والموافقة على مذكرة التفاهم بصيغتها الأولى.
ماذا بعد الإعسار إذا ثبت؟
وفق قانون الإعسار، يقول الداوود، هناك مرحلتان؛ تمهيدية وفيها يمنح الدائنون مهلة شهر ابتداءً من تاريخ إشهار الإعسار للتقدم بمطالباتهم المالية. وفي المرحلة الثانية، تعين المحكمة «وكيل إعسار» يتولى التفاوض المباشر مع لجنة تمثل الدائنين، على آلية سداد هذه الديون. وإذا لم يتفق الطرفان، تنتقل المفاوضات بين الطرفين لتصبح عن طريق المحكمة. وإذا فشلت هنا أيضًا، يكون للقاضي الحق في تصفية الشركة إجباريًا.
يلفت الداوود إلى أنه في حالة الخسائر الجسيمة، يجب محاسبة مجلس إدارة الشركة ومديرها العام، بسبب مسؤوليتهم عن الخسائر، حتى لو لم يكن ذلك بسوء نية. وقد أعطى قانون الشركات وزارة الصناعة والتجارة الحق في كفّ يد إدارة الشركة المساهمة العامة، وتعيين مجلس جديد، حماية لحقوق المساهمين.
لقد أعطى قانون الإعسار المحكمة أيضًا هذه الصلاحية، لكن قرار المحكمة بالموافقة على إشهار الإعسار نصّ على «تكليف الإدارة الحالية للشركة بالاستمرار في إدارة أموالها والتصرف فيها»، تحت إشراف وكيل الإعسار الذي عينته المحكمة.
السؤال الآن، ما الذي سيحدث في حال ذهبت الشركة إلى التمييز، وحصلت على تثبيت حكم إشهار إعسارها؟ كيف سينعكس هذا بشكل أساسي على حقوق الدائنين، ومن بينهم العمال؟ وماذا بالنسبة لأراضي الفحيص التي يرفض أهلها تمامًا أي مخطط للتصرف بها من دون أن يكون لهم قول أساسي فيه؟
رغم فسخ قرار إشهار الإعسار، إلا أن إجراءاته، كما سبق القول، ما زالت مستمرة. وقد انتهت بالفعل المرحلة الأولى، التي بدأت مع إشهار الإعسار، وتشكلت قائمة طويلة من الدائنين. وهذا هو السبب، يقول حتر، في أن البلدية استعانت بصور «الجغرافي الملكي» الجوية، إذ كان الهدف التوصل إلى تقدير أولى لكلفة إعادة التأهيل. وقد تقدمت البلدة بالفعل للمحكمة بتقرير خبرة، من أجل ضمه إلى قائمة المطالبات المالية التي قدمت لوكيل الإعسار. لكن البلدية التي يقول حتر إنها خافت من ردّ هذه المطالبة «شكلًا» من قبل الوكيل، وذلك لأنها قانونيًا ليست الجهة المختصة بتقديمها، قدمتها أيضًا لوزارة البيئة، وللـ«الطاقة والمعادن»، قبل انتهاء المهلة الممنوحة للدائنين، كي تتوليا هما تقديمها لوكيل الإعسار. ويقول حتر إن المهلة انتهت، من دون أن تتلقى البلدية ردّا من الجهتين.
وقامت بخطوة مشابهة مجموعةٌ من مؤسسات المجتمع المحلي في الفحيص، كان من بينها جمعية الحماية من التلوث البيئي، يقول سمعان، إنها توجهت إلى وزارة البيئة، «والطاقة والمعادن»، وسلّمتهما كتابًا يطالبهما بتحمل مسؤوليتهما في إلزام الشركة بتأهيل الأراضي.
يقول سمعان إن الوفد لم يسمع من «الطاقة والمعادن»، في حين أعلن وزير البيئة السابق، صالح خرابشة، بعد هذا اللقاء، أن الوزارة خاطبت محكمة بداية السلط التي أصدرت قرار الإعسار، وأبلغتها بوجود «متطلبات بيئية» على الشركة أداؤها قبل المضي قدمًا في قرار الإعسار.
هل تعد مخاطبة «البيئة» المحكمة، والتي تمت قبل انتهاء مهلة الدائنين قانونيًا، مطالبة مالية ضمن قائمة المطالبات المالية التي قدمت لوكيل الإعسار؟ يقول سمعان إن «الوضع غامض».
في كل الأحوال، يبدو أن الكرة هنا ما تزال في ملعب «الطاقة والمعادن»، ذلك أن الخرابشة أكّد في إعلانه السابق أن عملية تأهيل الأراضي «تقع ضمن مهام هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن»، والتي من غير المعروف إلى الآن إن كانت قد تقدمت الهيئة بهذه المطالبة. فهي لم تجب على هذا السؤال من بين الأسئلة الأخرى التي أرسلتها إليها حبر.
يذكر أن قانون الإعسار ينص على أنه «لا تسمع أي دعوى ضد المدين بعد إشهار الإعسار وعلى أي شخص يدعي وجود دين له على المدين ان يسجل مطالبته وفقًا للإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون».[37]
هل سيمكن الإعسار الشركة من بيع أراضي الفحيص؟
في محاضرته سابقة الذكر، أكد الرزاز أن «سند التسجيل الذي تملكه لافارج لا يعني أن من حقها استعمال الأراضي كما تشاء». لكن بيع الأراضي من أجل توفير سيولة، هو جزء من خطة إدارة الإعسار الواردة كما تقدم في تقريرها المالي للعام 2019. وهي تؤكد في كتاب وجهته لهيئة الأوراق المالية، في حزيران الماضي، إنها «ماضية في مجهودها للحصول على الموافقات الخاصة بالتنظيم، وبيع أراضيها في الفحيص».[38] وبحسب الداوود، فإن قانون الإعسار يتيح لها ذلك بموافقة من المحكمة.
ووفق القانون،[39] لن يكون هناك بالضرورة قول للدائنين والعاملين فيها في عمليات البيع هذه، إذ أن القانون ينص على أن «للمحكمة أن تستمع» لهم. وهذه طريقة في الصياغة القانونية، يقول الداوود، تعني أن الاستماع للدائنين والعاملين هو أمر اختياري للمحكمة، قد لا ترى، ببساطة، داعيًا له.
في العام 2017، حاولت مجموعة من أبناء الفحيص، يمثلون المجتمع المحلي في المدينة، الدفع باتجاه التحقيق في قضية عدم احتساب قيمة أراضي الفحيص ضمن صفقة بيع شركة مصانع الإسمنت الأردنية. وقدموا شكوى رسمية لهيئة مكافحة الفساد، طلبوا فيها التحقيق في ذلك بوصفه شبهة فساد. من بين مقدمي الشكوى، كانت اللجنة الشعبية للدفاع عن أراضي الفحيص. يقول صويص، إن مقدمي الشكوى، لم يتلقوا ردّا رسميًا عليها من «مكافحة الفساد»، لكن مصدرًا من داخل الهيئة أبلغهم بشكل غير رسمي أن ملف الشكوى أغلق. وعندما طلبوا ردًا خطيًا بما تم من إجراءات سبقت إغلاق الملف، لم يتلقوا ردّا.
وفي الطفيلة، ما زال أبناء وأحفاد من استملكت أراضيهم أوائل الثمانينات يشعرون بالمرارة، ومن بينهم المسيعديين الذي استملكت 16 دونمًا كان يملكها والده. لكن الفرق بين الرشادية والفحيص في ما يتعلق بأراضي الشركة، هو أنه خلافًا للفحيص، فإن القسم الأعظم من الأراضي المملوكة للشركة في الرشادية اشترتها مباشرة من مالكيها الذين اضطروا لبيعها، كما يقول، بسبب تضررها الشديد نتيجة قربها من المصنع، وعدم قدرتهم على الاستفادة منها بزراعتها، إذ لم تعد تعطي محصولًا كما في السابق. لقد اشترت الشركة بهذه الطريقة آلاف الدونمات في المنطقة. وبحسبه، هذا وفّر عليها الكثير، إذ لم تكن مضطرة للتعاطي مع قضايا التعويضات عن الضرر البيئي في الطفيلة، بالكم الذي عانته في الفحيص.
الآن فإن الهواجس في الطفيلة تتمحور أساسًا حول انعكاس الإعسار على الحقوق العمالية. من هؤلاء دفعة التسريحات الأخيرة، التي تمت نهاية العام 2019، والتي، خلافًا للدفعات التي قبلها، لم تكن اختيارية. فقد أصدرت الشركة آنذاك قرارًا بفصل قرابة المئتي عامل من المصنعين. لكنها بعدها عقدت اتفاقية عمالية، سرّحتهم بموجبها لقاء مكافأة هي قيمة 1.8 راتب شهري، مقابل كل سنة خدمة. وقال هؤلاء لحبر إنه لم تصرف لهم بعد مستحقاتهم في صندوق التوفير، رغم مرور سنة.
لكن الأكثر قلقًا من المتقاعدين، هم العمال الذين ما زالوا على رأس عملهم، ومنهم قاسم،[40] الذي يعمل فنيّا في مصنع الرشادية، ويقول إنه منذ إعلان الشركة إعسارها، تسود حالة من «الرعب» في أوساط عمال المصنع. إذ ليس لديهم فكرة إن كان المصنع سيستمر في العمل، أو أن الإعسار هو مقدمة لتصفيته، وما هو مصيرهم إذا أغلق المصنع. يقول قاسم إنهم تواصلوا مع إدارة الشركة، وكان الرد «عندك وكيل إعسار، كمّل معاه».
وفق الداوود، ما يبدو نظريًا من نصوص القانون، فإن للشركة الحق في أن تطلب من المحكمة إنهاء عقود عمالها. وإذا حدث ذلك، فهذا يعني أنهم يستحقون رواتب ثلاثة أشهر فقط.
لقد كانت الحقوق العمالية، يقول نقيب «العاملين في البناء»، محمود الحياري، من بين المطالبات التي قدمتها النقابة لوكيل الإعسار، وكانت النقابة أيضًا من بين الجهات التي استأنفت قرار الإعسار. كما قدمت قبلها إنذارًا عدليًا للشركة سببه مخالفتها اتفاقيات عمالية سابقة، في ما يتعلق بالتأمين الصحي للعاملين، وأيضًا للمتقاعدين حيث كان منح تأمين صحي لمن لم تقل مدة خدمته في الشركة عن 10 سنوات، جزءًا من اتفاقيات تسريحهم.
لقد أعادت الشركة تعريف العائلة، وحصرت التأمين الصحي بزوجة واحدة، وألغت تأمين البنات والأبناء ممن تزيد أعمارهم عن 18 سنة، إلا في حالة كانوا طلابًا، ووضعت في هذه الحالة سقفًا للعمر هو 23 سنة. كما حددت سقفًا لزيارات الأطباء هي 12 مرة في السنة، وحددت سقفًا للمعالجة هو 10 آلاف دينار لكل حالة دخول للمستشفى، بسقف 100 ألف دينار سنويًا. لكنها ذكرت بأنه سيكون هناك لجنة تدرس الحالات التي «تستدعي» تجاوز السقف، ترفع توصيتها إلى الرئيس التنفيذي للشركة. وكل هذه تعديلات جديدة بحسب الحياري، وهي مخالفة لنظام الخدمات الطبية للمستخدمين، ولبنود الاتفاقيات العمالية التي سرح بموجبها العمال. كما أن التأمين الصحي في النهاية لم يكن مجانيًا، فقد دفع العمال ثمنه أثناء سنين الخدمة، وما بعدها. يقول الحياري إن العامل على رأس عمله يدفع ما نسبته 4.5% من راتبه للتأمين الصحي، يخصص منها 2.5% لتأمين ما بعد التقاعد، وهي نسبة يستمر بدفعها بعد التقاعد من راتب الضمان الاجتماعي.
لقد كان التأمين الصحي، يقول عادل، هو المكسب الحقيقي الوحيد الذي خرج به من اتفاقية تسريحه؛ التأمين الذي لم يدفع العمال ثمنه فقط من رواتبهم، بل من صحتهم. والآن هو يشعر بقلق كبير بالتحديد على بناته، اللواتي سيرفع عنهن التأمين بمجرد بلوغهن سن الثامنة عشرة، ما لم يكملن الدراسة. وهذا هو هاجس الغزيوات أيضًا. «البنت مين بدو يعالجها إذا ظلت عند أبوها؟ ترميها في الشارع يعني؟».
يذكر أن تقرير الشركة السنوي للعام 2005، يظهر أن البنات كنّ مشمولات بالتأمين إلى حين الزواج، ثم انخفض السقف لاحقًا. وإلى العام الماضي، كنّ مشمولات إلى عمر 27 سنة، قبل أن تصدر التعديلات الجديدة.
السؤال هو، إلى أي مدى سيكون هناك ثقل لصوت العمال أثناء السير في إجراءات الإعسار؟
كما ذكر سابقًا، سيكون هناك لجنة من الدائنين، تشكلها المحكمة في حال ارتأت ضرورة لذلك،[41] تتولى التفاوض مع وكيل الإعسار. ووفق نظام الإعسار، سيكون من بين أعضاء هذه اللجنة واحد من العاملين «شريطة عدم أحقيته في التصويت على المسائل التي تناقشها اللجنة».[42]
لكن الداوود يقول إنه رغم أن هناك ما يمكن استنتاجه من خلال الاطلاع على نصوص القانون، لكن يجب الانتباه إلى أن هذه هي الحالة الأولى التي يطبق فيها قانون الإعسار، والحسم بأن الأمور ستأخذ بالضرورة منحىً معينًا ليس ممكنا الآن، ذلك أن هناك نصوص قانونية، لكن هناك أيضًا تطبيقات لها في المحاكم. وهذا يمكن أن يأخذ الأمور في اتجاهات مختلفة، لأن الأمر في النهاية، خاضع لتقديرات المحكمة.
بالنسبة لقاسم، فهو ليس متفائلًا، ويقول إنه متأكد من أنه، في شركة يملك قرارها مستثمر أجنبي، «الآن أنا على الشارع».
بعد 23 عامًا من خصخصتها، لافارج تتخلى عمّن تبقى من عمالها
حصلت لافارج أيار الماضي على حكم نهائي بإشهار إعسارها، لتكون بذلك أول شركة تستفيد من القانون. ولتأخذ بذلك الضوء الأخضر للمضي قدمًا في إجراءات الإعسار.
الأحد الفائت بدأ عمال مصنع الإسمنت في الرشادية إضرابًا مفتوحًا، وأمس اعتصم المئات من موظفي الشركة، عاملين ومتقاعدين، أمام غرفة صناعة عمان، احتجاجًا على نيّة الشركة تسريح قسم من الموظفين، والتراجع عن مكتسبات عمالية تتعلق بالتأمين الصحي. وكان من المفترض أن يعقد في غرفة صناعة عمان اجتماع بين مسؤولي الشركة وممثلين عن دائنيها للتصويت على خطةٍ لإعادة التنظيم، كانت الشركة قد أعلنتها وتضمّنت إجراءاتها لهيكلة الشركة تخفيضَ أعداد الموظفين، وإعادة النظر في «الامتيازات» الممنوحة لموظفي الشركة من عاملين وموظفين. كما تضمّنت آلية سداد ديونها التي ذكر وكيل الإعسار، رفيق الدويك، أنها تبلغ 100 مليون دينار. الاجتماع المقرر ألغي فجأة، ثم أعلن تأجيله لمدة 15 يومًا بأمر من محكمة الإعسار.
وكانت الشركة قد أعلنت في خطة إعادة التنظيم أن ديونها تبلغ 135.7 مليون دينار، تمثّل ما نسبته 225% تقريبًا من رأسمالها المدفوع. ويوضح مسؤول مالي سابق في لافارج طلب عدم الكشف عن هويته، أن المبلغ المذكور في الخطة لا يمثل بالضرورة حجم الديون الفعلية، لأنه يشمل مبالغ قد لا تستحق الدفع، ومنها مثلًا القضايا المالية التي لم يحكم فيها. والمبلغ الأقرب لدين الشركة هو 100 مليون دينار، التي أعلنها وكيل الإعسار. وهو مبلغ، يقول المسؤول، إن الشركة تطلب في خطتها شطب 50% منه، وجدولة ما تبقى. مضيفًا إن من المفارقات أن شركة لافارج الأم هي واحدة من الدائنين، إذ لها في ذمة الشركة 9 ملايين و600 ألف دينار لقاء استخدام لافارج الأردن لشعارها.
وكان الدويك، صرّح أن «القوة التصويتية الخاصة بكل دائن للتصويت على الخطة المقترحة ستكون مرهونة بمقدار الدين، فكلما زاد مقدار الدين زادت معه القوة التصويتية لهذا الدائن».
العمال، وهم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، اعتصموا احتجاجًا على الإجراءات التي تضمّنتها خطة إعادة التنظيم، وشملت برنامجًا للاستغناء التدريجي عن 79 موظفًا من أصل 316 عاملًا حاليًا. ومن المقرر أن تسرح الدفعة الأولى، والتي تشمل 32 عاملًا مع نهاية العام الحالي، ممن استحقوا التقاعد المبكر، وكانوا زائدين بحسب الهيكلة الجديدة. كما أعلنت الشركة إجراءات تتعلق بالتأمين الصحي، منها توجهها نحو إيقاف خدمة التأمين الصحي لما بعد التقاعد، لموظفيها الحاليين. أمّا بالنسبة للمتقاعدين، فقد أعلنت إيقاف التأمين الصحي عن المنتفعين من أبنائهم وزوجاتهم، كما أعلنت إيقاف التأمين الصحي مع بلوغ المتقاعد سن الستين. ووفق فوزي الحوامدة، رئيس لجنة التأمين الصحي لمتقاعدي مصانع الإسمنت، فإن الإجراءات المقرر البدء بتطبيقها بداية العام القادم، ستشمل 1695 موظفًا ما بين عامل ومتقاعد. وهم مع عائلاتهم 7100 منتفع. وبحسبه، هناك 740 متقاعدًا تقريبًا سيبلغون سن الستين بحلول العام القادم. يضاف إلى إيقاف تغطية الأمراض المزمنة في القطاع الخاص، حيث ستحال هذه الحالات إلى مستشفيات وزارة الصحة.
اعد التقرير بالتعاون مع منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان (JHR)