صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه
قرن من الزمان مضى ، على حُكم الهاشميين للأردن ، في الوقت الذي لم يُقيض لهم الاستمرار في حُكم العراق وسوريا . قرن من الزمان مضى ، أغلب سنواته على برميل من بارود ، او كما قنبلة منزوعة مسمار الأمان ، لا يُعرف متى ، وأين ، وكيف لها ان تنفجر .
استمرار المعارضة للنظام في الاردن الى مئة عام ، يطرح سؤالاً كبيراً ، عميقاً ، وخطيراً ، لا بل معقداً : – هل استمرار معارضة النظام الى قرنٍ من الزمان ظاهرة صحية ام سلبية !؟
ارى انها مزيج بين السلب والايجاب .. السلب :— لانها تدل على عدم استجابة النظام لمطالب المعارضة ، حيث يلجأ الى اساليب عديدة مثل التأجيل او التأخر في الاستجابة لمطالب المعارضة ، وحرف الإهتمام الى قضايا أخرى ، او اللجوء للعنف — لكن ليس المفرط لحد القتل ، بل دون ذلك : مثل إصدار أحكام بالسجن ، او التضييق في لقمة العيش بعدم السماح في التعيين ، او تقييد الحركة وعدم السماح بالسفر — لتكميم الافواه ، وإجهاض خطط المعارضة . والايجاب :— لانها تدل على حضارية النظام [[ مقارنة بدول المنطقة التي تذهب الى التصفيات الجسدية دون تردد ، بوحشية ، تصل حدوداً تقشعر لها الابدان كالتعذيب بعنف حتى الموت ، والتمثيل بالجثث ]] . كما تدل على تقبُّل النظام للمعارضة والرضى بوجودها ، رغم الإنزعاج منها ، لابل واعتبارها احياناً مرشدا ، ومساعداً للنظام في الالتفات الى مكامن الخلل لاصلاحه ، ولو ببطء او على مراحل ، قد لا ترتضيها المعارضة . ومن دهاء النظام ان صدره يتسع للحوار مع المعارضة ، حيث يكتسب الوقت بتشكيل اللجان لدراسة الامور وتقديم توصيات لتفريغ شحنات المعارضة والاسترضاء بالتحاور معه ، حتى لو لم يستجب النظام لمخرجات تلك اللجان او توجيهها لما يخدم مصالحه .
ما دعاني للتفكير في هذا المقال ، ان الهيئة الادارية للجمعية الاردنية للعلوم والثقافة ، ممثلة بصديقي المتحضر بتفكيره ، المُتقبِل للرأي الآخر ، الرجل الذي أحترم الأستاذ / عبدالله عليان ، كلفتني الجمعية بقراءة كتاب المؤرخ جزل العطاء الاستاذ الدكتور / علي مفلح محافظة ، الذي يحمل عنوان (( المعارضة السياسية الأردنية في مئة عام 1921 — 2021 ))، وعمل دراسة نقدية للكتاب ، وتقديم الأستاذ الدكتور / علي محافظه ، في ندوة حوارية ، في الجمعية . لا يصِحُ طبعاً ان أُقدِم دراسة نقدية لقامة علمية بقدر الاستاذ الدكتور / علي محافظة ، وانما عندما تقام الندوة سأطرح بعض الاسئلة ليتكرم ويجيب عليها مؤرخنا الفاضل مشكوراً .
إستجبت ، الا انه تم تأجيل الندوة الى موعد يُحدد لاحقاً . لكنني إنهمكت في قراءة الكتاب ، فأعجبني المحتوى أيما إعجاب ، من ناحية طريقة السرد ، والتزام المؤلف المؤرخ الكبير بالعنوان ، دون أي شطط او بُعد عن الموضوع ، وتجنب أية تفاصيل ليست ذات صلة مباشرة في الموضوع . أعجبني الكتاب جداً ، واستحوذ على تفكيري تعدد ، وتنوع ، وكثرة النشاطات ، والفعاليات المعارضة للنظام ، جعلني استغرب ، واقول لنفسي ، يا لهذه المعارضة التي لم تكل ، ولم تمل ، ولم تيأس ، ولم تستسلم ، لدرجة انها استمرت لقرنٍ من الزمان ، وكأن كل حدث معارض يولد حدثاً آخر ذاتي القوة والاصرار . كما قلت لنفسي أيضاً : يا لهذا النظام شديد المرونة ، التي ربما انها هي أحد اسباب قوته وبقائه واستمراره .
خلصت الى ان هناك قواسم مشتركة عظيمة بين النظام وشعبه . فالنظام أولاً :— يتبع سياسة شعرة سيدنا معاوية ، يتنقل بين الشِّدةِ واللين ، يلدغ ولا يقتُل ، يُضيِّق العيش دون ان يُذِل ، يُتعِب المعارض لكن لا يُنهكه ، يُحدد الحركة دون تكبيل ، يسجِن دون ان يُهين ، يُعذِّب دون ان يشوه او يقتل . ثانياً :— كما تبين ان النظام لديه ادوات مقاومة ومُنافحة للمعارضة ليِّنة ، لإستقطاب من يلين ، ويُغري من يسيل لعابه ، ولديه استعداد للانقلاب على نفسه بتغيير قناعاته ومبادئه كلياً او جزئياً . والدليل اننا جميعاً نعرف مئات المعارضين الاردنيين الذين باعوا ، او انتكسوا ، او انقلبوا ، او ضعِفوا ، او سال لعابهم ، ولم يتماسكوا أمام الاغراءات السخية التي يصعب على من لديه ذرة ضعف ان يقوى على رفضها ، فاصبحوا كما يقول المثل (( ملكيون أكثر من الملِك )) . فقابلوا الإغداق عليهم ، بإغداق أكبر من الولاء . ثالثاً :- يُسجَل للنظام انه لم يفقد معارضاً حياته نتيجة معارضته . وهذا دليل أكيد على ان النظام ليس دموياً . رابعاً :— سعة صدر النظام واستعداده لاحتضان العائدين اليه بغض النظر عن الاسباب .
أما الشعب فهناك مُحركات ومحددات كثيرة تحدد إطار تحركاته ، منها : أولاً :— تسامحه المفرط أحياناً ، فاذا كان لديه استعداداً جيني للتنازل عن قاتلٍ فتك باحد افراد اسرته ، سواء كان أباً ، او أخاً ، او إبناً ، وبكل طيب خاطر ، لا بل ويصر في معظم الحالات على ضرورة تقديم وليمة عظيمة تصل الى أطنانٍ من اللحوم تكريماً للجاهة ، ويتنازل ورأسه مرفوعة تكاد تطاول عنان السماء . فكيف له ان لا يتسامح مع النظام اذا أقدم على فعلٍ تراه المعارضة ليس في مصلحة الوطن !؟ ثانياً :— ثم ان استمرارية النظام لقرنٍ من الزمان ، جعل الاردني يخاف من التغيير ويخشاه ، لان التغيير دوماً يحمل المجهول ، لذلك يردد الاردنيون مثلاً له صلة بذلك وهو (( اللي بتعرفه ، أحسن من اللي ما بتعرفه )) . ثالثاً :— يضاف الى ذلك إدراك الاردنيين الى خطر أطماع العدو الصهيوني الخبيث . حيث انهم يعرفون جيداً أطماع العدو في وطنهم ، مما يزيد من حصافتهم وعقلانيتهم . رابعاً :— اتباعهم نهج المعارضة اللينة ، غير العنيفة ، وغير الدموية . وعليه فهم يقابلون عدم دموية النظام بعدم دموية المعارضة .
يبدو انه قَدَر مكتوب ، بارتباط مصير النظام والشعب ببعضهما . وليس امامهما الا التعايش ، والتسامح ، وتقبُل كلٍ منهما الآخر ، والمحافظة على هذا الرباط المقدس ، وان ينتهجا العقلانية والتسامح ، والمصير المشترك ، ففي ضياع احدهما يكمن ضياع الآخر ، وانتهائه وجودياً . نتمنى على نظامنا ان يحرص علينا كما نحرص عليه ، وينتمي الينا كما ننتمي اليه ، وان يتقي الله فينا كما نتقيه فيه .