صراحة نيوز – خاص – ينتمي بهجت المحيسن إلى بلد الجبال والينابيع، مدينة الطفيلة، النابتة كقامة عالية منتصبة على مشارف وادي عربة، في حين تمتد هضابها شرقاً حتى تلتحم مع البادية الأردنية الجنوبية.
ولد المحيسن في مدينة الطفيلة عام 1927، ونشأ في كنف والده مصطفى باشا المحيسن، الذي يعد أحد أبرز رجالات الطفيلة، فحرص الأخير على تربية ابنه على أحسن وجه، ورغم ما واجه أهالي البلاد من مصاعب العيش، وضعف الإمكانيات في بداية مرحلة التأسيس، إلا أن مصطفى باشا ألحق ابنه بالمدرسة الابتدائية في الطفيلة، لكنه ظل يلعب في حارات وأزقة مدينته باحثاً عن ظل أحلامه القادمة، وقد تأثر كثيراً بوالده، أحد زعماء الطفيلة الذين قدروا عالياً دور الجيش العربي الأردني الناشئ، لذا التصق بهجت المحيسن بالوطن أرضاً وأهلاً وقيادة، ووجد في سلامته والذود عن حماه، والواجب الأسمى الذي سعى له منذ صغره، وقد ظهرت عليه بوادر الذكاء والنبوغ في وقت مبكر، ولفت انتباه مدرسيه، بتفوقه الدراسي وسرعة بديهته.
بعد أن أنهى المرحلة الدراسية الأولى في الطفيلة، أبدى رغبة ملحة في إكمال مشواره التعليمي، ومن أجل تحقيق هذه الغاية، كان عليه ترك مدينة الطفيلة، والرحيل باتجاه مدينة السلط، من أجل الالتحاق بمدرستها الثانوية، التي تعد أول مدرسة ثانوية في الإمارة، وقد ضمت هذه المدرسة خيرة المعلمين في الأردن والمنطقة، فقد كان من ضمن مدرسيه: خليل السالم، حنا الشوارب، حسني فريز، وحسن برقاوي، وقد زامل خلال دراسته عدداً من الطلبة الذين أصبحوا فيما بعد من جيل الرواد في عدد من المجالات، وكان من ضمن من تخرج معه في مدرسة السلط، حائزين على شهادة الثانوية العامة كل من: حكمت الساكت، نذير رشيد، وحمدالله النابلسي وعبد الرزاق المجالي.
نال بهجت المحيسن الثانوية العامة بتفوق، وقد فتحت له هذه الشهادة، باب الوظيفة الحكومية على مصراعيه، لكنه قرر دراسة علم المساحة، وبعد أن تحقق له هذا الهدف، اختار الانتساب للقوات المسلحة الأردنية، مدفوعاً بحبه لوطنه، والتربية الوطنية وتقدير العسكرية اللتين تلقاهما من قبل والده، وقد رافقه في هذه الخطوة زملاؤه خالد الطراونة وأحمد الروسان، وقد كان انتسابه للجيش في السادس عشر من شهر تشرين أول عام 1947، وحمل الرقم العسكري (521)، وخلال هذه الفترة تمكن من الحصول على البكالوريوس في العلوم العسكرية، وقد التحق بكتيبة المدفعية الأولى، وأرسل إلى المملكة المتحدة عام 1949 للمشاركة في دورة تأسيسية، عاد بعدها للخدمة في سلاح المدفعية، وتميز بسرعة اكتساب المعارف والمهارات العسكرية، وعرف بالشجاعة والإقدام، وقد عاد إلى المملكة المتحدة عام 1957م، ملتحقاً بدورة ركن مدفعية، وعندما عاد لوطنه، عين ركن عسكري في قيادة سلاح المدفعية الملكي.
في العام 1962 رشح لدورة القيادة والأركان في الولايات المتحدة الأمريكية، فاجتازها بتفوق كعادته، وكان من نتائج ذلك أن عين قائداً لمدرسة المدفعية بعد تعريب قيادة الجيش العربي، في فترة صعبة احتاج الجيش فيها لتأهيل عدد من الضباط الأكفاء، لرفد قطاعات الجيش الآخذة بالنمو السريع بالقادة المؤهلين، وهذا ما سعى إليه المحيسن خلال قيادته لهذه المدرسة، وقد تسلم بعد ذلك قيادة كتيبة مدفعية الميدان، ومن ثم قائداً لمدفعية الجبهة الغربية برتبة مقدم ركن، بعدها تسلم قيادة لواء 29 حيث كان حينها برتبة عقيد ركن، عين بعدها بفترة قصيرة قائداً للواء حطين، وخلال قيادته لهذا اللواء المتمركز في منطقة الخليل في الضفة الغربية، واجه القوات الإسرائيلية الضخمة التي هاجمت قرية السموع عام 1966، متذرعة بوجود خلايا إرهابية، وقد جرت معركة كبيرة شارك فيها سرب من طائرات سلاح الجو الملكي الأردني، وقاد المعركة من الجانب الأردني القائد بهجت المحيسن، وقد كان العدو أكثر عدداً وأحدث تسليحاً، ومع غطاء جوي كثيف، وتمكنت القوات الأردنية من دحر المعتدين وتكبيدهم خسائر تكتم عليها الإسرائيليون، وقد أصيب في هذه المعركة القائد المحيسن الذي كان يقاتل كأي جندي في كتائب لواء حطين، وأستشهد الملازم الطيار موفق السلطي، والرائد محمد ضيف الله الهباهبة، وقد حصلت القوات الأردنية على عدد من الغنائم، من الأسلحة التي تركها الجيش الإسرائيلي، وتم إسقاط ثلاث طائرات إسرائيلية حديثة.
وكان له شرف المشاركة في معركة الكرامة الخالدة، حيث خاض لواء حطين بقيادة المحيسن أعنف المعارك في منطقة مثلث الرامة – الشونة – عمان، حيث اعترف قائد الدروع الإسرائيلي أن جميع آلياته أصيبت باستثناء دبابتين، حيث ولى هارباً، وتمكنت القوات الأردنية من تحقيق أول نصر عربي على إسرائيل، ودحض أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وكانت خسائر جيش العدو تفوق خسائره في حرب حزيران عام 1967 على كافة الجبهات، ونظراً لشجاعته وتميزه في معركة الكرامة، تم ترقيته إلى رتبة عميد ركن، ليتولى بعد ذلك قيادة لواء الحسين بن علي، المتمركز جنوب الأردن، وقد استمر قائداً لهذا اللواء المهم مدة سنتين، حيث تم تعيينه ملحقاً عسكرياً في السفارة الأردنية في لندن، وكان سفير الأردن في بريطانيا حينها سعد جمعة الذي أصبح رئيساً للوزراء في ما بعد.
لم يطل فيه المقام في عاصمة الضباب لندن، فلقد أستدعي عام 1970 ، وعين قائداً للفرقة الثانية، التي كانت تشكل نصف القوات المسلحة الأردنية، لكنه أحيل على التقاعد عام 1971 بناءً على طلبه.
لقد كان بهجت المحيسن عسكرياً محترفاً، وقائداً صاحب فراسة وخبرة ميدانية وعلمية، وترك بصماته الخاصة على تطور وسمعة الجيش الأردني الذي يعد أكثر الجيوش احترافاً في المنطقة، وقد انتقل بعد تقاعده إلى الحياة المدنية، مسلحاً بحب الوطن وعمق الانتماء، وتفرغ لتربية أبنائه، وعمل مع ابنه عامر في تأسيس وإدارة عدد من الشركات الاقتصادية، وبقي دائم التردد على مسقط رأسه، ومربى طفولته وشبابه الباكر الطفيلة، وعمل خلال هذه الفترة على التواصل مع أهل مدينته، وساعد كثير من أبنائها في بعض شؤونهم، فلقد كان قريباً منهم ومن واقعهم اليومي، وقد حظي بمحبة كبيرة من قبلهم، وفي الجانب الرسمي كانت للمحيسن مكانة مرموقة، وتمتع بتقدير عالٍ، فقد نال عدداً من الأوسمة التي استحقها عن جدارة، حيث منح وسام الاستقلال من الدرجة الثالثة، وسام النهضة من الدرجة الثالثة، وسام الكوكب من الدرجة الثانية، وسام الاستقلال من الدرجة الثانية، وسام الإقدام العسكري لدوره في معركة السموع، شارة العمليات الحربية، وشارة الخدمة العامة.
بقي العميد بهجت المحيسن يخدم وطنه، ويلهج بالولاء الحقيقي حتى لحظاته الأخيرة، فقد وافته المنية في العاشر من نيسان عام 2007، عن عمر ناهز التاسعة والسبعين، وقد شيع إلى مثواه الأخير في مقبرة شفا بدران، لكنه بقي يضيء فضاء الذاكرة بناموس البطولة والإقدام .