نَعَمْ .. كُنَّا .. في .. نِعَمْ

19 أبريل 2020
نَعَمْ .. كُنَّا .. في .. نِعَمْ

صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه

الإنسان مِزاجي ، مُتقلب ، يَتقلّب بين الضِدّين كالبهلوان في اختياراته بين ما يُحب ويَكره . ربما لأن أصل الإنسان قِرد !؟ حسب نظرية داروين التي أرفضها طبعاً ، لأنها تتناقض مع الأديان السماوية ومع المنطق ، لكن ربما يشتركان في بعض الجينات . تجد الإنسان يَملّ ويُغيّر رغباته بسرعة عجيبه ، وتراه احياناً محتاراً لا يعرف ماذا يريد . الإنسان مخلوق عجيب ، حتى انه لا يَرضى ، ولا يَقبل ، بل يَرفض أحياناً ما إختاره له خالقه عزّ وجلّ .

قبل جائحة كورونا ، كُنّا ننزعج من ازدحام السيارات في الطرقات ، وتزاحم الناس في المحلات ، كنا نتضايق من أصوات البائعين المتجولين ، ونكاد ننفجر غيضاً من أصوات سيارات الغاز ، حتى عمل محافظ العاصمة الأسبق رفيق العمر معالي / عبدالكريم عبدالرحمن الملاحمه على اختيار موسيقى خاصة التزم بها كل بائعي الغاز المتجولين حتى الآن . كنا ننزعج من أصوات مسجلات تُجار الأثاث المُستعمَل . كنا ننزعج من التوقف المفاجيء لسيارات التاكسي . كنا ننزعج من صوت كنترول الباص . كنا ننزعج من ازدحام المقاهي ، والمطاعم ، والبنوك ، والمولات ، والدوائر والوزارات ، كنا ننزعج من الدور ، والوقوف في الطابور عند دفع فواتير المياة ، والكهرباء ، والهواتف ، كان البعض يتضايقون من صخب الأطفال وهم يلعبون كرة القدم في شوارع وحارات مُدنِنا وقُرانا ، كان البعض يتضايق من بث الصلاة والخطبة خارج المساجد ، حتى تم اتخاذ قرار بحصر البث داخل المساجد ، كان قرع أجراس الكنائس كذلك يضايق البعض !؟ نسينا ان الأذان ، وأجراس الكنائس هي دعوة للوقوف بين يدي الله ، كنا ، وكنا ، وكنا ..

سبحان مُغيِّر الأحوال ، والآن نتمنى ان يعود كل ما كُنّا نعتبره مزعجاً وان نعيش في وسط الفوضى والصخب ، أدركنا ان الصخب يكتنف الحب ، حب الحياة ، وأنه يمكن ان يأتي الضجيج بالفرج في الرزق .

ما الذي يمكن ان يرُضي الإنسان !؟ كان من أسعد لحظاته ان يأوي الى مكان هاديء لا ازعاج فيه ، لا بل يكاد يكون لا حياة فيه ، بعيدا عن كل شيء حضاري ، هدوء ، وصمت مُطبق ، يكاد الإنسان يَسمع دَقات قلبه ، وعند عودته الى حياته الطبيعية مع الناس والعمل يقول مُنتشياً : كُنت بين أحضان الطبيعة ، في مكان هاديء إبتعدتُ فيه عن .. وعن . والآن كَرِه هدوء حظر التجول ، ويتمنى ان تعود الحياة كما كانت .

الى ان ، إجتاح العالم هذا الزائر الصغير ، الخطير ، الحقير ، وتسبب بجائحة لم يشهد مِثلها العالم منذ بدء الخليقة . فأرعب الكون ، وغيّره ، وشَلّ الحياة شللاً تاماً ، في كل النشاطات الإنسانية في كل الكون . لا بل لم يكتفِ هذا الزائر الصغير الحقير بذلك بل حَبَسنا في بيوتنا ، وحَجَر على الإنسانية باكملها . والتزم كل سكان العالم في بيوتهم لمدد غير محددة . وانتقل الإنسان من حياة الصخب الى الهدوء القاتل ، بل الى الإقامة الجبرية في البيوت ، فضاق ذرعاً بهذا الحال ، وشعر بالاختناق ، وبدأ يحس وكأن جدران بيته تُطبق على صدره ، لدرجة انه يكاد يَسمع صرير أضلاعه .

مشكلة الإنسان انه لا يعرف قيمة النِعمة الّا بعد ان يَفقِدها . لا نعرف قيمة الصحة الا عند السقم ، ولا نعرف قيمة الأوطان الا عندما نتشرد ، ولا نعرف قيمة الوقت الا بعد فواته ، ولا نعرف قيمة مرحلة الشباب الا بعد ان يذهب العمر ونشيخ . ولا نعرف قيمة المال الا بعد ضياعه ، لا نعرف قيمة النظر الا بعد ان نفقد البصر ، لا نعرف قيمة الوالدين الا بعد وفاتهما ، وهيهات ان يعودا ، ولا نعرف قيمة الدفء الا عندما يأتي الصقيع ، لم نعرف قيمة التحرك بحرية في الشوارع والأسواق الا بعد ان جَرّبنا الحظر ، لم نعرف قيمة الالتقاء والسهر مع الأهل والأقارب والأصدقاء الا بعد ان مُنعنا منه . لم نعرف قيمة ان تَطبع قُبلة على جبين حبيب او قريب او صديق او حفيد الا بعد ان حَرمنا إياها كورونا . لا نعرف نِعمة الرِبح الا بعد تجرعنا الخسارة .

لم يدرك الإنسان ما الذي فعله بالطبيعة ، حيث عاث فيها فساداً وإفساداً ، فلوث الهواء والأجواء ، بأدخنة المصانع العملاقة والسيارات والطائرات والسفن . وإجتث الأشجار ، واستباح الغابات ، ولوّث البحار ، والمحيطات ، والأرض ، والسماء ، فانقرضت ملايين الحيوانات والنباتات ، وافسد جمال الطبيعة ونقائها .

وجاء الوباء ، وحلّت الكارثة على الإنسانية جمعاء ، لكنها كانت خيراً على الطبيعة . وشاء ربك ان يعيد للهواء نقائه ، وللسماء صفائها ، وللأجواء هدوئها ، واستعادت الطبيعة حريتها ، وحُجر على الإنسان . سبحان الله ، بالرغم من مخاطر الكورونا القاتلة ، الا ان من فوائدها انها اعادت للإنسان شيئاً بسيطاً من إنسانيته ، ولو الى حين .

هذا هو الإنسان ، شديد التنكر والنُكران ، شديد الكُفر والنسيان . من يُنكِر النعم ، عليه ان يواجه النِقم ، والكلل ، والملل ، والسأم . كُنّا في نعم ٍ لا تُعد ولا تُحصى ، لم نشعر بها ، ولم نُقدِّر وجودها ، ولم نُثمِّن امتلاكها ، الا بعد ان حُرمنا منها . حتى اصبح النظر من الشباك فُسحة تروّح عن النفس . نسأل الله العلي القدير ان يُزيل هذا الخطر ، والكدر ، والغمّ ، الذي آلمَ ، وألمّْ.

لكن رغم ضيق الحظر ، الا يجدر بنا ان نقول الحمد لله اننا في بيوتنا ولم نُهجّر . الحمد لله اننا نعيش في أمان بدون قصف ، وقتل ، وترويع . الحمد لله ان اسواقنا تتوافر فيها كل السلع والاحتياجات . الحمد لله ان المعالجة الطبية متوفرة . الحمد لله اننا لسنا لاجئين مشردين .

لكن ما يؤلمني ان ربيع بلادي سَيجِف دون ان نستمتع بجلسة في حُضن الطبيعة وجمالها ، وسِحرها ، وعِطرها ، وتعدد ألوان أزهارها ونباتاتها ، وسَيذبل دحنونه ، وأزهاره ووروده ، وسَيمر هذا الربيع وكأنه لم يأتِ . وأختمُ ببيتين من الشِعرْ :
وتَظَلُّ تسعى جاهداً في هِمةٍ / والله يعطي من يشاء اذا شكرْ . والله يَمنعُ إن أراد بحكمةٍ / لا بُدَّ ان ترضى بما حَكَمَ القدرْ .

الاخبار العاجلة