ثلاثة أطراف يتناوبون “الهجمة” على بلدنا، كل على طريقته، بقصد أو دون قصد، الطرف الأول يجلس أمام شاشات المعارضة، ويترصد أخطاء الدولة، وينفخ فيها، ثم يصفق لكل من يوجه لها سهامه، الثاني يتربع على مقاعد المسؤولية، ويصم آذانه عن الاستماع لأصوات الناس وأنينهم، وينغمس بامتيازاته ويدافع عنها بالمزيد من النفاق والقرارات الخطأ، أما الطرف الثالث فهو الآخر المتربص الذي يمارس وظيفة الدس والتشويه والتحريض، وربما الدعم، في سياق حرب نفسية أحيانا، واختراق مدروس أحيانا أخرى. لا يختلف الأردنيون، مهما كانت مواقفهم، على أن بلدهم أصبح مستهدفا، وربما يعتقد بعض المحسوبين على يمين المعارضة أن الاستهداف وصل للحلقة الأخيرة، خطاب الدولة أيضا يركز على مسألة الاستهداف ويتبناها للرد على أصوات المعارضين، ما يعني أن ثمة “مشتركا” يمكن للجميع أن يلتقوا عليه، المشكلة تبدأ بتشخيص هذا الاستهداف، ثم التوافق على أسبابه والمتسببين فيه، وصولا لكيفية الخروج منه. سأتجاوز، لأسباب يدركها القراء الأعزاء، عن تشخيص حالة الاستعصاء العام التي وصلنا إليها، ثم التجارب التي ولدت لدى الأردنيين مزيدا من الخيبات وعدم الثقة، سأتجاوز، ثانيا، عن القطيعة التي حدثت بين المئويتين وانتهت بعد تحديث الدستور لتشكيل ملامح “مملكة” جديدة ونظام سياسي وعقد اجتماعي مختلف، سأتجاوز، ثالثا، عن تفاصيل الاستهداف الذي يتعرض له الأردن، ونصيب المشاركين فيه وأهدافهم، والنتيجة التي وصلوا إليها بعد هذه السنوات من الاشتباك، والفعل المدروس، والنوايا غير البريئة. أتجاوز ذلك وغيره، لأشير لثلاثة نقاط يفترض، بتقديري، أن تحظى بنقاشاتنا واهتمامنا، سواء كنا في موقع المسؤولية، أو منخرطين بالعمل العام، أو مواطنين متفرجين، أو مشغولين عن الهم العام بهمومنا الخاصة. النقطة الأولي: الإجماع على قضية “الاستهداف” المبرمج، والاعتراف به، يفترض أن يحفز لدينا الحس الوطني ويشحذ الهمة الوطنية، للخروج من لحظة الترقب والخوف واليأس نحو اليقظة والوعي والاستبصار، مهمة ذلك تقع على عاتق”النخب” السياسية والفكرية والاجتماعية، فهي المؤهلة للاشتباك مع الواقع من خلال طرح الأسئلة والإجابة عنها، إذ لا يمكن للدولة، أي دولة، أن تسير بتوازن وهي ترى بعين واحدة، هي عين من يمارسون الوظيفة العامة، وظيفة النخبة، معارضة أو موالية، هي التدخل بالعين الأخرى لإكمال رسم الصورة، وتحمل تكاليف ذلك. النقطة الثانية: إن تركيبة بلدنا السياسية والاجتماعية، وما جرى من ترسيم للعلاقة بين مكوناته وبينهم وبين نظامه السياسي، يفترض (بل يجب) أن تكون مقدسة سياسيا، ولا يجوز العبث بها من أي طرف كان، وبالتالي فإن أي نقاش حول ما يستهدف الدولة، بوجودها لا حدودها فقط، ينصرف بالضرورة للتأكيد على هذه الثوابت أولا ، ثم ترميم ما جرى من تجاوزات عليها. لن يتم ذلك الآن بسهولة، وإنما يحتاج لوقف حالة التشرذم والصراعات على تخوم المصالح والحسابات الضيقة، ونزول الجميع من فوق الشجرة، للالتفاف حول هدف واحد، وهو حماية البلد والحفاظ عليه، ودفع العاديات عنه، هذا يحتاج لمصارحات عميقة ، وتنازلات قد تكون مؤلمة، والأهم أن يتم ذلك في إطار الصالح العام، بعيدا عن التصنيف لمن هو وطني أو غير وطني. أما النقطة الثالثة فتتعلق بالأرضية التي تسمح لإنشاء مثل هذه التفاهمات والتسويات، أو لتصحيح المناخات والمسارات، أقصد الخروج من الماضي للمستقبل، أقترح هنا أن تبادر الحكومة لإصدار “كتاب أبيض” يجيب علي كافة الأسئلة التي تثار حول قضايا الفساد والخصخصة وبيع الممتلكات العامة، ثم ما حصل على صعيد التحديث السياسي ومخرجاته، وأثرها على الهوية الوطنية والعقد الاجتماعي..الخ، وبالمقابل أن تبادر النخب التي تمثل المجتمع لإصدار مدونة سلوك أو ميثاق يتوافقون فيه على ثوابت الدولة وشرعية نظامها السياسي ومصالحها العليا، وحدود المعارضة الوطنية.. ربما يكون هذا كفيل بأن نبدأ ولو خطوة واحدة نحو الأمام.