صراحة نيوز – بقلم الأستاذ عبدالكريم فضلو العزامٍ
إنّ الحُــزن يُذيــبُ القَلـــبَ ويُجفِّـــف الدَّمــعَ, فلعـلَّ فِــراق المُفَــارِقِ لِمَـــن ألِــف صُحبتَــه شَــيءٌ عظيـــم, يَتـرُكُ المُفَـارِق أحبّتــه وقلبُــه يتقطَّع في حنايا صَـدرِه, يتـرُك أحبَّتــه والدُّموع تتدافَـعُ في عينيــه ولكنَّها لا تجِــد السَّبيــل إلــى المآقـي, يتــرُكُ أحبَّتـه مُكرَهاً وهُـوَ يُجَــرُّ على وجهِـهِ المُمَـرّغ بالتُّــراب, مشـدوداً بناصيتِــه, يُغــادر الأحبَّــة؛ مِنهُـــم الواجِــمُ الكاظِــمُ لغيظه, ومنهُــم المُتألِّــم الذي لا حــول له ولا طَــول, ومنهُـم الذي يَتساوى عِندَه بقَــاء الحبيــب مع عَـدَمِـه, لأنَّــه نَسِــيَ كُـلَّ الصٌّحبــة والتاريــخ, وتخلَّى عـن كُـلِّ المشاعِــرِ والعواطِـف, حتَّى أنَّ بعضَ الأصحـاب عاد لا يفكِّــرُ إلا بعيشـة كَـلّ يومٍ بيومِــهِ وكُـل ساعةٍ بساعتها، يَلِــغُ في أقـداحِ الحياةِ التـي صارت مليئـةً بالذُّل.
يــوم الأثنيــن الموافــق 14-5-2018 ألبَــسَ المُغتصبُــون القُــدسَ أكفانَهــا وهي على قيـــدِ الحيــاة, لبِسَـت أكفانَها كالمُجاهدين الذيــن يُلَفُّـــون بالكفــن وجِراحُهــم تنــزِف دُون غُسْـــل.
وقــام حَولها المُشيِّعــون الذين لا تَفْقَــه لُغَتَهُــم، ولقَّنهــا في قبرِهــا قَتَلَــةٌ مُجرِمُــون, وألقــى عليها نظرةَ الوداع مِن جميــلات الأرض التـي يُحِبُّهــا العــرب.
قبــل أن تغيــب وتتــوارى في تُربتِهــا إلى أنْ يشــاء الله.
صاحَ بعـضُ المَحزُونينَ عليها يطلبون مِن القُـدس أن تلتفــت إليهِــم لِيَرُوا عُيونهـا التي ألِفـوهـا آلاف السنين, وليذكروا ثَديَهـا الذي شربُـوا من حليبه, وليقرأوا من على مآذنها ومساجدهـا ومنابرها وكنائِسها وصُلبانها ما كان يوماً يملأ عقولهـم في الفكــر والأنَفَـــةِ.
صاحَ هؤلاء (البعض المحزونون): يا قُـــــدس إنَّا نُحبُّـك والله, إنْ نسيَـكِ وتركَـكِ أكثَـرُنــا، لكنَّنـا نحـن ما زلنـا وسنظَـلُّ على العهــد.
صاحَ هؤلاء , لكــنَّ القُــدسَ لـم تلتفــت لأحَــد.
فارقتنـا القُــدس وهـي أشَــدُّ ألماً مِنَّــا لأنَّها تُفـارقُ مـن يُحبُّهـا مِـن الأحيـاء, وتُفـارق مـن أحبَّها مِن الأمـوات ولعلَّها أكثــرُ إحساساً وأرهَــفُ مشاعـراً مِنَّــا, فهـي تستحضـرُ تاريـخ كُـل مـن عاشـوا فيهــا, وتستحضـرُ حُبَّهــم لها وتضحيتهــم من أجلِهــا, تذكــرُ مَـن مشــوا آلاف الأميال على أقدامهـم ليتسلَّمــوا مفاتيحَها, وتذكـر من جَبَلُــوا تُرابها بدمائِهم ودماءِ أبنائِهم, تذكُــر التاريـخ كلـه فتبكـي لتجبـل تُـراب قبرها الذي سيغيّبهـا في لحــود الزَّمــن.
لعــلَّ القُــدس لم تلتفِــت إلينـا, لأن بيننا الكثيـر ممَّــن باعَها بكُـرسِي أو حفنــة من المال.
ولعلَّ بيننـا من يتباكَـى عليها كمن يقتُـل القتيـل ويُشارِك بحمـل جثمانِـه باكياً.
لعلَّها لم تلتفِـت إلينـا لأن بيننا شيوخ وأئمَّـة نسـوا كلمـة الحـق, ونسـوا ثوابِـت الدِّيــن وأركانـه, نســوا كُــل ذلك, وهـم ينعمـون بالقصــور الفارِهة والنِّعمــة غيـر المقطوعـة أو الممنوعـة في حياتِهـم.
شيوخاً ما عادُوا يعرفون من الديـن إلَّا أركان الوضوء وأركان الصلاة.
يا قُــــدس:
إنَّــا حَـزانى والله لفراقِــك ونعـرِف أنَّ فِـراقــك قــد يَـطــول ويَـطُــول, لأنَّنـا بِتْـنـا نعيـش زمناً يغلــب فيــه النسيــان, وصـار أكثــر النَّـاس يعيشـون مقولـة القائــل: (من يغيــب عن العيــن يغيــب عـن الذِّهـن). وصـار كـل واحِـدٍ فينـا يا قُـدس يسْـألُ عـن سلامةِ رأسِـه.
يا قُــــدس:
مَـرَّت عليـك عصــور, كنــتِ تفارقيننـا فيها أحياناً, ولكـن صَحبَـكِ في كُـلِّ مرَّة كانُــوا جميعاً يظلُـون على العهـد, لا ينامُــون الليــل ولا تهنأ لهُـم حيـاة حتَّـى تَعُـودِي إلى حُضنِهِـم؛ يُقَـبِّلُـون جبينَـك المُقَـدَّس المُعطَّـر بِرائِحَـةِ العـــرش.
أمَّا اليــوم فإنَّـك تُفارِقِيــن ولا يرنُــو إليــكِ مِـن بعيـــد سِـوى حفنــةٍ مِمّــن حفظــوك وسيحفظونَـك فِـي قُلُـوبِهِـم ما دامُـوا أحيــاء, وسيورِّثُــون حُبَّــــكِ لأبنائهــم بعــد المَمَـــات.
يا قُــــدس:
يقُــول ربُّ العِــزَّةِ سبحانه وتعالى:( كم مِـن فِئَــةٍ قليلــةٍ غلبت فِئَةً كثيــرة بإذن الله والله مع الصابرين ).
إنَّ في الأمَّــةِ فِئَـــة قليلــة تُـؤمِــنُ بِلِقَــاءِ الله تحمِـــل همَّـــكِ, وهَـــمَّ فلسطيــــن, وهَـــمَّ كُــلِّ الأمَّــة, والله معها كما وعَـــد.
إنْ أخَـذوكِ وبنـــوا الأسوار حولك, و جاؤوا بِكُـــلِّ مُشيِّعِــي الأرض ليَحضُروا جنازتــك, وقرأ بعـض مشايخنا الفاتحـة على قبــرك, ستظـلِّين حيَّــةً طَرِيَّــةً في قبــرك, تنتظريـن مَـن يطلُــب الآخرةَ بِــكِ, تنتظريـــن من سيبكيــك عنـد كُـلِّ أذان وفي كُـل صـــلاة.