أبو ظبي – صراحة نيوز – ماجد القرعان
للمرة الثالثة على التوالي يحصل شاعر سعودي على لقب “أمير الشعراء” في الموسم الثامن الذي انتهت المنافسات بين شعرائه ليلة أمس، وذلك بفوز سلطان السبهان الشمري والذي سبقه إلى اللقب في الموسم السابع الشاعر إياد الحكمي، وفي الموسم السادس الشاعر حيدر العبدالله.
متقدماً السبهان بذلك على الشاعرة الإماراتية شيخة المطيري، والشاعر المصري مبارك سيد أحمد، والشاعر السنغالي محمد الأمين جوب، والشاعر المالي عبدالمنعم حسن محمد، والشاعرة المصرية هبة الفقي، وذلك بعد منافسات أرّقت هؤلاء الشعراء، وقضّت مضاجعهم على مدار الأسبوعين الماضيين، وهم الذين عارضوا ليلة أمس بيتين لأبي الطيّب المتنبّي وزناً وقافيةً، وهما:
وَما الخَيلُ إلاّ كالصّديقِ قَليلَةٌ وَإنْ كَثُرَتْ في عَينِ مَن لا يجرّبُ
إِذا لم تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِها وأَعْضَائِها فالحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ
حيث اختارت اللجنة هذين البيتين ليكونا بمثابة احتفاءٍ بديوان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (قصائدي في حب الخيل). وخلال الأمسية قدم كل شاعر وشاعرة قصيدة لم تقل عدد أبياتها عن ثمانية ولم تزد عن اثني عشر بيتاً حسب الشرط الذي وضعته اللجنة.
وبعد جمع درجات لجنة التحكيم مع درجات تصويت الجمهور؛ تمكّن الشاعر سلطان السبهان الشمري من الفوز بالمركز الأول، ليحمل لقب “أمير الشعراء” وبردة الشعر وخاتمه، ويحصل على جائزة نقدية مقدارها مليون درهم إماراتي، وحلّت في المركز الثاني الشاعرة الإماراتية شيخة المطيري، وجاء ثالثاً الشاعر المصري مبارك سيد أحمد، وكان المركز الرابع من نصيب الشاعر السنغالي محمد الأمين جوب، وفي المركز الخامس حلّ الشاعر المالي عبدالمنعم حسن محمد، أما المركز السادس فكان من نصيب الشاعرة المصرية هبة الفقي.
وفي مسرح “شاطئ الراحة” حيث تقام مسابقة “أمير الشعراء”؛ أُسدل الستار على الموسم الثامن من المسابقة، بعد أن تم تكريم الفائزين من قبل معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح، ومعالي اللواء الركن طيار فارس خلف المزروعي عضو المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي رئيس لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، وعيسى سيف المزروعي نائب رئيس لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية، وسلطان العميمي مدير “أكاديمية الشعر”، وأعضاء لجنة التحكيم د. علي بن تميم، ود. عبدالملك مرتاض، ود. صلاح فضل، وكذلك الشاعر السعودي إياد الحكمي “أمير الشعراء” في الموسم السابع.
درجات لجنة التحكيم
حسب قانون المسابقة؛ فإن للجنة التحكيم 60 درجة في آخر حلقتين، تم توزيعها مناصفة على الحلقة التاسعة وعلى الحلقة العاشرة والأخيرة التي كانت ليلة أمس، وبناء على الدرجات المخصصة للتحكيم؛ أعلنت مقدمة البرنامج لجين عمران وعلى الهواء مباشرة عبر قناتي “الإمارات” و”بينونة”؛ أن اللجنة منحت أعلى درجاتها للشاعر محمد الأمين جوب والذي حصل على 55 درجة، وثاني أعلى الدرجات والبالغة 54 درجة ذهبت لشيخة المطيري، أما عبدالمنعم حسن فحصل على 52 درجة، وتبعه في الدرجات سلطان السبهان الشمري الذي حصل على 49 درجة، ثم مبارك سيد أحمد الذي منحته اللجنة 47 درجة، وأخيراً هبة الفقي التي حصلت على 46 درجة.
أما الدرجات الـ40 المتبقّة؛ فهي مخصصة للجمهور الذي صوّت للشعراء عبر موقع البرنامج وتطبيقه الإلكترونيين، فكانت له الكلمة الفصل في ختام الحلقة.
الشمري.. عذوبة المعنى
الشاعر سلطان السبهان الشمري كان أول شاعر في الأمسية، وقد ألقى قصيدته (أُغالِبُ فيّ الطين) التي أهداها لأولئك الذين يموتون من دون أن يشعر بهم أحد، وللنازحين، وللغارقين في عبّارة نينوى العراقية.
وقد وصف د. مرتاض القصيدة بأنها بديعة، وذات لغة معجمية جزلة وفخمة وقوية وعارمة، في حين أن ألفاظها الشعرية أنيقة وسلسة ورشيقة ومنسابة، ومما جاء في الأبيات الأولى من تلك القصيدة:
إلى سدرةِ الأسرارِ ناداهُ كوكبُ
بُرَاق مَجازيٌّ وحَدس مُجرَّبُ
تَلَألأ في دربيْ وبلّلَ فكرتيْ
وما زال يغويني وما زلتُ أكتبُ
معيْ في انتظار الشعرِ فوضى تَصُبُّ ليْ
نبيذَ استعاراتٍ لها الروحُ تَطرَبُ
وكِسْرةُ مَعنىً مَدّها الصمتُ بعدما
تَثاءبَ فانوسانِ والليلُ يَشربُ
أنا ابنُ الجهاتِ السُّمْرِ أَشرَعْتُ ضحكتي
لِيَأويْ إلى قَلْبيْ غريب ومُتْعَبُ
أفتشُ في الصّلصالِ عن صوتِ آدمٍ
وضحكاتُهِ الأولى على الأرض تُعشِبُ
د. صلاح فضل وصف الحلقة بأنها القمة، حيث يواجه الشعراء حكم القيمة في درجات النقاد، وحكم الواقع في تصويت الجمهور، موضحاً أن ليست هناك قيمة واحدة، إنما عدة منظومات لقيم متراتبة ومتحركة، ولعل أولها الجودة، أي جمال الشعر وقوته وقدرته التعبيرية.
وأضاف د. فضل بأن سلطان وصل في نصّه إلى سدرة المنتهى التي افتتح بها الكلام بقوله: (إلى سدرةِ الأسرارِ ناداهُ كوكبُ/بُرَاق مَجازيٌّ وحَدس مُجرَّبُ)، لكن الشاعر عندما وصل إلى شعريته فتش في الطين عن صوت آدم، وبحث عن إنسانية الإنسان التي تعتبر قيمة جميلة وثقافية، إلى جانب إعلان الشاعر عن تأخره في عدة أشياء وهي: الحب وصلواته وعدد ركعاته، ومحاربة الفساد، ونموذج عبّارة نينوى العراقية التي غرقت، وتأخر كذلك في مناصرة المهمشين.
ومما وجده د. فضل في النص أن سلطان يتذكر الشاعر جده المتنبي كي يبرر تأخره في مناصرة هؤلاء، ووجد أيضاً جمالاً في اعتراف الشاعر بقصور سعيه الإنساني وهو المضمخ بالعطر الشعري النفاذ.
وقال د. علي بن تميم إن سلطان جارى نص أبي الطيب المتنبي مجاراة فيها إتقان وعذوبة في المعاني، موضحاً أن المتبني بنى بيته الذي قال فيه: (أُغالِبُ فيكَ الشّوْقَ وَالشوْقُ أغلَبُ/وَأعجبُ من ذا الهجرِ وَالوَصْلُ أعجبُ) على ثنائية الوصل والهجر، فيما بناه سلطان على ثنائية مختلفة تتجلى في العنوان (أُغالِبُ فيّ الطين)، أي على جدل الرّوحي والطيني أو السماوي والأرضي.
وأوضح د. بن تميم أن الشاعر بدأ قصيدته بالسمو والعلو والتعالي من خلال المفردات (سدرة المنتهى، البراق، كوكب)، ثم انتهى بالتلاشي والانطفاء، وهو ما تمثل في المفردات (نُصلَب، نموت، نَغرُب، نُحبَس، نُعطَّل).
وأشار د. بن تميم إلى أن الشاعر في معظم قصائده التي قدمها في هذا الموسم بدأ بكبرياء المتنبي، ثم انتهى بسوداوية المعري، وظل يدافع عن الإنسان في ضعفه وانكساره، وفي أشواقه وحنينه المستمر، وفي مصائبه ورغبته الدائمة في الحب، وحتى في الموت الذي صار طيباً، مؤكداً الناقد أن كل تلك الثنائيات كان قد اعتاد عليها المتلقي من سلطان طيلة هذا الموسم، خاتماً رأيه بسؤال “هل ستكون سدرة المنتهى بردة الشعر وإمارته، والبراق هو القصيدة في أمير الشعراء؟ أنت في كل الأحوال فارس من فرسان الشعر .. أتمنى لك التوفيق”.
المطيري.. شفافية الشعر
قصيدة (وحي الزّجاج) استدعت د. علي بن تميم لوصف قائلتها الشاعرة شيخة المطيري بأنها تعكس الشجن الشفيف والحب الذي يفارقه الأمل، ومع ذلك فإن ما قدمته صادق وحقيقي وعميق، ومن الأبيات التي ألقتها المطيري ليلة أمس:
سماؤك آيات وعيناك مذهبُ فأسر بقلب في هواك يُعذّبُ
يراك عصيّ الوصل شيمتك الجفا وكلّ طريق نحو عينيك يصعبُ
يقولون ليلى في العراق وها أنا بكل سماوات الهوى أتقلّبُ
وقفت على المرأة أرقب حزننا متى يا مرايا شبهعيني تعرّبُ
وأسمع في المرآة ناياً لغربتي أنا لحن من غابوا فمن بي سيطربُ
وأرسم في المرآة ريح قميصه ليبصر قلبٌ هده الشّوق متعبُ
وأرسم في المرآة عين خليلنا وأشرب من جذر الهيام وتشربُ
ثم أشار د. بن تميم إلى أن الزجاج الذي ورد بدايةً في عنوان القصيدة (من وحي الزّجاج) يشير إلى الصلابة والشفافية، وكذلك إلى سهولة الانكسار، واصفاً شعرية النص بأنها زجاجية، أو إيقاعها زجاجي، وهو ما دلّ عليه البيت الأخير: (وأكتبُ من وحي الزّجاج قصيدةً/أغالِب فيها الشّوق والشّوقُ أغلبُ) والذي يوحي بأن الزجاج عكس تجارب الآخرين، وخصوصاً حين قالت الشاعرة: (يقولون ليلى في العراق وها أنا/بكل سماوات الهوى أتقلّب) فعكست شخصية قيس بن الملوّح وليلاه، وعكست شخصية أبو فراس الحمداني بقولها: (يراك عصيّ الوصل شيمتك الجفا/وكلّ طريق نحو عينيك يصعبُ)، في حين حضر قميص يوسف بقولها: (وأرسم في المرآة ريح قميصه/ليبصر قلبٌ هده الشّوق متعبُ)، ثم أطل المتنبي في أحد أشطر النص ليكون مسك الختام (أغالِب فيها الشّوق والشّوقُ أغلبُ).
وعلّق د. بن تميم على تكرار مفردة المرآة أربعة مرات في القصيدة، وهو ما يؤكد – حسب قوله – حرص الذات على أن تكون ناظراً من جهة، ومنظوراً إليها من جهة أخرى، وهو الأمر الذي كاد أن يتكرر في جميع قصائد شيخة التي شاركت فيها خلال الموسم.
من جانبه رأى د. عبدالملك مرتاض أن شيخة سمعت في مرآتها ناياً، ورسمت في قصيدتها صوراً أنيقة ورشيقة وشفيفة وبديعة، ووجد أن المسكوت عنه في قصيدتها أجمل من المنطوق به، وكأن الشاعرة خاطبت قصيدتها في وادي عبقر بعد كتابتها قائلة “أنت يا قصيدتي كنت شذى منتشراً وعبقاً منتثراً”.
وقبل أن يدلي د. صلاح فضل برأيه النقدي؛ أكد أن أعضاء اللجنة يبحثون عن قيم الشعر في النصوص التي يسمعونها كون الشعر يصنع منظومة القيم، والتي وجد بعضها في قصيدة شيخة التي ألقتها ليلة أمس، وفي قصائدها السابقة.
وقال إن الشاعرة تحرّك بوصلة الشعر في اتجاه قيم ثقافية وحداثية مبتكرة، وتستلهم وحي الزجاج بشفافيته ومرآة الذات، وتجيد توظيف الموروث الشعري كما تبين في النص الذي ألقته، ومع ذلك فإن هذا الأمر لا يجعل الشاعرة تسجن نفسها في مرآتها الفردية، إنما حملها على الانتقال إلى ضمير الجماعة لأنها شديدة الإخلاص للفن، فعبّرت عن الذات الجماعية للشعراء والمبدعين.
وأضاف أن الشاعرة رسمت في النص قميص يوسف، وسمعت في المرآة ناي الغربة، وكتبت قصيدة غزلية في الشعر لتصل فيها إلى جوهر الفن، وقصيدة مغموسة في رسائل الفن الاجتماعية والثقافية.
عبدالمنعم.. يقدم ثراءً ثقافياً للشعرية العربية
ثالث شعراء الحلقة كان الشاعر عبدالمنعم حسن محمد الذي ألقى نصّه (نهرٌ من صهيل). وعمّا قدمه ليلى أمس قال د. مرتاض: إن الشاعر أدهش الأواخر بعد الأوالي، فدبّج أبياتاً فائقات الجمال، وخصيبات الخيال، تسحر العقول والقلوب بالتيه والدلال، ولو كان الشعر من ذهبٍ؛ فإن شعر عبدالمنعم إبريزه ونُظاره، ولو كان من سحرٍ لكان ما قال رونقه وبهاءه ورقّته ولباقته وروعته وسناءه.
ومما ألقاه الشاعر عبدالمنعم من ذاك النص:
ذُرى العمر ضَبْحاً، خيلُ ذكراك تَنهبُ
تخُبُّ وتُوري القدحَ.. والتَّوق يُلهبُ
إلى أين يا وجدَ السُّرى تُسرِج الظما
وحولك أنهار الهوى ليس تنضبُ؟!
هنا فتنة الكاكاو، تحت ظلاله
مَدًى تصطفيه العاديات وملعبُ
وِهادٌ لأحلام الصهيل، مفاوزٌ
لركض الأماني، مطمح الشوط أرحب
فمن قطن “تمبكتو“ السماوات تكتري
غيوما إذا ما امتد للقحط مخلب
يلوح مجاز الّلون من شرفاته
كما لاح في ليل النّديم مُذنّب
والقصيدة تعبر بقوة ووضوح عن الخصائص المميزة لشعرية عبدالمنعم العارمة كما قال د. صلاح فضل، مؤكداً أن القصيدة تعبّر عن تجربة الشاعر وعن تجربة بني قومه، حيث فتنة الكاكاو، وقطن تمبكتو، وبريق عيون السمراوات، وحيث يصبغ ألوان قماشته الشعرية بالثروات الطبيعية والمعنوية، وبهذا فإن الشاعر يضيف ثراءً ثقافياً للشعرية العربية بقصيدته تلك.
ووجد د. فضل أن عبدالمنعم يجرؤ على استخدام صيغةَ تداولٍ نقدها البلاغيون، تمثّلت بما قال جرير للخليفة عبدالملك (أتصحو أم فؤادكَ غيرُ صاح/عشية همَّ صحبكَ بالرواحِ)، فوظّفها عبدالمنعم مرة أخرى، ومنحها شفافية وجمالاً جديدين، ليقول: (بريقُ عيونٍ آسرٍ ومفاتنٍ/ إلى ثمرٍ في جنّة الحور تُنسبُ).
وختم د. فضل بالتعبير عن جمال خاتمة القصيدة المبتكرة في تخيّلها، حين قال: (مُنى النفسِ أفريقيةٌ من سوارِها/تطيرُ فراشاتٌ ويبزغُ كوكبُ)، مؤكداً أن شعر عبدالمنعم هو الذي تطير منه الفراشات وتبزغ منه النجوم.
وقال د. علي بن تميم إن القصيدة تحتفي باللون الأسود، وهو احتفاء يتبدى في اللغة والمجازات والصور والأخيلة، فجعل الشاعر من الأسود رمزاً للجمال، محاولاً تقويض التحيّزات التي يدعمها تاريخ ضخم من الشعرية العربية، ومقاومة مركزية اللون الأبيض وسيادته، فكان الشاعر كالرسام الذي يمحو التحيّزات اللونية التي علقت بالأسود، فقال في النص: (هنا فتنة الكاكاو، تحت ظلاله/مَدًى تصطفيه العاديات وملعبُ).
وأوضح د. بن تميم أن الكاكاو يرمز إلى السواد الجميل والمذاق العذب والقوة، وهو ملعب لوني قوي وجميل تسرح فيه الخيول، وبهذا المعنى من الطبيعي أن يحتفي النص بالقارة السوداء، وهو ما يؤكده البيت: (مُنى النفس أفريقية من سوارها/تطيرُ فراشاتٌ ويبزغُ كوكبُ).
ولفت د. بن تميم إلى أن الشاعر في جميع قصائده التي ألقاها في “أمير الشعراء” بموسمه الثامن كان يتمرّد على التحيّزات، ويحاول تقويضها وتفكيكها بشكل ذكي وشعري وبشكل عالٍ، ويقدم أخيلة بكر خالية من الشوائب، وكونه نجا من التحيزات اللونية، ومن التعصب العرقي؛ فقد قدّم الإنسان بصرف النظر عن لونه، ومن دون تعالٍ أو شعور بالنقص.
مبارك.. غنائية الشعر
الشاعر مبارك سيد أحمد ألقى قصيدته (نَمشي مَعاً) التي أهداها لأصحاب الهمم الذين شاركوا في أولمبياد أبوظبي 2019، تلك القصيدة التي دفعت د. مرتاض للقول إن مبارك فصيح اللسان، حسن الإنشاد، يمتع السامع بصوته وشعره معاً. ومما جاء في تلك القصيدة:
خُطَايَ على تِبرِ التَّفَاعيلِ تَرهَبُ
بَريقاً بِهِ مِن قبلُ كانتْ تُرَغَّبُ
أمامِيَ أضواءٌ تُعَرّي مَشَاعِري
وخلفي جِراحَاتي.. ولا ثَمَّ مَهرَبُ
وقُربِيَ جَلَادٌ أنيقٌ سِياطُه
عِتَابٌ بِهِ ظَهرُ الأحاسيسِ يُلهَبُ
تَقَوَّستُ إيمَانًا بأسهُمِ أحرفِي
فَلمْ تكتَرثْ بِي وَهْيَ نَحوي تُصَوَّبُ
وأَمسيتُ مهموماً بِغيري فَأصبَحتْ
همومِيَ ألحاناً لهَا الغيرُ يَطرَبُ
دَمِي مُثمِرٌ بِالحُبِّ، خُضرٌ مَدامِعي
فَما سِرُّ إحسَاسِي بأنيَ أُحطَبُ؟!
ومطلع نص مبارك ذكّر د. صلاح فضل ببيت الشاعر محمود سامي البارودي (سِوَايَ بِتَحْنَانِ الأَغَارِيدِ يَطْرَبُ/وَغَيْرِيَ باللَّذَّاتِ يَلْهُو وَيُلْعَبُ). لكن عندما قال مبارك: (وقُربِيَ جَلاَدٌ أنيقٌ سِياطُه/عِتَابٌ بِهِ ظَهرُ الأحاسيسِ يُلهَبُ) فلم يتبيّن الناقد بداية إن كان القصد لجنة التحكيم، وربما الجمهور الذي يريد للشاعر أن يكون في الموقع الأول دائماً.
وأشار الناقد إلى اعتراف الشاعر في الصورة الرائقة التي أبدعها حين قال: (دَمِي مُثمِرٌ بِالحُبِّ، خُضرٌ مَدامِعي/فَما سِرُّ إحسَاسِي بأنيَ أُحطَبُ؟!)، معتبراً أن ذلك الشعور دقيق ومرهف ورقيق.
كما وصف د. فضل موهبة مبارك بأنها ناضجة، وذاكرته الشعرية قوية، وما يؤكد ذلك استحضار المتنبي والمعري في البيت الأخير من النص: (مشينا معاً، والشعر يُحصي وراءنا/خُطى – حين نمشيها – على الدهر تُكتب).
ورأى د. علي أن القصيدة تصور رحلة الشاعر في برنامج “أمير الشعراء”، وهي رحلة مملوءة بالطموح والآمال، والخوف من الإخفاق، وفي البيت الثاني يستعير الشاعر مقولة طارق بن زياد (البحر من ورائكم والعدو من أمامكم) ليقول شعراً: (أمامِيَ أضواءٌ تُعَرّي مَشَاعِري/وخلفي جِراحَاتي.. ولا ثَمَّ مَهرَبُ)، متسائلاً إن كان الشاعر يعتبر التحكيم خصماً بقوله: (وقُربِيَ جَلاَدٌ أنيقٌ سِياطُه/عِتَابٌ بِهِ ظَهرُ الأحاسيسِ يُلهَبُ).
من جانب آخر أوضح د. بن تميم أن شعر مبارك توزع بين اليأس والرجاء، وهي الصورة التي قالها ابن الرومي في بيتيه: (تنازعني رغْبٌ ورهب كلاهما/قويٌّ وأعياني اطِّلاعُ المغايبِ، فقدمتُ رجلاً رغبةً في رغيبةٍ/وأخّرتُ رجلاً رهبةً للمعاطبِ).
وختم الناقد بتأكيده على أن مبارك كان مبدعاً ومتألقاً في القصائد التي ألقاها على مسرح “شاطئ الراحة”، معتبراً أنه شاعر غنائي يصنع لغته وإيقاعه من بيئته، لينطلق بها نحو الآفاق البعيدة.
لكن د. مرتاض رأى أن لغة الشاعر لا تزال تلاقي بعض العوائص في استعمال الشعرية، والتي كأنها تتأبى عليه، ومع ذلك فإن مبارك يتميز بصوته الجهوري وفصاحته التي تأسره المتلقي. وما أعجب د. مرتاض البيت: (أغنّي وبي قلبٌ على الجمرِ قابضٌ/أما للأسى دربٌ سوى أذهبُ).
جوب.. نابغة الشعراء
خامس شعراء الأمسية كان محمد الأمين جوب الذي حاز على إعجاب مطلق من أعضاء اللجنة بعد أن ألقى نصه (خريطة في جغرافية السلام).
ومما قاله د. علي بن تميم عن الشاعر وعن مجمل ما قدمه على مدار المسابقة: إن جوب في جميع قصائده التي شارك فيها كان مبدعاً ومتألقاً ونبيلاً، يتمسك بالإرادة والأمل والشاعرية العالية.
ومن الأبيات الأولى من قصيدة الشاعر اقتطفنا:
عَلَى مَرْفَأ الأَحْلاَم
يَهْتفُ بي أَبُ
وَطفْلٌ أَمَامَ الكُوخِ
يَهْذي وَيَلْعَبُ
أَنَا الآنَ في غَرْب الطَّبيعَة وَاقِفٌ
كَدَرْويشَةٍ في حَضْرَة الكَشْف تهربُ
أَنَا المَلكُ الضّلّيلُ، )لُورْكَا( يَقُولُ لي
إلَى سدْرَة التَّاريخ نَعدُو وَنَطْربُ
فَسِرِّيَ أَن أَبْقَى عَلَى الأَرْ ض غَيْمَةً
خَريفيَّةً تُغْرِي وَلاَ تَتَصَبَّبُ
فَلي لُغَةٌ تَبْكي وَتَضْحَكُ خِلْسَةً
وَلي شَجَرٌ عندَ المَجَازَاتِ يُعْشِبُ
سَلاَماً أَبُوظَبْي
سَتَرْسُو سَفينَتي
أَمَامي نُجُومُ الخُلْدِ
وَهْيَ تُرَحِّبُ
دَعُوا لي مَكَاناً
بَعْدَ سَبْع سَنَابلٍ
فَمن خِفَّةٍ أَسْمُو
ليَمْتَدَّ كَوْكَبُ
بدأ د. علي بن تميم من البيت الذي قال فيه جوب: (أَنَا الآنَ في غَرْب الطَّبيعَة وَاقفٌ/كَدَرْويشَةٍ في حَضْرَة الكَشْف تهرب)، حيث يعبّر فيه الشاعر عن توقه إلى الوصول، كما يبدي خوفه من ذاك الوصول، ولهذا كان جوب يفارق دائرة اليقين ليتشبث كثيراً بالشك والنسبية اللتين يلتقي بهما الشعر.
وكشف الناقد عن تبصر الشاعر في نصّه لمصائر الشعراء، بدءاً من الملك الظليل امرئ القيس الذي مات مسموماً، إلى لوركا الذي مات مقتولاً، فلقي هذين الشاعرين مصيرهما التراجيدي، ومع ذلك بقيا مخلصين للشعر وحاولا دائماً الوصول إلى ذرى الشعرية العالية.
من ناحية أخرى وجد د. بن تميم أن قصيدة جوب تحولت عندما تذكّر مسابقة “أمير الشعراء”، فرسم بعذوبة وجمال سحر أبوظبي، واستحضر قصة النبي يوسف والسنابل السبع التي قصد بها المواسم السابقة من البرنامج، آملاً أن تكون السنبلة الثامنة الخضراء من نصيبه هو. كما استحضر قصة النبي موسى الذي خرج من المدينة خائفاً مترقّباً، فيما يترقب الشاعر إمارة الشعر، مستعيراً من مانديلا إرادته وصبره، وهو ما قاله في البيت الأخير(معي ألفُ مانديلا ببسمته التي/تزيدُ اكتمالاً فيه حينَ يُعذّبُ).
ثم عبّر د. مرتاض عن انبهاره بشعرية جوب الإفريقية، وبإفريقيته الشعرية، معرباً عن أنه وجد في الشعر الذي قدمه جوب – ولأول مرة في المواسم الثمانية – يعلو علي أي نقد.
وأضاف د. مرتاض إن الشاعر يمثل السنغال أجمل تمثيل بشعر ملفع بالخيال، ومضمخ بسحر البيان الحلال، وهو الذي أبدع وأمرع وبهر وسحر وأطرب وأعجب، وأن صور شعره لتأتلق، ونسوجه وتشكيلاته تتباهى وتستبق ولا تحترق، بل تتعاشق، وفيه تتعالى الصور الشعرية الإفريقية المجنونة.
من جانبه أكد د. صلاح فضل أن الشاعر ظاهرة مدهشة على مدار دورات “أمير الشعراء”، فقد نبغ من السنغال شاعراً يتفوق على شعراء العربية، وهذا أمر مثير للدهشة والإعجاب الشديدين، وهو الذي جميع في نصه الأخير الذي قدمه ليلة أمس بين امرئ القيس ولوركا بجسارة، أما لغته فهي عجيبة ومجنونة، تبكي وتضحك خلسة.
وأوضح د. صلاح أن الشاعر أخذ من القرآن عدد السنابل، ورسم وجه موسى وهو يترقّب، وحاول رسم خارطة للسلام الشعري في صراعه مع طموحاته، بما يحمل من رؤى جميلة، ورموز أدبية فاتنة. غير أن ضربة الختام الشيقة كانت في (معي ألفُ مانديلا ببسمته)، حيث قفز الشاعر إلى أفق شعري مفتوح وبديع ليثبت أنّه متفرّد.
الفقي.. تتحكّم في اللغة
الشاعرة هبة الفقي كانت خاتمة الأمسية، وهي التي ألقت نصها (قافِيَة ولهَى) الذي دعا د. صلاح فضل لوصف مستوى الشعرية عند هبة بأنه من نوعٍ يُطلق عليه شعرية التواصل الجمالي، وذلك لكونه قادراً على جذب المستمعين والمتلقين وعلى إمتاعهم بعوالمه وفتنته الخاصة، ومما قالته هبة في الأبيات الأولى من نصها:
أُصَدِّقُ وَعْد الْوَصْلِّ دَوْماً وتَكْذِّبُ
وقَلْبي عَلى قَدْرِّ اشْتِّياقيَ مُذْنِّبُ
تَفِّر خُيوطُ الصَّبْرِّ مِّنْ بَيْنِّ أَحْرُفي
وقافِّيَتي وَلْهى تَحنّ وَتَعْتِّبُ
فَمِّنْ أَي نَبْض أَسْتَهِّ لقَصيدَتي؟
وَمِّنْ أَي أَبْوابِّ الْمجازِّ سَأهَرُبُ ؟
تَظَل فُنونُ الْعِّشْقِّ تَرْسُمُ مَذْهَبي
وَما لَكَ في كَوْنِّ الأَحِّبَّةِّ مَذْهَبُ
هُنا قَد بَكَى جِّذْع السطورِّ وأقْفرَتْ
جِّنانُ الْهَوى عنْ مَدِّكَ فتطُيبُ
أَعود إِّلى أَضْلاع غُرْفَتِّكَ التي
تَرَكْتَ عَليْها الْأمْنياتِّ تُعذَّبُ
يَمُر على أطْرافِّ مِّعْطَفِّكَ الْجَوَى
ويَتْبَعُه من زَهْرِّ عِّطْرِّكَ مَوْكِّبُ
ولغة هبة الشعرية – حسب د. عبدالملك مرتاض – عذبة الألفاظ، سلسلة الأصوات، وكأنها تمثل في نفسها شعرية إضافية لما تكتب، وأن الشاعرة قادرة على التحكم في اللغة، وعلى نسج شعر قوي طيع، فاللغة منقادة لها في غنج ودلال، ليتعانق غنج اللغة مع غنج الأنثى الشاعرة، فتخرج اللغة من سيرتها لتشكّل في الآخر شعرية تطفح وجمالاً ينضح، وهذا ما يوضحه البيت: (تَفِّر خُيوطُ الصَّبْرِّ مِّنْ بَيْنِّ أَحْرُفي/وقافِّيَتي وَلْهى تَحنّ وَتَعْتِّبُ)
وأضاف د. فضل بأن الشعراء درجوا على التوحيد بين الحبيبة والقصيدة، وهبة جاءت بالوجه المقابل، فوحدت بين الحبيب وبين القصيد، واصفاً ذلك بأنه لفتة جميلة وماهرة منها.
وأشار إلى أن الشاعرة لا تهرب من أبواب المجاز، إنما تدخل عبرها إلى عالم الشعر، وعتابها على الرجل هو عتاب تردده كل أنثى عاشقة، وخصوصاً بقولها: (تَظَل فُنونُ الْعِّشْقِّ تَرْسُمُ مَذْهَبي/وَما لَكَ في كَوْنِّ الأَحِّبَّةِّ مَذْهَبُ)، فالمرأة – كما قال – موحّدة في الحب، والرجل بطبيعته وثنيّ في ذلك، وبالتالي من حق الشاعرة رصد عذابات الغرف، وروائح المعاطف، وألم الغياب، والاعتصام بكبرياء الحب ونبل أشواقه، أما عرس الإمارة فقد اقتربت منه هبة دون منازعٍ مع زملائها المبدعين.
فيما قال د. بن تميم إن العنوان (قافِيَة ولهَى) يقوم على نص يحتدم بالعشق ويضج بالثنائيات التي تقوم على الصراع والوفاق في ذات الوقت، وهو ما برز في كل مشاركات هبة الشعرية، فهناك جدلية العلاقة بين الصدق والكذب، والوله والصبر، والإقدام والتراجع، والأمنيات والعذاب، وهي ثنائيات رومانسية تذكّر بثنائية الفن والحياة التي جاءت في مسرح توفيق الحكيم، وأن الشاعرة تدير ثنائية الإبداع والشعر والعشق باقتدار، وتنحاز إلى إمارة الشعر من خلال بيتها: (وإن كان للعشّاق عرش وإمرةٌ/فإني إلى عرش الإمارة أقرب)، ما يدل على إبداع الشاعرة، وعلى حضورها البهي، وإلقائها الواثق.
نوستالجيا.. إياد الحكمي
ختام الأمسية كانت مع ضيف الحلقة الشاعر إياد الحكمي “أمير شعراء” الموسم السابع من البرنامج، والذي ألقى قصيدة بعنوان (نوستالجيا)، والتي جاء في أبياتها الأولى:
غداً إذا وجد المنفيُّ تربتَهُ
وزاد في عمرهِ قبراً ليثبته
وصكّ باباً أخيراً ثم سار إلى
ضوءٍ أخيرٍ وألقى فيه جثّتَه
وخطَّ سطراً أخيراً في الهوى ومحا
ومزّق الكاتب الغيبيُّ صفحتَهُ
وأغمضَ القلبَ وانفضّت ملامحُهُ
وغابَ حتى استعارَ الليلُ ظلمتَهُ
ومثلَ كلِّ غريبٍ عاشَ منتظراً
ومات، يكملُ في النسيانِ غُربَتَهُ
تذكّري أنّ طفلاً مرّ في عجلٍ
وشدّ من كلِّ ضوضاءٍ تلفُّتَهُ
الجوائز النقدية
حسب توزيع المكافآت المالية على الفائزين؛ فإن الفائز في المركز الأول يحصل على مليون درهم إماراتي، وصاحب المركز الثاني يحصل 500 ألف درهم إماراتي، أما الفائز بالمركز الثالث فله 300 درهم إماراتي، وللفائز بالمركز الرابع 200 ألف درهم، وللفائز بالمركز الخامس 100 ألف درهم، في حين يحصل صاحب المركز السادس على 50 ألف درهم إماراتي.