صراحة نيوز –
بقلم م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران
كان هناك رجل يدعى خزيمة بن بشر من بني أسد بالرقة من نواحي بلاد الشام يعيش في زمن الدولة الأموية، وتحديداً في زمن الخليفة سليمان بن عبدالملك، وقد كان الرجل ميسور الحال ينفق على كل فقير ومحتاج حتى أنه كان يعطي من لديهم المال من شده كرمه، لكن ولأن دوام الحال من المحال فقد دارت عليه دائرة الدنيا والأيام فأصبح فقيراً معدماً، فجاء بعض من كان يعطيهم من خيره ويمد لهم يد العون، فأعطوه شهراً أو شهرين ثم أصبحوا يتهربون منه بعد ذلك، فما كان منه إلا أن أغلق باب بيته على نفسه والحسرة والحزن يأكل قلبه وجسده وهو لا يجد ما يسد به الرمق هو وزوجته بعد ما كان به من عز ورخاء وقال لزوجته: قد رأيت من إخواني تغيراً، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، وقد كان الوالي المكلف في الجزيرة الفراتية يدعى عكرمة الفياض، وكان يعرف خزيمة بن بشر فسأل عنه، فقيل له: لقد افتقر خزيمة وأصبح لا يملك قوت يومه وأغلق بابه، فاندهش قائلاً: خزيمة إفتقر ولم يجد ممن كان يعطيهم أحد ليقف معه ! خزيمة الذي كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر !!
وفي الليل والناس نيام، خرج الوالي عكرمة وأخفى وجهه وهو يحمل علي ظهره كيساً ثقيلاً حتى بلغ دار خزيمة ثم طرق الباب، ففتح خزيمة، ووضع عكرمة الحمل من ظهره وقال: هذا لك، قال خزيمة: ومن أين؟ قال عكرمة: من مال الله، قال خزيمة: ومن أنت؟ قال عكرمة: أنا جابر عثرات الكرام، قال خزيمة: بالله عليك عرفني من أنت؟، فقال: أنا جابر عثرات الكرام، ثم انصرف مسرعاً، عاد خزيمة وقال لزوجته: أشعلي لنا فانوساً لنرى ماذا أحضر لنا هذا الرجل الملثم، قالت: ليس لدينا فانوساً ولا حطباً نوقده، فأخذ خزيمة يتلمس الكيس في الظلام حتى طلع الصباح، وعندما فتحه وجده ملئ بالمال الكثير فما كاد يصدق، فشكر خزيمة ربه وقضى كل ديونه وأصلح حاله حتى عاد أفضل مما كان، وعندما رجع الوالي إلى بيته، وجد زوجته تلطم خدها وتقول: لا يخرج الوالي في هذه الساعة إلا لزوجة أخرى، فقال: لا والله، فقالت: إذن أخبرني أين كنت؟ قال: لو أردت إخبارك أو إخبار أحد لما خرجت متخفياً ليلاً، فقالت: يجب أن أعرف وألحت ولم تنم حتى قص لها الخبر وقال لها: أكتمي السر ولا تحدثي به أحداً حتى نفسك.
وبعد فترة ذهب خزيمة إلي الخليفة، فسأله: أين كنت يا خزيمة منذ زمن، فقص عليه قصته، فقال له الخليفة: ومن جابر عثرات الكرام هذا ؟ ليتك عرفته، ثم أمر أصدر أمراً بإعفاء عكرمة الفياض الوالي، وتعيين خزيمة والياً بدلاً منه.
رجع خزيمة ودخل قصر الوالي عكرمة الفياض وهو يحمل مرسوم العزل وكان في إستقباله عكرمة بنفسه فسلمه أمر عزله، فقال عكرمة: كله خير، ثم قال خزيمة: أريد أن أحاسبك على مال المسلمين الذي أضعته، فرحب عكرمة بذلك، فوجد خزيمة مبلغاً من المال غير موجود، فقال خزيمة: أين المال يا عكرمة، قال: ليس معي، فقال: إذن رده من مالك، قال: لا أملك مالاً خاصاً يكفي لذلك، فأمر خزيمة بسجن عكرمة، ومر عليه في السجن شهراً أو أكثر وقد وضعت له الأغلال الثقيلة في كتفيه وظهره حتى ضعف جسمه وتغير لونه، وعندها قررت زوجة عكرمة أن تتحرك، فذهبت إلى خزيمة وقالت له: يا خزيمة ما هكذا يجازى جابر عثرات الكرام، فانتفض خزيمة مفزوعاً قائلاً: ماذا تقولين ؟ وكيف عرفتي بقصة جابر عثرات الكرام ؟ فأخبرته الخبر، فصرخ يا ويلتاه، وهرول إلى السجن دون أن يسمع شيئاً آخر، وأخذ يفك الأغلال من عكرمة بيديه ويبكي، وعكرمة يسأله: ماذا حدث ولماذا تبكي؟، وخزيمة يجيبه: من كرمك وصبرك على فعلي وسوء صنيعي وأمر له بالكساء والغذاء، وبعدها أخذه وذهب به مسرعاً إلى الخليفة، فلما رآهم الخليفة سليمان بن عبدالملك قال: ما الذى أتى بك يا خزيمة وأنت حديث عهد بالولاية؟، فقال: أتيتك ومعي “جابر عثرات الكرام” وأظنك كنت متشوقاً لمعرفته، فاندهش الخليفة، وقال: هو عكرمة ؟ خبت يا سليمان وتعجلت، لقد أخجلتنا بطيب صنيعك وصبرك يا جابر عثرات الكرام، وقال له: يا عكرمة، ما كان خيرك لخزيمة إلا وبالاً عليك، ثم قال: أكتب حوائجك كلها وما تختاره في رقعة وسلمنا إياها، فقال له عكرمة: ألا تعفيني من ذلك ؟ فأجابه: لا بد من ذلك، ثم دعا بدواة وقرطاس وقال له: أكتب جميع حوائجك، ففعل، فأمر بقضائها جميعاً من ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار، وبسفطين ثياباً ثم أمر بتوليته الجزيرة الفراتية وأرمينيا وأذربيجان، وقال له: أمر خزيمة إليك، إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته، فقال : بل يبقى على ولايته، ثم انصرفا جميعاً، ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته.
قصة لابد وأنها تتكرر في كل زمان ومكان طالما كان حب الخير يسكن قلوباً تعيش بيننا، وليتنا نحرص دائماً على أن يبقى بيننا من يحب أن يكون جابراً لعثرات الكرام، ومن يتفقد إخوانه وأهله وأحبابه وسائر من يعرف أو حتى من لا يعرف لرسم إبتسامة على وجوههم أو إسماعهم من طيب الكلام، أو جبر خاطراً لهم قد إنكسر أو قلباً بالألم قد إعتصر.